عندما أُودع وديع الجريء السجن في أكتوبر 2023 إثر شكاية رفعها وزير الرياضة آنذاك، كمال دقيش، خلّف رئيس الجامعة التونسية لكرة القدم فراغًا كبيرًا. وكان جريء يُلقّب بـ"الدكتاتور" من قبل خصومه بعدما راكم نفوذًا هائلًا وصل حدّ التدخل في تعيين المدربين وتحديد تركيبة المنتخبات الوطنية.
غير أن مغادرته لم تُنهِ المنظومة التي أقامها، بل على العكس، لا يزال نفوذه حاضرًا عبر شبكة علاقات واسعة. ورغم تعدد طلباته للتمتع بالسراح المشروط إلا أن السلطة القضائية تواصل رفضها لذلك، ما يعمّق الغموض حول مستقبل كرة القدم التونسية.
كواليس انتخابات مثيرة للجدل
رافق شغور منصب رئاسة الجامعة معركة شرسة للسيطرة على مفاصلها. غير أن المنافسة بين المترشحين لم تقم على برامج إصلاحية واضحة بقدر ما كانت صراعًا على "العرش". تحالفات ظرفية، تدخلات سياسية، وطعون قضائية، كلها عناصر خيّمت على المسار الانتخابي مع بداية سنة 2024، لتغرقه في فوضى غير مسبوقة. لم يُسجّل أي توافق يُذكر، بينما أجهضت الصراعات الأنانية كل محاولة لبناء مشروع جديد. ومع تفاقم الأزمة، تعمق تسييس ملف الجامعة ليغلق الباب أمام أي مخرج حقيقي.
في ظل هذا الفشل الذريع، وتحمّلًا لمسؤوليتها بعد سنوات من التواطؤ الضمني مع إدارة الجريء، تدخلت الفيفا في أوت/أغسطس 2024 لتعيّن لجنة تسيير مؤقتة يرأسها كمال إيدير، الرئيس السابق للنادي الإفريقي ولاعب كرة اليد الدولي سابقًا، بهدف إعادة الجامعة إلى السكة وتنظيم انتخابات نزيهة فعلًا.
لكن المناورات خلف الكواليس لم تتوقّف حتى بعد تشكيل هذه اللجنة وإجراء الانتخابات. ثلاثة مترشحين فقط بلغوا النهائي، من بينهم معز الناصري، الرئيس السابق للجنة الاستئناف، والذي تعرّض لانتقادات واسعة من خصومه بسبب دوره خلال المسار الانتخابي السابق، واتهمه كثيرون باستغلال موقعه لإقصاء منافسين محتملين. وبدعم من حسين جنيّح أحد أبرز وجوه حقبة الجريء، تمكن الناصري من استخدام آليات المنظومة الانتخابية لصالحه، عبر عمل دؤوب مع الأندية والروابط الجهوية مما سمح له بإحكام قبضته على المسار الانتخابي.
وفي المقابل، لم ينجح محمود الهمّامي، رغم سمعته الطيبة وتاريخه المحمود في الأوساط الكروية التونسية، في إطلاق حملة انتخابية فعلية أو نسج تحالفات ذات ثقل ما جعله عاجزًا أمام خصم متمرّس بدواليب الجامعة.
أفرزت صناديق الاقتراع يوم السبت 25 جانفي/يناير 2025 واقعًا يعكس هذه المعادلة إذ فاز معز الناصري بـ247 صوتًا، مقابل 137 صوتًا لمحمود الهمامي، و55 صوتًا لجلال بن تقية، المترشح الثالث. يرى ماجد، مؤسس ومدير موقع tunisie-foot.com منذ 1998، أن المكتب الجديد "كارثة حقيقية" ويقول: "نفس الوجوه غير الكفؤة تعود للواجهة. وديع الجريء حكم لسنوات واليوم رجاله مثل حسين جنيّح ومعز الناصري هم من يمسكون بزمام الأمور".
يضيف ماجد: "نحن نرسكل القديم، وعندما يكون القديم غير كفء، فلا يمكن أن يكون الجديد إلا رديئا".
من بين العوامل الحاسمة الأخرى التي أثرت على نتيجة الانتخابات، يبرز الدور غير المعلن للمغرب، إذ بحسب معلومات تحصلت عليها إنكفاضة، تابعت الرباط عن كثب هذا المسار الانتخابي وقدّمت دعمًا ضمنيًا لمعز الناصري.
الهدف كان واضحًا: الإبقاء على عزلة الاتحادية الجزائرية لكرة القدم ومنع أي تقارب محتمل معها. وفي المقابل، قد تُخصص مساعدات مالية للجامعة التونسية، وهي خطوة ضرورية خاصة بعد أن قلّصت الفيفا آخر منحتها بنسبة 20٪ بسبب خروقات في تعامل الجامعة مع محكمة التحكيم الرياضي (TAS).
هذا النفوذ المغربي تجلّى أيضًا في الأنشطة اليومية للجامعة عبر شركتين لتنظيم المباريات: Africa TMS و Sportedge، اللتين يديرهما التونسي صفوان العايدي بمساعدة معز البراهمي، وهو وكيل لاعبين تونسي حاصل على رخصة من الفيفا. وتعمل هاتان الشركتان معًا منذ سنوات في القارة السمراء، وقد حظيتا بدفع قوي من الجامعة المغربية، إذ قام رئيسها فوزي لقجع شخصيا بالتواصل مع بعض نظرائه لحثّهم على التعامل مع الشركتين، إلى جانب دعم من الجامعة الموريتانية عبر رئيسها أحمد يحيى.
ومنذ انتخاب المكتب الجديد، تلقت الشركتان دعمًا ملحوظًا من الداخل خاصة من طرف الرئيس معز الناصري عبر نائبه حسين جنيّح. ويبدو أن الجامعة التونسية بصدد التوجه نحو شركات بعينها، رغم الجدل الذي يحيط بسمعتها، بالضبط كما هو الحال في عدد من الجامعات الإفريقية المرتبطة بالمغرب (البنين، بوركينا فاسو، جيبوتي، ليبيريا، النيجر، التوغو وغيرها…).
جامعة تترنح على حافة الهاوية المالية
من بين أبرز وعود معز الناصري عند تولّيه رئاسة الجامعة التونسية لكرة القدم، كان الالتزام بإنقاذ الوضعية المالية الكارثية للمؤسسة. لكن وقبل أن يباشر بأي إصلاح يُذكر، وجد الرئيس الجديد نفسه في مواجهة "ركام محاسبي" حقيقي، خلّفته سنوات من التسيير الغامض والإنفاق المبذّر خلال عهد وديع الجريء. إذ ترزح الجامعة تحت أعباء مالية مقلقة ولا يزال عدد من المزوّدين والفنادق وحتى العاملين·ـات فيها ينتظرون مستحقاتهم منذ أكثر من عام ونصف دون جدوى.
تؤكد شهادات جمعتها إنكفاضة أن بعض هؤلاء لم يتحصّلوا مطلقًا على المبالغ الكاملة التي يدينون بها للجامعة. ورغم أن هذه الأخيرة لا تتحمّل مباشرة مسؤولية أجور بعض مدربي المنتخبات الشابة – الراجعين بالنظر إلى وزارة الرياضة – فإن الوضعية المالية العامة للجامعة خطيرة بما يكفي وتتطلب إجراءات عاجلة وصارمة.
عرفت الجامعة خلال رئاسة وديع الجريء تدفّقًا كبيرًا للأموال بفضل المشاركة المتتالية في كأسي العالم 2018 و2022، إضافة إلى دورات مربحة مثل كأس العرب و Kirin Cup. وسجلت المؤسسة في موسم 2022/2023 فائضًا ماليًا تجاوز 22 مليون دينار (حوالي 6.6 مليون أورو)، مع مداخيل بلغت 60.7 مليون دينار.
لكن بعد عام واحد فقط انقلبت المعادلة: تراجعت الإيرادات وارتفعت النفقات بشكل كبير، ما أدى إلى عجز تجاوز 8 ملايين دينار. وانهارت المداخيل بأكثر من 40% دون أي تعديل في المصاريف، لتُغلق السنة المالية على عجز غير مسبوق.
هذا الانقلاب المفاجئ في الوضع المالي يعكس انحرافًا هيكليًا في إدارة الموارد داخل الجامعة التونسية لكرة القدم حيث لم تُعتمد أي استراتيجية للتأقلم مع تراجع المداخيل. ويكشف تقرير تدقيق مالي أُنجز في جوان/يونيو 2024 اطّلعت عليه إنكفاضة عن وجود تجاوزات مقلقة مشيرا بالأساس إلى غياب أي ردود من الأطراف المعنيّة بتأكيد أرصدة الجامعة المالية.

وفعلا عندما حاول المدقّقون التثبّت من الأرقام المحاسبية عبر مراسلة الأندية والمزوّدين والبنوك الشريكة للجامعة لم يتلقَّوا أي رد. وجاء في التقرير أن "رسائل التعميم المتعلقة بتأكيد الأرصدة لم تؤتِ نتائجها" حتى تاريخ إعداد الوثيقة. كما أنّ البيانات المالية لموسم 2022/2023، وإن تضمّنت بعض النفقات المرتبطة بمشاريع هيكلية، إلا أنها كشفت أيضا عن بنود إنفاق مثيرة للريبة منها عنصران يبرزان بشكل خاص هما: نفقات “التموين” و"المصاريف التشغيلية الأخرى" وقد تضاعفا مقارنة بالسنة السابقة.

هذه الفئة الفضفاضة من المصاريف استأثرت بنصيب الأسد من ميزانية الجامعة دون أن تقدم الأخيرة أي تفاصيل توضح طبيعة العمليات المندرجة ضمنها، بحسب ما ورد في الوثيقة. و إلى جانب غياب المصادقة الخارجية على الحسابات، يفتح هذا الغموض الباب أمام تساؤلات جدية حول الشفافية المالية للجامعة.
لكن هذا الغموض المحاسبي لا يمثل سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد، فخلف هذه الأرقام المبهمة تنكشف خيارات إدارية عبثية وانعدام تام للأولويات.
الصحفي الهادي الامام من موقع التشكيلةلخّص الوضع قائلًا إن مدربي المنتخبات الشابة لم يتقاضوا أجورهم، بينما تواصلت التعاقدات على غرار المدرب مهدي النفطي الذي يطالب اليوم بتعويض يُقدّر بـ1.5 مليون دينار أمام محكمة التحكيم الرياضية (TAS).
يضيف الامام: "عندما دخلت الأموال إلى خزائن الجامعة، فضّل معز الناصري صرفها على المدرب الوطني الجديد والمنتخب عوضًا عن تسديد الديون." ويختم بالقول إن "الإدارة كارثية.. ومع حسين جنيّح فإن الوضع أسوأ عشر مرات."
أسباب أزمة مالية خانقة
الوضع الاقتصادي المتدهور الذي تعيشه الجامعة التونسية لكرة القدم اليوم لا يعود فقط إلى سوء التسيير، بل أيضًا إلى فقدانها لعدد من موارد الدخل المعتادة. فقد تراجع حجم الدعم الذي كانت تتحصل عليه من وزارة الشباب والرياضة بشكل كبير ما أجبرها على محاولة البقاء بأموال محدودة، وهو ما يعكس هشاشة النموذج الاقتصادي الذي يقوم عليه قطاع كرة القدم التونسية.
وعلى عكس البطولات المنظمة التي تعتمد فيها الأندية أساسًا على عائدات حقوق البث والتسويق التجاري، تعتمد الفرق التونسية بشكل أساسي على رؤسائها كممولين رئيسيين وهو ما يخلق حالة من عدم الاستقرار، إذ غالبًا ما يطالب هؤلاء الرؤساء باسترجاع أموالهم لدى مغادرة مناصبهم، مما يزجّ بأنديتهم في دوامة مالية خطيرة.
أما بخصوص حقوق البث التلفزي، لم تسترجع الجامعة بعد مستحقاتها المتخلدة بذمة التلفزة الوطنية والتي تُقدَّر بحوالي 14 مليون دينار مقابل حقوق بث المباريات.
وفي هذا السياق، يصف ماجد، مؤسس موقع tunisie-foot.com، وضعية حقوق بث الرابطة المحترفة الأولى بأنها "فضيحة ! كان الدوري لسنوات يُبث عبر صفحات فايسبوك واليوم صار يُعرض على قناة مشفّرة، لكن العائدات التي تصل للأندية تكاد لا تُذكر. في فرنسا مثلًا، يقوم عمل الاتحاد الفرنسي لكرة القدم والرابطة على بيع حقوق بث البطولة. وفي المقابل فإن الجامعة التونسية عاجزة عن التفاوض كما يجب بخصوص حقوق البث التلفزي."
أما من ناحية التسويق الرياضي، يحظى الترجي الرياضي التونسي بدعم شركة دانون تونس عبر رئيسه حمدي المدب، فيما يعتمد النادي الإفريقي على راعين مثل فرجي تشامبرز. أما باقي الفرق، فتعتمد بشكل شبه كلي على الدعم الحكومي وعلى عدد محدود من المؤسسات المحلية. وبالتالي يحدّ هذا النظام بشكل كبير من قدرتها على النمو ويُبقيها رهينة تبعية اقتصادية مثيرة للقلق.
الأخطر من ذلك، وبدل أن تسعى إلى توزيع الموارد بشكل عادل بين الفرق، استحوذت الجامعة التونسية لكرة القدم – وفق معطيات حصلت عليها إنكفاضة – على جزء مهم من عقود الرعاية التي يُفترض نظريا أن تذهب مباشرة إلى الأندية. والنتيجة كانت فائضاً ماليا غير مُجْدٍ في خزائن الجامعة مقابل حرمان الفرق من أموال حيوية لنموها وتطورها.
اختلالات هيكلية عميقة
يعاني قطاع كرة القدم التونسية أيضًا من مشاكل بنيوية مزمنة، أبرزها نقص البنية التحتية وسوء إدارة المنشآت القائمة. الملاعب التي تعود ملكيتها إلى البلديات تُدار من قبل الأندية، لكن هذه الأخيرة ترفض ضخ أي استثمارات في صيانتها أو تحديثها بحجّة أنها لا تمتلكها قانونيًا. ومن جهتها، لم تمارس الجامعة أي ضغط يُذكر على وزارة الداخلية – باعتبارها سلطة الإشراف على البلديات – ولا على وزارة الشباب والرياضة لحلحلة هذا الإشكال العالق.
يعلّق ماجد أن "الجامعة تحصلت على تمويلات بعد كأس العالم، لكن بدل الاستثمار في بنى تحتية ضرورية شيّدت نزلًا ومركزًا طبيًا ومقرًا خاصًا بها، دون أن تتضح جدوى هذه المشاريع أو طرق استغلالها."
هذا الغياب في الرقابة وفي الإدارة الفعّالة أدى إلى تدهور تدريجي للمنشآت الرياضية. إذ يعاني عدد كبير من الملاعب من حالة مزرية، بأرضيات مهترئة وتجهيزات أكل عليها الدهر وشرب وبنية تحتية غير مؤهلة لاستقبال مباريات على مستوى عالٍ.
كما يبرز أيضًا مشكل آخر لا يقل خطورة ألا وهو غياب التكوين. إذ لا يوجد في تونس أية آلية فعلية لتكوين رؤساء الأندية والمديرين الفنيين والمدربين أو مسيري الفرق. وأدت هذه الفجوة التكوينية إلى إدارة مرتجلة للأندية، التي غالبًا ما تُدار بعقلية هواة تغيب عنها الكفاءة الحقيقية.
يطال هذا النقص في التكوين أيضًا اللاعبين الشبان، حيث تعاني الأكاديميات ومراكز التدريب من نقص فادح في التمويل وسوء التنظيم وتخلّف عن المتطلبات الكروية الحديثة. وغالبًا ما يضطرّ اللاعبون الواعدون إلى مغادرة البلاد في سن مبكرة بحثًا عن تأطير حقيقي في الخارج، مما يحرم البطولة التونسية من أجيال شابة قادرة على الارتقاء بمستواها التنافسي.
ورغم وعوده بإعادة هيكلة مالية سريعة وفعالة، يواجه المكتب الجديد بقيادة معز الناصري تحديات ضخمة تتراوح بين ديون متراكمة وموارد شحيحة ومصاريف غير مفهومة. أما السؤال المطروح اليوم فهو هل يملك الرئيس الجديد بالفعل الوسائل – وقبلها الإرادة – لإرساء حوكمة صارمة؟ أم أن الجامعة ستواصل التجديف الأعمى داخل دوامة مالية قاتلة؟
يختم ماجد حديثه قائلًا: "كرة القدم التونسية تُدار كمنظومة مغلّقة تتحكّم فيها المصالح الشخصية وشبكات النفوذ. الإصلاح الحقيقي يتطلّب صدمة، إعادة هيكلة جذرية، وربما حتى تدخّلا من خارج الجامعة. لكن لا أحد اليوم يملك الجرأة للقيام بذلك."