في تمام الساعة العاشرة صباحا، شنت ست طائرات سلسلة من الغارات المتتالية على عدد من المباني التابعة لهياكل منظمة التحرير الفلسطينية في مدينة حمام الشط. وفيما لم تستغرق العملية سوى بضعة دقائق، خلفت وراءها أضرارا جمة. فعلاوةً على الموتى والجرحى، قُدرت الأضرار المادية بحوالي 6 ملايين دينار. وكان القصف ينم عن معرفة دقيقة بالمكان، إذ لم يستهدف إلا المنازل والمباني التي تأوي أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية أو مكاتبها، فعمد إلى محق معظمها*.
ورغم دقتها، إلا أن العملية التي استهدفت في البداية اجتماعا لإطارات المنظمة بحضور رئيسها ياسر عرفات، فشلت في إصابة هدفها. ذلك أن الاجتماع المقرر في الساعة العاشرة صباحا تأخر لموعد لاحق بسبب تخلّف إطارات المنظمة القادمين من الخارج عن بلوغ تونس في الوقت، بينما كان ياسر عرفات حاضرا في موكب تكريم رئيس الوزراء التونسي السابق عبد الله فرحات في القصبة.
حدث القصف عقب تهديد توجه به رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز الذي نعت منظمة التحرير الفلسطينية وياسر عرفات بالإرهاب وتوعد بالانتقام لمقتل 3 مواطنين إسرائيليين في قبرص يوم 25 سبتمبر من السنة ذاتها (وهي عملية لم تتبناها منظمة التحرير الفلسطينية). وكانت منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك كيانا منفيا ومشرذما بين عدد من البلدان العربية، إذ طردتها قوات الاحتلال الإسرائيلية عند اقتحامها جنوب لبنان في صائفة 1982 فلجأت إلى تونس وجعلت مقرها فيها*.
"نحن شعب ألِف الصمود"
مذبحة عاثت فسادا في حمام الشط :
"هنا كوم تراكمت فيه شظايا حديد وألواح خشبية واسمنت وحطام وكراسيّ وبقايا أجهزة إلكترونية... وهناك أجزاء صحف ووثائق مبعثرة وسيارات محترقة وأنقاض تغطي سطح الأرض [...]. وبين الأنقاض، تظافرت جهود الأطباء والممرضين والجنود وأعوان الأمن والحرس الوطني والحماية المدنية وفرق الإنقاذ [...] لاجتثاث الأشخاص العالقين في أكوام الحطام [...]. وملأ الجوَّ صفير سيارات الإسعاف وأزيز السيارات ودوي الجرافات وأوامر القادة." (صحيفة "لابراس"، 2 أكتوبر 1982).
من شدة هول الصدمة، تحول أحد مباني منظمة التحرير الفلسطينية إلى هوة عميقة مُترعة ماءً وكأنها بئر*.
"جلس العديد من الفلسطينيين إلى ظل شجرة يعددون ضحايا الاعتداء. فترى بعضهم يذرف دمعه، وبعضهم الآخر يخفي إصاباته وراء اللفائف والضمادات، وكلهم [...] يساهمون في تقديم الإسعافات الأولية وسط الأنقاض والسيارات المحترقة. وأفادنا طبيب على عين المكان بأنه قد عُثر على عدد من الأجساد المقطوعة الرأس أو الجذع بعد نصف ساعة من القصف." (صحيفة "لو تون"، 2 أكتوبر 1982، من أقوال الصحفي).
"قطّع الأجواءَ صراخ الضحايا وعويلهم، وأغمي على عدد من الأشخاص بمجرد رؤية الجثث والجرحى." (صحيفة "لو تون"، 2 أكتوبر 1982، من أقوال مصوّر ياسر عرفات).
"عندما حللنا بالمكان، كان في انتظارنا مشهد تهتزّ له القلوب : جثث متراكمة على الأرض، بعضها ممزق إرباً إرباً أو حتى مقطوع الرأس. فلا سبيل للتعرف على جنسية الضحايا وهويتهم. كان معظمهم من الشبان. إنه حقا لمشهد مريع." (صحيفة "لو تون"، 2 أكتوبر 1982، من أقوال ممرض*).
أما الضحايا من التونسيين والتونسيات، فكان معظمهم من أعوان الأمن، وبعضهم من النساء المكلفات بتنظيف مختلف مكاتب المنظمة ومساكن أعضائها.
وهُدمت، في الإجماع، أربعة مبان : مقر القوة 17 (الحرس الرئاسي)، وأحد منازل ياسر عرفات*، ومكتب الاتصالات السلكية واللاسلكية، ومرفق الاحتجاز حيث تحتفظ المنظمة بسجناءها. ويُقال إن هؤلاء لقوا مصرعهم خلال القصف.
وبين أنقاض الحجارة الغبراء، شق أحد صحفيي "الطريق الجديد" (صحيفة معارضة يسارية) طريقه نحو السجن السابق وقال : "نجد سجنا حتى لدى الثوريين." ثم استأنف قائلا :
"هنالك صورة ستظل ماثلة في ذهني متى حييت : ساقٌ تنتصب أمام البحر، ساق سجين حاول الفرار عندما شعر بالجدران تنهار حوله تحت وطأة القصف، ولكن لم تفلت إلا ساقه." (صحيفة "الطريق الجديد"، 5 أكتوبر 1985).
وأتى ياسر عرفات برفقة حراسه على الساعة الأولى والنصف بعد الزوال لمعاينة الأضرار، وتواصلت عمليات الإسعاف إلى ساعة متأخرة من بعد الظهر*.
وعلى الرغم من عمق الأسى، توجهت امرأة فلسطينية إلى الصحفيين والصحفيات قائلة في عزم ثابت :
"يستغرب العدو حينما يرانا ننهض من تحت الأنقاض بروح جديدة. وصحيحٌ أننا لا نملك ما يملكون من أجهزة حربية، ولكننا شعبٌ ألِف الصمود." (صحيفة "الطريق الجديد"، 5 أكتوبر 1985)
"إرهاب برعاية الدولة"
وبينما تحدثت الصحف عن القصف في اليوم التالي بوصفه "غارة وحشية" و"إرهابا ترعاه الدولة" و"ضربا من النازية"، تسترت الإذاعة والتلفزة التونسية عنه يوم حدوثه. فبحكم مساهمة الولايات المتحدة الأمريكية في اقتراف العدوان الإسرائيلي، يُعَد الخبر صعب التناول في تونس، لا سيما وقد ساندتها القوة الأمريكية مساندة لامشروطة في الآونة الأخيرة أمام تهديدات الجيش الليبي*.
ولكن الطائرات الحربية التي أطلقها الجيش الإسرائيلي للهجوم على حمام الشط كانت من بين عشرات الطائرات التي أتاحتها الولايات المتحدة الأمريكية لحليفها (وقد سبق ووظفت إسرائيل تلك الطائرات من صنف إف-16 في غارة شنتها على مفاعل نووي في العراق يوم 7 جوان 1981). وعلاوة على ذلك، شقت الطائرات القاذفة للقنابل طريقها من تل أبيب إلى تونس دون أن تعترضها أي عوائق، ما يبين أن المجال كان مفتوحا أمامها على الرغم من تواجد الأسطول الأمريكي في منطقة المتوسط. ثم يبدو أن القاذفات الإسرائيلية تزودت بالوقود لدى طائرات أمريكية اعترضت سبيلها. وأخيرا، وصف الرئيس الأمريكي "رونالد ريغان" الاعتداء العسكري على الأراضي التونسية بمجرد "دفاع مشروع عن النفس" وصرح بمساندة الولايات المتحدة الأمريكية مساندة تامة لهذا القصف، على الرغم من خرقه للقانون الدولي.
أحدث كل ذلك بلبلة في صفوف الحكومة التونسية التي لم تشكك في دعم الولايات المتحدة الأمريكية من ذي قبل، الأمر الذي ترك وسائل الإعلام الرسمية التونسية في حيرة من أمرها يوم غرّة أكتوبر عن كيفية تداول المعلومة كاملة.
أما صحف المعارضة، من قبيل صحيفة "الطريق الجديد"، فقد نددت بهذا الأسلوب الإعلامي ووصفته بالسطحي. وفي غرّة أكتوبر، عندما تناولت الإذاعة والتلفزة التونسية أخبار الساعة الأولى بعد الزوال، لم تكشف عن هوية الطائرات الحربية وتسترت عن الموقف الأمريكي من هذا الاعتداء. وما كان لصحف المعارضة إلا أن تسخر من محتوى برامج القناة الوطنية قائلة :
"الساعة 11 : برنامج موسيقي؛ الساعة 12 : موجز أخبار، لا شيء عن الاعتداء؛ الساعة 13 : هجوم طائرات مجهولة الهوية على حمام الشط وقصفها، دون المزيد من التفاصيل؛ الساعة 20 : تعلن نشرة الأخبار عن هوية القاذفات وتحمل المسؤولية كاملة للمجتمع الدولي ولا سيما البلدان الصديقة لإسرائيل، دون ذكر الولايات المتحدة، ونددت النشرة بدعم دول أخرى على غرار إيطاليا أو فرنسا."
وفضلا عن تعقد العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، أُبقي على التونسيين·ـات في ظلمات الجهل طيلة ساعات عديدة بسبب قيلولة الرئيس بورقيبة :
"ولكن بما أن الخبر يُعد من المستجدات البالغة الأهمية، فكان ينبغي عرض النص على رئيس الوزراء، على غرار ما كان يُفعل في الماضي. وتمادى هو الآخر في الحذر لدرجة أنه طلب موافقة رئاسة الجمهورية. وفي الأثناء، هطل على الوكالات الصحفية وابل من البرقيات الإخبارية تُعلن فيها تل أبيب مسؤوليتها عن الاعتداء. [...] كان ذلك في أواخر عهدة بورقيبة، ولم يجرؤ أحد على التكفل بزف الخبر السيء إليه. فبعد أن اتفقوا على النص، توجب عليهم انتظار فراغ الرئيس من قيلولته ليعرضوه عليه. وبينما كان العالم بأسره منغمسا في حدث ذاك اليوم، ظل التونسيون·ـات جاهلين·ـات بما حدث في عقر دارهم·ـنّ من أحداث حاسمة، بما أن الإذاعة والتلفزة سايرتا الوكالة الرسمية ولم تنبسا بكلمة عن الموضوع. ولم يُنشر الخبر إلا على الساعة الخامسة مساء، أي بعد أن أفاق بورقيبة من قيلولته، ونُشر بأسوأ طريقة ممكنة [...]. لا ريب في أن ذلك كان أبشع فشل في مسيرة وسائل الإعلام التونسية."*
"حداد واستنكار"
في ظل شح المعلومات وتوتر العلاقات بين تونس وليبيا، ظن كُثر في بداية الأمر أن ليبيا هي التي ارتكبت هذا الاعتداء. وعندما كُشف النقاب عن مصدر الاعتداء، نزل الخبر كالصاعقة على الناس.
تتذكر المناضلة النسوية آمال بن عبا -التي شهدت قدوم أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1982 في بنزرت- أنها حين تلقّت خبر قصف حمام الشط برفقة صديقها الرسام الفلسطيني وعضو المنظمة، أُصيبت بنزيف حادّ من وقع الصدمة : "لقد سال دمي من شدة تأثري. كيف أمكن لهم أن يفعلوا شيئا من هذا القبيل ؟ لم يكن بوسعي تحمل هول الحادثة"، مثلما جاء في أقوالها خلال لقاء جمعها بانكفاضة.
أما في أوساط الصحافة المعارضة، فقد أثارت دقة ذاك الهجوم الفتاك الدهشة :
"تحوم تساؤلات عديدة حول مدى تغلغل الاستخبارات الصهيونية والأمريكية في بلادنا، وحول فعالية دوائر الاستخبار الخاصة بنا عندما يتعلق الأمر بمراقبة أطراف أخرى غير المعارضين التونسيين." (صحيفة "الطريق الجديد"، 5 أكتوبر 1985)
ثم بدأ موقف الحكومة ووسائل الإعلام التونسية من تلك المذبحة يتضح بين غضبٍ وتنديد. ففي اليوم التالي، أدانت الحكومة التونسية العملية ووصفتها بأنها تخالف "قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة"، وأشارت إلى أن "تونس لن تحيد عن دعمها المتواصل لكافة القضايا العادلة." (صحيفة "لابراس"، 2 أكتوبر 1985). وفي هذا الصدد، سمحت الدولة بسير مظاهرات ضد الاعتداء :
"أكد المتظاهرون تضامن الشعب التونسي الفعال مع الشعب الفلسطيني في نضاله المشروع ضد القمع الإسرائيلي. وسارت المظاهرات في كامل الهدوء، دون الحاجة إلى تدخل وحدات الأمن." (صحيفة "لو تون"، 5 أكتوبر 1985)
ولكن عندما تطرقت صحف المعارضة إلى تلك الأحداث، جردتها من الطابع الشاعري الذي قدمته الرواية الرسمية في وصفها مشهد اللُّحمة الشعبية ذاك.
أفادت صحيفة "الطريق الجديد" بقيام حراكٍ طلابي للاحتجاج على صمت الحكومة في اليوم الموالي للاعتداء. إذ اجتمع حوالي 2000 متظاهر ومتظاهرة في حي الباساج (وسط المدينة بتونس العاصمة)، بينما انطلقت مظاهرة أخرى من المدينة العتيقة مع حضور يبدو مكثفا لأعوان الأمن. ووفقا لما ورد في الصحيفة، تركّز حشد أعوان وحدات التدخل حول المركز الثقافي الأمريكي [وكان يقع آنذاك في ملتقى شارع فرنسا ونهج جمال عبد الناصر]. كما اندلعت احتجاجات للطبقات الشغيلة والشيوعية وغيرها في مناطق أخرى من البلاد مثل قابس أو الساحل، فضلاً عن مظاهرة نظمتها المركزية النقابية للاتحاد العام التونسي للشغل.
وفي يوم 5 أكتوبر، نظمت مناضلات من النواة الأولى لجمعية النساء الديمقراطيات مسيرة "حداد واحتجاج". وانطلق من شارع الحبيب بورقيبة موكب من المناضلات في لباسهن الأسود يمشين على مهل "وفي صمت رهيب"، ويحملن شعارات وأعلاماً تونسية وفلسطينية. وقيل أن الشرطة مزقت تلك الأعلام واستخدمت هراواتها لتعنيف المتظاهرات (صحيفة "الطريق الجديد"، 12 أكتوبر 1985).
وتزامنت هذه المسيرة مع يوم دفن ضحايا القصف. وقد استحوذت السلطات العامة على هذا الحدث نوعا ما، وفقا لما ورد في الصحيفة المستقلة "الرأي" :
"لم يكن موكب دفن ضحايا الغدر الأمريكي-الصهيوني في المستوى الذي تتطلبه جسامة الحدث وعظيم المصاب، فقد مُنع دخول الحشود إلى مكان الغارة التي انطلق منها الموكب كما مُنع دخول الصحفيين [...] إلى مقبرة حمام الانف. وقد قام بعض رجال الأمن بسد الممر خلف السيارات التي تنقل الشهداء [...]. وفي ظل الضغط الهائل وإصرار الناس، استطاع بعضهم التسرب قبل أن يعترضهم حاجز جديد كان ينتظرهم عند الباب الرئيسي للمقبرة الذي غُلّق بعد بمجرد مرور توابيت الشهداء والشخصيات الرسمية* [...]. وطُلب فور الانتهاء من مراسم الدفن من كامل السيارات التونسية والفلسطينية الحاملة للأعلام الفلسطينية وصور ياسر عرفات أن تزيلها وتستأنف 'وضعها العادي'." (صحيفة "الرّأي"، 6 أكتوبر 1985)
وبينما حرصت أجهزة الدولة الاستبدادية على ردع التظاهر بشأن كل ما يتعلق بالمسائل الوطنية، أفسحت المجال لمسيرات التضامن مع فلسطين مع مراقبتها عن كثب. وغدا الدفاع عن "القضية" في موضع موازنة دقيقة بين السماح بالاحتجاج والتحكم فيه. وكانت الدولة تسمح بممارسة النضال لصالح القضية الفلسطينية، بل وتتبناه، إذ كان يبدو خالياً -في الظاهر- من أي تأثيرات مباشرة على الإقليم الوطني. ولكن لم تصمد تلك الموازنة أمام فاجعة غرّة أكتوبر 1985، عندما اجتاح الشأن الفلسطيني الإقليم الوطني فجأة وانتصب كمسألة مركزية.
تقدمت تونس إلى الأمم المتحدة بشكوى لانتهاك سيادتها وسلامة أراضيها. وأسفرت المفاوضات عن القرار 573، حيث "يدين [مجلس الأمن] بشدة العدوان المسلح الذي ارتكبته إسرائيل ضد الأراضي التونسية في انتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي وقواعد السلوك". أما الولايات المتحدة الأمريكية، فقد امتنعت عن التصويت.
وعقب اعتداء حمام الشط، تراجع حضور منظمة التحرير الفلسطينية في تونس على نحو ملحوظ. فبعد إدانته دون اتخاذ أي إجراءات، ما كان من الكيان الصهيوني إلا أن يعيد الكرة. ففي يوم 12 أفريل 1988، اغتيل أبو جهاد (قائد الجناح العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية) في مسكنه بسيدي بوسعيد على مرأى ومسمع زوجته وأبنائه. وكشف الأطباء الشرعيون عن 75 أثراً لطلقات الرصاص على جثمان الضحية.
وحين تولى زين العابدين بن علي منصب رئيس الجمهورية، توتّرت علاقة البلاد مع المنظمة باطّراد، إلى أن انتهى بها الأمر بمغادرة تونس في شهر جوان 1994.