"الله أكبر" على أبواب ألمانيا النازية: تاريخ الفوج الرابع للمشاة التونسيين، بين المجد والنسيان

في مدينة شتوتغارت بألمانيا، كان الفوج الرابع للمشاة التونسيين يطوي آخر صفحات الحرب بعد سلسلة من الملاحم خاضها رجاله في فرنسا وتونس وإيطاليا. أُنشئ الفوج سنة 1884 لخدمة النظام الاستعماري الفرنسي، وقد عُدّ هذا "الفوج النخبة" أحد أكثر وحدات الجيش الفرنسي تكريمًا، ولعب إلى جانب باقي فصائل المشاة دورًا حاسمًا في تحقيق نصر سنة 1945. ثم بعد الاستقلال، ساهم كثير من أعضائه في تأسيس الجيش التونسي.
بقلم | 08 ماي 2025
13 دقيقة
الصورة باهتة وقديمة ويبدو أنها ملتقطة في خضمّ المعركة، ومع ذلك يمكن تمييز مجموعة من الجنود يحملون علمًا نازيًا بأيديهم. "والدي هو الموجود على أقصى اليمين" يقول نجيب العابد، مشيرًا بفخر إلى أحد الجنود في الصورة: الوكيل الأول أحمد العابد الذي خُلّد في هذه الصورة يوم 17 مارس 1945 بمدينة بيشفيلر بالألزاس، حين كان يشارك في القتال ضدّ ألمانيا النازية.

دوّن نجيب مذكّرات والده في كتاب يحمل عنوان شمس على منحدرات الجحيم، فعل ذلك "حتى لا ننسى" وفق قوله. ينتمي جميع الجنود الذي يظهرون في الصورة إلى الفوج الرابع من المشاة التونسيين (4ᵉ RTT)، إحدى أكثر الوحدات تكريمًا في الجيش الفرنسي خلال الحربين العالميتين. وبعد يومين من السيطرة على بيشفيلر، غدا أحمد العابد أيضًا أول جندي من الجيش الفرنسي تطأ قدمه الأراضي الألمانية.

ورّث أحمد العابد هذه الصورة لابنه نجيب ووصفها له بهذه الكلمات: "شوف، هذا أنا على اليمين بالباكيتة.. نحبها برشا التصويرة أما خسارتها مضبّبة.. كنا فرحانين برشا وقتلّي خطفنا العلم هذا متاع الصليب المعقوف."
وصف الـتنويه العسكري* الممنوح للوكيل الأول أحمد العابد في جوان/يونيو 1945 عمله البطولي بهذه الكلمات: "إنه قائد فصيلة رائع. وقد قادها في يوم 19 مارس 1945 في اندفاعة مذهلة لاقتحام قرية شايبنهارد، التي كانت تحت سيطرة وحدة من قوات 'إس إس' النازية، وساهم بذلك في إنشاء أول رأس جسر على الأراضي الألمانية."

تأسّس الفوج الرابع للمشاة التونسيين في شهر ديسمبر 1884 أي بعد عامين من فرض الحماية الاستعمارية الفرنسية على تونس وظلّ في الخدمة دون انقطاع حتى مرحلة ما بعد الاستقلال. تم نشر الفوج –بوصفه وحدة استعمارية بامتياز، في مهام "التهدئة" إلى أنحاء مختلفة من الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية من أجل قمع الانتفاضات وخاصة في المغرب منذ سنة 1907. وخلال الحرب العالمية الأولى، وبالاشتراك مع مئات الآلاف من جنود المستعمرات، برز المشاة التونسيون من الفوج الرابع عند مشاركتهم في أعنف معارك الحرب، خاصة تلك التي اندلعت في فردان وطريق السيّدات (Le Chemin des Dames) بفرنسا. ومع قرب نهاية الحرب الكبرى، نال الفوج أوسمة كثيرة، من بينها وسام "الصليب الحربي" ووسام "جوقة الشرف"، ووُصِف مرارًا بـ "الفوج النخبة" في ستّ تنويهات صدرت لصالحه في سجل الجيش الفرنسي.

مقدّمة كتيّب "حملة 1914-1918 – التاريخ الميداني للفوج الرابع من المشاة التونسيين"، الذي أعدّته قيادة الفوج في فيفري/فبراير 1918 بينما كان الجنود لا يزالون على الجبهة.

في ثلاثينات القرن الماضي، وبينما كانت طبول الحرب العالمية الثانية تُقرع، كان الفوج الرابع من المشاة التونسيين قد أصبح وحدة عسكرية مزوّدة بالأوسمة ومعروفة ببطولاتها القتالية. لم يكن الفوج منذ تأسيسه لخدمة الإمبراطورية الاستعمارية يعلم بعدُ أنه سيكون في الصفوف الأولى لصدّ غزو الجيوش الفاشية في إفريقيا وتحرير أوروبا من الاحتلال النازي. غير أن ترسيخ هذا المسار البطولي داخل الذاكرة الجماعية، صار صعبا في ظلّ التردّد السائد بشأن تمجيد الجيش الاستعماري، سواء في تونس أو في فرنسا.

بين متطوّعين ومجندين... وحدة استعمارية نموذجية

عند تأسيس الفوج سنة 1884 اتخذ من سوسة مقرًا رئيسيًا له وتحديدا في الثكنة المقابلة للمدينة العتيقة. وظهرت وحدات ممثالة على امتداد الحقبة الاستعمارية، أُنشئت ثم أُعيد تشكيلها أو حُلّت حسب متطلبات الجيش الفرنسي المتغيّرة، وقد بلغ عدد أفواج المشاة التونسيين تسعة أفواج خلال فترة الحماية الاستعمارية. وكان المستوطنون الفرنسيون يخضعون للتجنيد الإجباري تمامًا مثل نظرائهم في "فرنسا الأم"، بينما يخضع التونسيون لنظام الفرز والقرعة حسب الفئة العمرية ابتداءً من سنّ 19 عامًا. وازداد عدد المجندين تدريجيًا خلال فترة ما بين الحربين، مع تصاعد التوترات في أوروبا، من 686 جنديا من حصة سنة 1922 إلى 1532 مجندًا سنة 1939، وصولًا إلى نحو 2000 سنة 1940.

السرية الخامسة من الفوج الرابع للمشاة التونسيين في سوسة، سنة 1935 – التقطها المصوّران H. Tourte و M. Petitin، من محفوظات "أرشيف ما وراء البحار"، وأعاد نشرها المؤرخ Christophe Giudice في كتابه “Les anciens combattants marocains et tunisiens de l’armée française”، ضمن مؤلّف جماعي بعنوان Autour des morts de guerre، من تحرير Raphaëlle Branche وآخرون، ضمن منشورات جامعة السوربون، 2013.

في صفوف الفوج الرابع كما في غيره من أفواج المشاة، كانت نسبة معتبرة من الجنود يتم تجنيدها طوعًا. فقد اجتذبت الخدمة العسكرية الكثير من الشبان المنحدرين من أوساط فقيرة طمعًا في الأجر. يوضح المؤرخ كريستوف جوديس، الأستاذ المختص في تاريخ المغرب الكبير خلال الحقبة الاستعمارية أن "الراتب آنذاك كان يفوق بأربع أو خمس مرات ما كان يجنيه الفلاحون في ذلك الوقت".

كما استهوت المغامرةُ وهيبةُ البزّة العسكرية العديد من الشبان، وكان المجنِّدون الفرنسيون يحرصون على الترويج لهذه الصورة. ومن بين هؤلاء الشبان، أحمد العابد، المنحدر من عائلة فقيرة بجهة مساكن، والذي قُدّمت له استمارة تجنيد بينما كان بصدد زيارة باخرة حربية راسية في ميناء سوسة بمناسبة الذكرى الخمسين للحماية الفرنسية.

ينقل نجيب عن أبيه أحمد العابد قوله: "شعرنا في طريق العودة كأن شيئا ما يتحرك داخلنا.. أحسسنا وكأننا لنا قيمة وأننا كبار، خصوصا في ذلك السن ونحن قادمون من دوّار".

كانت الوحدات الاستعمارية مثل أفواج المشاة تُعيد توظيف رموز محلية لغوية ودينية. وكان شعار الفوج الرابع من المشاة التونسيين حمل عبارة "في أمان الله". كما حظي الفوج كباقي وحدات المشاة الشمال أفارقة بـ "نوبة" عسكرية – وهي فرقة موسيقية تستعمل آلات موسيقية تقليدية مثل الزكرة والطبل. غير أن هذا الجانب الفولكلوري كان يعيد إنتاج المخيال الاستعماري، دون أن يُلغي التمييز القائم بين الفرنسيين والتونسيين حيث  "كان الضباط في غالبيتهم من الأوروبيين"، يقول الباحث جوديس، مضيفا أن "ترقيات التونسيين كانت نادرة وقليلاً ما كانت تتجاوز رتبة نقيب".

شعار الفوج الرابع للمشاة التونسيين: "في أمان الله"

في سبتمبر 1939، ومع دخول فرنسا حرباً مع ألمانيا، كان الفوج الرابع من المشاة التونسيين متمركزًا على خط مارث الدفاعي في الجنوب التونسي. تم إرسال الفوج بعجالة إلى فرنسا في ماي/مايو 1940 تزامنًا مع اختراق القوات النازية لدفاعات الحلفاء واقترابها من باريس. يقول الجنرال الفرنسي إريك دو فلوريان، القائد السابق للفوج الأول من المشاة، إن الفوج الرابع "وصل إلى فرنسا بكامل تعداده الحربي: 72 ضابطًا، و3235 وكيلًا وضابط صفّ ورامٍ". وقاتل التونسيون إلى جانب بقية وحدات الجيش الفرنسي في الدفاع عن منطقة باريس، لكنهم اصطدموا مباشرة بالقوة الساحقة للهجوم الألماني.

أُجبر الجنود على التراجع تدريجيًا نحو نهر اللوار، بينما تولّى المارشال بيتان السلطة في فرنسا ودعا إلى وقف القتال يوم 17 جوان/يونيو. يضيف الجنرال دو فلوريان أن "الفوج الرابع في ذلك الوقت لم يكن يضم سوى 10 ضباط، و22 ضابط صف، و318 رامٍ ووكيل"، مما يعني أن الفوج قد خسر خلال أسبوعين فقط 90% من قوّاته.

في أعقاب الهدنة، خضعت القوات الفرنسية لسلطة نظام فيشي الفاشي الذي وقّع اتفاق وقف إطلاق النار مع ألمانيا وإيطاليا. وأُعيد إرسال الفوج الرابع إلى تونس حيث استأنف تمركزه في ثكنة سوسة.

تحرير تونس وإيطاليا بالدم

كانت الطمأنينة السائدة تونس في تلك المرحلة نسبية فحسب. إذ كان الحلفاء في ليبيا ومصر يخوضون معارك ضارية ضدّ الإيطاليين وفيلق إفريقيا التابع للجيش الألماني. ثم وفي يوم 9 نوفمبر 1942، نفّذ الأمريكيون إنزالًا مباغتًا على شواطئ المغرب والجزائر – اللتين كانتا تحت سيطرة قوات نظام فيشي.

وجدت تونس نفسها محاصرة بين جبهتين وسادت أجواء من الارتباك. يتذكر أحمد العابد على لسان ابنه أن "السلطات المحلية كانت مترددة ولا تدري إن كانت ستدعم الحلفاء أم لا"، ويضيف أنه تلقّى عدة "أوامر وأوامر معاكسة" بين 10 و16 نوفمبر 1942.

يروي أحمد العابد لابنه إن "مذلّة عام 1940 كانت لا تزال حية فينا وكان تدفعنا رغبة في الإنتقام تتعاظم بمرور الوقت".

في نهاية المطاف، تلقّى الفوج الرابع أثناء تمركزه في تبرسق (شمال غرب البلاد) أمرًا بالالتحاق بالقوات البريطانية والأمريكية التي كانت بصدد عبور الحدود، في الوقت الذي كانت فيه التعزيزات الألمانية والإيطالية تنزل في شمال البلاد. يوضح الجنرال دو فلوريان أن "جميع قوات فيشي في شمال إفريقيا التحقوا بالحلفاء، باستثناء القوات الفرنسية المتمركزة في بنزرت والتي سلّمت نفسها للألمان".

اندلعت بعد ذلك معارك عنيفة من أجل السيطرة على تونس، كان المشاة من الفوج الرابع في أحيان كثيرة مقطوعين عن عائلاتهم التي كانت تعيش في مناطق تحت احتلال القوات الألمانية. ولم يتمكّن أحمد العابد آنذاك من العودة إلى سوسة إلا بعد تحرير المدينة في شهر أفريل/أبريل.

سقطت العاصمة تونس في أيدي الألمان في شهر ماي/مايو إثر استسلام فيلق إفريقيا (آفريكا كوربس) والجيش الإيطالي. وفي صيف 1943، أطلق الحلفاء غزوهم المتتالي لجزيرة صقلية ثم إيطاليا بهدف تحرير جنوب أوروبا.

أعاد الفوج الرابع تكوين صفوفه وتلقّى تجهيزات أمريكية. يتذكر أحمد العابد على لسان ابنه "اللباس، الأسلحة، والمعدّات التي كانت جديدة بالكامل". وصل المشاة إلى نابولي الإيطالية انطلاقًا من ديسمبر 1943، وشاركوا في المعارك العنيفة من أجل السيطرة على خط غوستاف، وهي سلسلة من التحصينات المشيّدة في الجبال وكانت تؤمّن الطريق إلى روما.

جنود أمريكان من الفرقة العاشرة الجبلية يتقدّمون داخل أنقاض بلدة "كورونا"، أسفل ممرّ بلفيدير، في الليلة الفاصلة بين 19 و 20 فيفري/فبراير 1945.

قاتل الفوج الرابع من المشاة التونسيين جنبا إلى جنب مع القوات الأمريكية والبريطانية إضافة إلى وحدات استعمارية أخرى، كثير منها كان من المشاة الشمال أفارقة. يوضح كريستوف جوديس أن "الطبيعة الجغرافية للمعارك كانت صعبة للغاية، فالتضاريس وعرة والمقاومة الألمانية شرسة واستعادة إيطاليا كانت بطيئة جدًا".

قاتل الفوج الرابع من المشاة التونسيين جنبا إلى جنب مع القوات الأمريكية والبريطانية إضافة إلى وحدات استعمارية أخرى، كثير منها كان من المشاة الشمال أفارقة. يوضح كريستوف جوديس أن "الطبيعة الجغرافية للمعارك كانت صعبة للغاية، فالتضاريس وعرة والمقاومة الألمانية شرسة واستعادة إيطاليا كانت بطيئة جدًا". وفي جانفي/يناير 1944، أودت معركة ممرّ بلفيدير بحياة عدد كبير من الجنود من بينهم الكولونيل جاك رو، قائد الفوج.

يكتب شارل ديغول في مذكّراته*: "في هذا الموقع الذي تمت السيطرة عليه ثم فقدانه ثم استرجاعه مرارًا، حقّق الفوج الرابع من المشاة التونسيين واحدة من ألمع البطولات العسكرية في الحرب ودفع في ذلك خسائر جسيمة".

تمكّن الحلفاء في نهاية المطاف من فرض سيطرتهم واستولوا على روما وفتحوا جبهة ثانية في فرنسا من خلال إنزال نورماندي في جوان/يونيو 1944. ومع نهاية حملة إيطاليا، سقط ما يقارب 1000 جندي من الفوج الرابع بين قتيل ومفقود، وأُصيب ضعف ذلك العدد تقريبًا. ومع ذلك كان الفوج على موعد مع دخول فرنسا عبر إنزال بروفانس في أوت/أغسطس 1944.

بناء الرمزية من فرنسا إلى ألمانيا

حتى وإن كانت المعارك الحاسمة لتحرير فرنسا قد دارت بالأساس في الشمال فإن إنزال بروفانس كان محطة مفصلية من حيث رمزيتها. يشرح جوديس: "إنها فكرة فرنسا التي تحرّر نفسها بنفسها، انطلاقًا من شمال إفريقيا مرورًا بالجنوب، رغم أن تلك القوات كانت في الحقيقة تتكوّن بدرجة كبيرة من وحدات من المستعمرات".

غلاف كتاب "ملحمة الفوج الرابع من المشاة التونسيين"، يُرجّح أنه من تأليف جنود قدماء فرنسيين وتم نشره بعد الحرب. مؤسسة بونيتشي، 53 نهج كورسيكا تونس، تاريخ الطبعة مجهول

ومع ذلك، لم يكن انخراط الفوج الرابع في هذه الحملة مجرّد تمثيل رمزي. بين أكتوبر 1944 ومارس 1945، شارك المشاة في معارك متتالية من أجل تحرير منطقة فوج و موزال، ثم ستراسبورغ والألزاس السفلى، وسط برد قارس ومواجهات عنيفة. وأُعيد تعزيز صفوفهم بجنود احتياطيين كانوا قد بقوا في إفريقيا خلال حملة إيطاليا، ومن بينهم الوكيل الأول أحمد العابد.

يروي أحمد العابد لابنه: "كانت القذائف تنفجر من كل جانب والرصاص يدوّي في كل اتجاه... ومع ذلك كان بعض المشاة إلى جانبي يمازحون بعضهم البعض: ‘سمعتها؟’ يسأل أحدهم، فيرد الآخر: 'أي نعم صوتها كي صوت عصفور السطح’. صحيح أننا كنا نمتلك الإيمان لكن الادعاء بعدم الخوف سيكون مجرّد كذبة".

في شهر مارس 1945، وبعد عبور الأمريكيين نهر الراين في ريماجن، كان الجيش الفرنسي يستعد بدوره لاجتياز الحدود الألمانية. بينما أُرسل الفوج الرابع إلى بلدة شايبنهارد وتلقّت فصيلة أحمد العابد الأمر بالتمركز في موقعها رغم قصف العدو.

يقدّر نجيب العابد: "أعتقد أنهم أرادوا أن يكون أول من يدخل ألمانيا جنديًا فرنسيًا". لكن والده رصد نقطة ضعف في دفاعات العدو، وأمر رجاله بعبور النهر بسرعة نحو الضفة الأخرى التي تفصلهم عن ألمانيا. وقد روى لابنه بعد ذلك كيف كان "الإغراء أقوى من أن يُقاوَم، ورغبة الدخول إلى ألمانيا كانت تنهشني نهشاً".

نجحت العملية، وبدأ المشاة التونسيون في تمشيط القرية الألمانية بيتًا بيتًا.

يروي أحمد العابد: "حين وطئت أقدامنا الأراضي الألمانية كان المشاة يهتفون ‘الله أكبر’. تقدّمنا نحو المباني الثلاث الأولى ونحن نصرخ ‘قنابل، قنابل!’ بأعلى صوتنا.. عنصر المباغتة كان حاسمًا.. لم يكن الألمان يتوقّعون رؤيتنا بهذه السرعة".

بعد هذه المعركة، توجّه الفوج الرابع إلى مدينة شتوتغارت التي سقطت في شهر أفريل/أبريل. وبعد أيّام قليلة من ذلك أقدم أدولف هتلر على الانتحار في مخبئه ببرلين التي كان يحاصرها الجيش السوفييتي، وبذلك وضعت الحرب في أوروبا أوزارها.

يوم 14 جويلية/يوليو 1945، شارك الفوج الرابع في العرض العسكري الذي أقيم في الشانزيليزيه إلى جانب باقي الوحدات من المستعمرات الفرنسية. وكان محمد الأمين باي ضيف شرف الجنرال ديغول في تلك المناسبة حيث قُدّم له أفراد سرية أحمد العابد.

يروي العابد: "نظر إليّ الباي في عينيّ مباشرة وقال لي بالعربية: ‘شرّفتوا البلاد، أنتم فخرنا. نفرح برشا كان نشوف ناس كيفكم في تونس’".
صُورة أخرى لأحمد العابد "في مكان ما من الألزاس على الطريق نحو الحدود الألمانية".

استُقبل المشاة التونسيون في باريس –كما في الألزاس، استقبال الأبطال. يتذكّر العابد كيف "كان المارّة يستوقفوننا ليشكرونا ويطرحوا علينا أسئلة كثيرة". وما يزال ابنه نجيب يتم استدعاؤه بانتظام لحضور احتفالات إحياء ذكرى تحرير بلدة شايبنهارد، حيث "لا يزال الجميع يتذكّر المشاة التونسيين" كما يقول.

واليوم، لا يزال الفوج الأول من المشاة يضطلع بالدور الرمزي المتمثّل في "حفظ تراث 47 فوجًا من المشاة الجزائريين والتونسيين والمغاربة الذين خدموا ضمن تشكيلات الجيش الفرنسي من 1842 إلى 1965"، وفق توضيح الجنرال دو فلوريان الذي يضيف أن "السرية الرابعة تحتفظ بتراث الفوج الرابع تحديدًا وتراث كامل أفواج المشاة التونسيين بشكل عام".

ذاكرة متنازَع عليها

يبدو أن الذاكرة الجماعية الفرنسية حول الجنود القادمين من المستعمرات باتت أكثر ارتباطًا بالجزائريين والمغاربة و "المشاة السنغاليين"*. حتى إن أول فيلم فرنسي يثمّن دور الجنود الشمال أفارقة، وهو Indigènes (2006)، لم يُشر إلى أي مقاتل تونسي. "ربما لأن عدد المغاربة والجزائريين الذين قاتلوا كان أكبر بكثير من التونسيين"، يرجّح جوديس.

أما في تونس، فيذكّر المؤرّخ بأن المشاة كثيرًا ما واجهوا بعد الاستقلال انتقادات تتعلّق بمشاركتهم في "قوات القمع الاستعمارية"، حتى إن الفوج الرابع عاد إلى مهام "التهدئة" بعد فترة قصيرة من هزيمة النازيين في أوروبا، قبل أن يتم إرساله في مارس 1947 إلى الهند الصينية لقمع حركة التحرير الوطني الفيتنامية.

صورة لجنود من الفوج الرابع، التُقطت في الهند الصينية على يد أحمد العابد في يوم عيد الأضحى، أوت/أغسطس 1954 وقد تمّ توقيع الهدنة آنذاك. يروي: "نصبتُ العلم التونسي فوق الخيمة الرئيسية... بينما الكل كان يردّد لنفسه: ‘إلى اللقاء يا تونس الحبيبة، هانا جايين’".

وحتى في تلك الرقعة البعيدة شديد البعد عن تونس، واصل الجنود التونسيون تقديم أداء قتالي لافت، هذه المرة بهدف إعادة تثبيت دعائم الإمبراطورية الفرنسية المنهارة. وفي سنة 1962، تمّ حلّ الفوج الرابع نهائيًا، بينما في الجزائر صارت الأفواج المماثلة تقريبًا مكوّنة من فرنسيين فقط.

يرى نجيب العابد أن إرث الارتباط الاستعماري للفوج الرابع لا يجب أن يحجب الدور الذي لعبه رجاله بعد الاستقلال. فوالده الذي أنهى حرب الهند الصينية برتبة نقيب، التحق في جوان/يونيو 1956 مباشرة بالجيش التونسي حديث الولادة.

يضيف نجيب: "وكما فعل الكْمَاندا البجاوي، حارب والدي جنبا إلى جنب مع الفرنسيين في الهند الصينية، لكنه قاتلهم أيضًا بعد خمس سنوات من ذلك في معركة بنزرت".

ومن جهته، يذكّر المؤرخ جوديس بأن بعض المشاة –في تونس كما في مستعمرات أخرى– "التحقوا لاحقًا بالجبال وأصبحوا من أعيان الفلّاقة" مساراتٌ هي اليوم غائبة عن الذاكرة الجماعية.

يقدّر جوديس إنه "يمكننا القول إن هؤلاء المشاة كانوا ضحايا مرتين، مرة من الاستعمار ومرة أخرى من نظرة الوطنيين إليهم على ضوء مشاركتهم في قوات الاستعمار".

ويضيف المؤرخ أن عودة المشاة إلى أرض الوطن غيّرت في بعض الأحيان موازين الهياكل الاجتماعية: "غالبًا ما اكتسب هؤلاء الرجال هامشاً من الحرية إزاء الدين أو التقاليد والأعراف، وبعضهم عاش الحب في الخارج وتزوج من غير بنات بلده". وعلى الرغم من أن فرنسا جمدت ترقياتهم ومعاشاتهم بشكل غير عادل*، فإن المال الذي تحصلوا عليه منح بعضهم –وكانوا من الفقراء– فرصًا جديدة للارتقاء الاجتماعي، "حتى بات هؤلاء مصدر إزعاج لبورقيبة الذي أراد شعبًا مُنضبطًا ومخلصًا للزعيم الأوحد"، يضيف المؤرّخ.

العقيد سامير شمي، محافظ المتحف العسكري الوطني خلال زيارة إلى مدينة إبينال لدى الفوج الأول من المشاة في الجيش الفرنسي، في جوان/يونيو 2024.

وفي النهاية، التزم كثير من أفراد الفوج الرابع الصمت مثلهم مثل قدماء المحاربين في بلدان أخرى مما ساهم في طمس تاريخهم. يقول جوديس: "الحقيقة هي أن من لم يعش الحرب لن يفهمها أبدًا… لذلك يلتزم المحاربون القدامى بالصمت ويحاولون الانصهار في المجتمع".

أما نجيب العابد فيروي لنا بحرقة أن والده انتظر ليلة وفاته، سنة 2005، حتى يخبر حفيده أنه قتل "ثلاثة ألمان" خلال الحرب. "كنا نظنّ أنه لم يقتل أحدًا"، يهمس نجيب وعيناه مغرورقتان بالدموع، قبل أن يواصل "وهذا يعني أنه حمل السرّ في قلبه طيلة عشرات السنين إلى أن فارقته الحياة".

Inkyfada Landing Image

منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري

أنشئ حسابك الآن وتمتع بميزات النفاذ الحصري ومختلف الخاصيات المتقدمة التي توفرها لك. تحصّل على عضويتك وساهم في تدعيم استقلاليتنا.

منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري. تسجيل الدخول