من مطماطة بقابس إلى دويرات بتطاوين مرورا عبر بني خداش بمدنين، تخفي هذه القرى الجذابة للسواح حقيقة أخرى. فإزاء الخوف من فقدان جزء من تاريخهم وهويتهم، حشد السكان على شاكلة محمد وغيره جهودهم للحفاظ على حضورهم فيها والإبقاء على تراثهم أجدادهم حيا، تتبعهم في ذلك الأجيال الأصغر سنا.
تاريخ من "التحديث"
في قرية دويرات الجديدة، يستحضر سالم طفولته التي قضاها "هناك في الأعلى"، كما لا يسعه أن ينسى كذلك اليوم الذي نزل فيه في سنة 1979. شأنه شأن جزء من الدويريّة الآخرين، قرر سالم أن يتبع زوجته وأصهاره للعيش في السهل، على بعد بضعة كيلومترات من الجبل، وترك مسكنهم الذي كان في "حالة سيئة للغاية". منذ زمن طويل، اعتاد سكان هذه الجهة على المغادرة بشكل دوري إلى صفاقس أو قابس أو جربة أو تونس قصد العمل. ولئن كانت تنقلاتهم متواترة إلا أن رحيلهم عن موطنهم لم يكن إلا مؤقتا.
ومع ذلك، في أوائل السبعينات، شجعت السلطات المحلية سكان قرى الظاهر على مغادرة مساكنهم والانتقال إلى أخرى حديثة في السهول. كان هذا القرار السياسي الشاهد عليه خطاب الحبيب بورقيبة في مطماطة سنة 1959، جزءا من الرغبة في بناء دولة "حديثة". تشير المؤرخة شارلوت الجبيلي إلى أن "عملية التحديث مرت بالضرورة عبر إعادة مساءلة قوية لأشكال معينة من أنماط السكن المحلية".
في أحد الأيام، كان بورقيبة على متن طائرة هليكوبتر فلمح أشخاصًا يخرجون من منازلهم فقال "من هؤلاء الأشخاص الذين يعيشون في كهوف مثل الفئران. يجب أن ننزلهم منها جميعا" يروي أحد سكان دويرات.
كان الحبيب بورقيبة يرى في أي نوع من أنواع المساكن التقليدية على أنها "مشاهد مروعة تعود إلى قرون خلت"، مما شكّل وفقه عقبة أمام "التقدم" الذي كان يهدف إلى تحقيقه. وهكذا صرح خلال زيارته للمنطقة إن "هذه العقلية البدائية [...] لم يعد هناك مبرر لوجودها"، معتبرًا أنه من الضروري أن "يتوقفوا عن ترحالهم الصحراوي" من أجل تشكيل "الأمة المستقرة والمتطورة التي نريد، مع بقية السكان".
قرر الرئيس عندئذ الشروع في تنفيذ سياسته عبر بناء قرى جديدة في السهول وأحيانًا على بعد مسافات تناهز 15 كيلومترًا من المساكن الأولى.
في نفس الموضوع
اعتمدت السلطات في تشجيع السكان على النزول طرقا متعددة. حيث ربطت القرى الجديدة بشبكات توزيع المياه والكهرباء واستثنت منها القرى الجبلية القديمة. وقامت الشركة الوطنية العقارية للبلاد التونسية (سنيت) ببناء أكثر من نصف المنازل الواقعة في السهل و"منحتها مجانا" للسكان الذين وافقوا على المجيء والاستقرار فيها. شُيّدت المساكن الحديثة بأسقف ذات شكل برميليّ (قبو) مستلهمة من مساكن دويرات القديمة للحفاظ على درجة حرارة داخلية ثابتة، وأيضا وقبل كل شيء من أجل "إقناع الناس بالنزول" مثلما يوضح أحد الدويريّة بالقرية الجديدة.
بعد المرحلة الأولى من النزوح الذي دفعت إليه السلطات المحلية، بدأ السكان في مغادرة الجبل بمحض إرادتهم، لتنضاف إلى الثلاثمائة مسكن التي شيدتها السنيت مساكن جديدة بناها النازلون الجدد.
تبعهم لاحقا أصحاب المتاجر، تاركين خلفهم بعض الرافضين. "وكان لكل شخص طريقته الخاصة في النظر إلى الأشياء، حتى أن كثيرين لم يرغبوا في مغادرة منازلهم" يقول جمال الذي ترعرع في دويرات الجديدة، بينما فضل أجداده البقاء في قريتهم القديمة حتى اللحظة الأخيرة، ولو أن "الأمر كان متعبًا للغاية".
"كنا ندفع لشخص ما لجلب الماء خلال الأسبوع في حين أن الناس في الأسفل يكفيهم فتح الصنبور. كانت الكهرباء متوفرة في دويرات الجديدة بينما ظل السكان في الأعلى بدونها لفترة طويلة" يستحضر جمال.
وكشأن دويرات، يقول سالم أن كل قرى جبال الظاهر عانت ذات المصير باستثناء مطماطة وشنني. ويرى أن هذه الخصوصية تعود إلى رفض سكان القريتين المطلق لمغادرة منازلهم: "رفضوا التنازل حتى النهاية".
قرية إزاء الاندثار
تقبع قرية دويرات القديمة اليوم مهجورة إلا من منزليْ ضيافة، بعثا فيها نفسا جديدا بفضل استقبال السياح بانتظام، وأيضا بفضل قدوم أصيلي·ـات المنطقة. "يأتون إلى هنا ليساعدونا بدلاً من البقاء مع أسرهم في القرية الجديدة" تخبرنا لطيفة التي تدير أحد البيتيْن مع شقيقتها منذ ما يقرب العشرين عامًا. وعلى الرغم من رحيل جميع السكان السابقين إلى قرية دويرات الجديدة أو على بعد بضعة كيلومترات، تؤكد لطيفة على أنه "إذا ما رُمّمت القرية بأكملها فلن يبقى أحد في القرية السفليّة".
اليوم صارت معظم المساكن في القرية القديمة أنقاضا. وفقًا لتعداد عام 2014 الذي أجرته أخصائية التعمير منال زبيني فإن نسبة المساكن الحفرية التي لم تتدهور حالتها لا تتجاوز 5٪.
وإزاء خطر فقدان هذا التراث، التف العشرات من السكان حول جمعية المحافظة وصيانة المحيط بدويرات (ASNAPED) التي أنشئت في سنة 1985 بعد مغادرة آخر أسرة من أسر دويرات القديمة. نفذت الجمعية أعمال ترميم ناجحة لمساكن تبرع بها بعض السكان القدماء، وافتتحت بيت ضيافة منذ سنة 2002 تديره لطيفة وأختها حسناء.
"عندما تم إنشاء الجمعية تساءل أهالي القرية لماذا لا نستغل مساكننا ونجني بعض المداخيل لأهالي القرية وعمالها؟" تشرح لطيفة.
صيانة الموروث
تفرح لطيفة لرؤية الجيل الأصغر سنا يعتني بمنشأه: "أستقبل هذا الأسبوع مجموعة من 15 إلى 20 شخصًا يأتون من القرية (الجديدة) للمساعدة في الحفاظ على القرية القديمة وهذا يسعدني ويثلج صدري". وكانت لطيفة أول من دعم "الشباب المعطّلين عن العمل والذي يأتون للعمل في الفلاحة ويساعدون في صيانة الجسور".
الجسور هي سدود ترابية وحجرية بطول عدة أمتار وهي تقنية تعود إلى مئات السنين، الهدف منها خزن تساقطات الأمطار ومياه الانسيابات. كل مستوى من الجسور يحدّ قطعة أرض تعود إلى إحدى أسر القرية، وتتيح هذه التقنية ممارسة الفلاحة وغراسة اﻷشجار في منطقة قاحلة. علما بأن الجهة مرت عليها "أكثر من ثلاث سنوات دون أمطار" قبل أن ينزل غيث غزير خلال فترة العيد.
ولئن يحذر البعض من خطر اندثار هذه التقنية فإن الدويريّة لا يخشون على انتقالها للأجيال الاصغر. "لم تُنس الجسور أبدًا" يصر أحد المقيمين. "إذ لدينا صلة عميقة للغاية بالأرض والزياتين وأشجار النخيل". وفي مواجهة موجات الجفاف المتواترة، تخبرنا لطيفة أن "كثيرين يرغبون في الحفاظ على جسورهم كما هي باعتماد التقنية التقليدية".
يشكل النمط المعماري إحدى الميزات المحلية فهو يحافظ على درجة حرارة منخفضة في منطقة قد تبلغ درجة الحرارة فيها 48.5 درجة مثلما حدث في سنة 2021. وعلى هذا النحو، يؤكد العديد من السكان على أهمية هذه التقنيات المتأقلمة مع المناخ إذ تقول لطيفة إن "ْالناس في القرية الجديدة يعيشون في مساكن من آجر تحبس الحرارة ولذا يستخدمون المكيفات، إلا أن بعضهم ليسوا ميسوري الحال بما يكفي لاقتنائها. وفي بعض الأحيان قد يموت أحدهم من شدة الحر". بينما في الغرفة [الغار] "تكون درجة الحرارة مستقرة بين 26 درجة و 27 درجة ولا حاجة للتدفئة أو تكييف الهواء!" يشرح محمّد.
في نفس الموضوع
في نهاية كل أسبوع، يستقبل سالم ابنته ابتسام وحفيديه في مسكنه بدويرات الجديدة. تعيش إبتسام في تطاوين، لكنها تفضل أن تقول إنها تعيش بين الاثنين. وعلى الرغم من أنها ذهبت إلى تونس لدراسة اللغة الإنجليزية إلا أنها لم تتردد في العودة إلى مسقط رأسها المرتبطة به "بالدم والروح والجسد" والذي تغذيه من خلال مد يد العون للمحافظة على التقاليد المحلية في مختلف المشاريع الجمعياتية التي تساهم فيها.
تتوسم ابتسام الأربعينية في الجيل الجديد خيرا من أجل صون الموروث: "لا يمكن أن ينسوا وسوف يظلون متعلّقين بهذا المكان. الشيء الوحيد الذي يثير لديها بعض القلق هو مدى إمكانية نقل اللغة الأمازيغية. "هذه إشكالية لأنني عندما أتحدث إلى والدي باللغة الأمازيغية ينفجر ابنايَ بالضحك". وبالفعل فإن الناطقين بالشلحة، وهي اللغة الأمازيغية في شكلها التونسي، يعدون بين 10.000 إلى 50.000 شخص فحسب.
يشهد على أقوالها إبنا أختها، قصي ووائل، وهما شابان في مقتبل العمر. يقول قصي أنه "متعلّق بالمنطقة وحتى لو اضطررت إلى المغادرة فسوف أعود في كل فرصة سانحة". بينما لا يستبعد شقيقه هو الآخر إمكانية المغادرة، حيث أن فرص العمل في دويرات وأحوازها شبه منعدمة. "قد أغادر بحثا عن الفرص، لكنني في نهاية المطاف عائد لا محالة" يقول وائل.
ولئن كانت أولوياتهما هي بناء مستقبلهما فإنهما يجتمعان رغم ذلك على نفس رؤية جدّهما بشأن إرث العائلة المتمثل في مسكن تقليدي قديم يقع على مقربة من دويرات القديمة. يقول قصي أنه لو كان الأمر بيده لصانه ورمّمه لكن الإمكانيات المادية غير متوفرة، ويتّفق مع سالم في كون "الدولة هي التي يجب أن تضطلع بذلك".
"معظم الناس لا يملكون ما يكفي ولذا يستثمرون في منازلهم في الأسفل بدلا من الأعلى"، يقول سالم متأسفا لحقيقة أن القرية القديمة لم تشهد أية مبادرات لتحسين حالتها. "يود الناس لو كانت بيدهم إمكانية ترميم تلك المساكن لأنهم قد يحتاجونها أو يعودون للبقاء هناك، وذلك أفضل من تركها مهجورة". يقول قصي من جانبه: "إذا أظهرت الدولة المبادرة فسنساعدها".
تراث مهمش
لئن كانت المبادرات الخاصة متعددة فإن الأموال ليست كافية لإعادة ترميم القرية بأكملها. حالة دويرات ليست استثناءً فحتى وإن اختلفت أنماط المساكن التقليدية في جميع أنحاء سلسلة جبال الظاهر إلا أن القرى والقصور تواجه جلّها نفس المخاطر.
بحلول سنة 2021 هُجر 40٪ من القصور وفقًا للمندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بتطاوين. لكن مسحًا معمقًا قام به المهندس الجغرافي زيد الهمامي في 2013، كشف عن معدل هجران لهذه الحصون بنحو 62٪ وجزء منها معرض للانهيار بنسبة تفوق 75٪. وقد تم إطلاق العديد من خطط الترميم التي نفذها المعهد الوطني للتراث (INP) وأحيانا بالتعاون مع مشاريع حكومية دولية.
ومع ذلك لم يتم الترميم الكلي سوى لـ 18 قصرا من أصل 92 قصرا مسجّلا.
أحد الأسباب التي يمكن أن تفسر معدل الترميم المنخفض هذا هو المنظومة العقارية التي تؤطر القصور. إذ يذكر باحثٌ عضو في المعهد الوطني للتراث أن الغالبية العظمى من هذه القصور هي ملكية خاصة جماعية. بمعنى أن موافقة جميع المالكين لازمة قبل أي تحويل يطرأ على المبنى مما ينعكس في بعض الأحيان على مآل مشاريع الترميم بالإلغاء أو الإبطاء.
من جهة أخرى، يبدو أن عملية إدراج هذه العقارات التاريخية في قوائم التراث تواجه عائقا يتمثل في نوع من التهميش لثقافات الجنوب الشرقي التونسي. في تقرير نشرته اليونسكو سنة 2009، يضرب مصطفى الخاوصي مثالاً "غير مبالغ فيه" عن هذا التراث "وكأنه الفرد الفقير والمهمّش في عائلة التراث الثقافي المبني في تونس". تطلب الأمر حتى عام 2021 لإدراج ما مجموعه 19 قصرا في قائمة التراث الوطني التونسي لأول مرة وسيتم إضافة 9 قصور أخرى إلى القائمة في جانفي 2024 بقرار من وزارة الشؤون الثقافية.
يقول مصطفى الخاوصي في تقريره سنة 2009: "لفترة طويلة اعتبرها المسؤولون والمهنيون تعبيرة ثقافية هامشية حتى لا نقول متخلفة، [...]، ونادرا ما جذبت انتباه الباحثين وظلت المعارف حولها محدودة جدا وغالبا ما تكون سطحية".
في سنة 2012، أعد المعهد الوطني للتراث بمعية جمعيات وممثلين عن المجتمع المدني ملفّا لإدراج القصور في قائمة التراث العالمي لدى اليونسكو وبالفعل تم إدراجها في القائمة الأولية منذ 2019. لكن القائمة المودعة لا تضم سوى حوالي عشرين قصرا من مجموع حوالي 90. وتعتبر اليونسكو أن هذا الموروث الثقافي "ناقص التمثيل في قائمة التراث العالمي إن لم يكن غائبا تماماً".
إدراج هذا التراث في قائمة اليونسكو قد يكون وسيلة مستدامة لإحيائه وهو يتماشى أيضا مع إمكانية استغلاله سياحيا. ويرى البعض، ومنهم حياة المقيمة في دويرات الجديدة، أن مجيء السياح مفيد "على جميع المستويات، لعملنا، وللتبادل، وحتى يكتشفوا تاريخنا".
في المقابل، يدرك آخرون المخاطر التي يمكن أن تنتجها السياحة الجماعية في المنطقة. "هو أمر نافع ولكن باعتدال" يقول جميل مؤكداً على أن صعوبة الوصول إلى دويرات والقرى الأخرى هي وسيلة جيدة "للحفاظ على هذه الأماكن الهشة". أما لطيفة فترفض من جانبها كل طلبات وكالات الأسفار لتطوير منزل الضيافة الذي تديره.
تشرح لطيفة: "تخبرنا العديد من وكالات الأسفار بضرورة توسيع الإقامة لكننا لا نريد ذلك! نريد أن نحافظ على سحر القرية، حتى يشعر الناس كأنهم في منازلهم وبين ذويهم".
تحويل هذا المكان إلى وجهة سياحية كبرى أمر غير ممكن بالنسبة إليها. "هذا يعني أن أي شخص يمكن أن يأتي بسيارات رباعية الدفع وحافلات. وبدلا من قدوم ثلاثين شخصا، يأتي 70 أو 80. إنه ليس مبيتاً!". ولو سألتها كم تقيّم بيت ضيافتها، فإن خمس نجوم لا تكفي بالنسبة إليها، "لا، بل ما لا نهاية من النجوم!".