لم تكن الزيادة الأخيرة التي أقرتها الحكومة في نهاية سنة 2022 على أسعار المحروقات هي الأولى أو الأخيرة، فقد لوّحت خلال العام نفسه، باستمرار الزيادة على أسعار الوقود إلى حين رفع الدعم عن هذا القطاع نهائيا وبشكل تدريجي للتخلص من ثقله على الميزانية. أقرت الحكومة ذلك من خلال التقرير حول مشروع ميزانية 2023 الذي جاء فيه تحت عنوان دعم المحروقات: "مواصلة تطبيق التعديل الآلي للأسعار بالنسبة للمواد المعنية بالآلية إلى غاية بلوغ حقيقة الأسعار".
تشخصّ إنكفاضة من خلال هذا المقال كيف تساهم الزيادة في الأسعار الرسمية للمحروقات في ازدهار الوقود المهّرب، وتوضّح هذه العلاقة الطردية، علما وأن الأسعار المستقبلية المشار إليها تقريبية.
من العمومي إلى الموازي
"في الحقيقة أنا موظف عمومي، ولكن دخلا شهريا واحدا لم يعد يكفي لمواجهة تكاليف الحياة من إيجار وقروض بنكية. دخلت نشاط التجارة الموازية للوقود أملا في تحقيق مردود مادي أكبر." يقول لسعد* أصيل ولاية قفصة والذي انضم إلى هذا المجال قبل سنوات قليلة أين رأى فارقا في سعر البنزين والديزل (المازوط) المهرّب يضمن له هامشا جيدا من الربح.
محمد* أصيل ولاية القصرين، هو أيضا كان "موظفا في الدولة" على حد تعبيره حتى العام 1999 حين قرر اتخاذ مسلك آخر يوفر له دخلا أفضل، فاستقال من عمله وامتهن التهريب ومن جملة ما يشتغل به تجارة البنزين.
أما مالك* فبعد تخرجه من الجامعة وفشل محاولاته في العثور على وظيفة، قرر أصيل بنقردان العمل في "التجارة البينية" كما يقول، كمهرّب ثم كتاجر بيع وقود بالتفصيل. "أعتبر نفسي عاطلا عن العمل" يقول مالك الذي عاد إلى الدراسة مجددا بعد طول انقطاع للتخصص في مجال جديد.
"أنجع السبل وأكثرها ربحا هي تلك التي تكون على ظهور الحمير" يفسر محمد، فطرق تهريب المحروقات من جهة الجزائر عديدة وتختلف كل واحدة عن الأخرى، وتتفاوت كذلك في درجات الخطورة.
يلخص لنا لسعد أسهل هذه الطرق وأكثرها تداولا: "هناك 3 طرق رئيسية لتهريب الوقود، أولها ملء خزان السيارة في الجزائر وتفريغه في تونس. وفي هذا يتم اعتماد موديلات قديمة من السيارات يقع توسعة خزانها على نحو يمكنه استيعاب كميات بين 120 و 180 لترا". عند استخدام هذه الطريقة، يحوّل المهربون نظام استهلاك السيارة إلى الغاز بدلا من الوقود لضمان هامش ربح أكبر، نظرا لانخفاض سعر الغاز الذي يضمن بالتالي تكلفة استهلاك شخصي أرخص.
أما الطريقة الثانية وفق لسعد فهي البطحة وتعتمد على وجود مساحة أرض حدودية مسيّجة، يقوم مالكها بالسماح لشاحنات التهريب الجزائرية بدخولها بعد اجتياز الحدود إلى تونس - بمسارات التفافية تتغير كل مرة - وتفرغ حمولتها من الوقود. تأتي عندئذ الشاحنات التونسية إلى البطحة وتستبدل صفائح البنزين الفارغة بأخرى مملوءة، وبطبيعة الحال يدخل هنا صاحب الأرض كمستفيد ثالث.
وتتمثل الطريقة الثالثة وهي الأكثر انتشارا في استعمال البهائم. فبعد أن أغلقت السلطات أحد المسالك غير الرسمية المعتادة من خلال حفرها وجعلها غير مؤهلة لمرور المركبات واجتياز الحدود بين الدولتين، استعاض المهربون بهذه الحيوانات. يُحَمَّل الحمار بالصفائح ويتنقل وحيدا بين الدولتين في خطّ يقع تدريبه عليه. بعد عبور الحدود وعندما يصل الحمار إلى وجهته، يقوم مُستقبِله بتفريغ الحمولة ليصبح المُستقبِل نقطة التوزيع ويأخذ الحمارُ دور المهرِّبَ. ولا تُحمّل الدابّة بالمحروقات وحسب بل تُعتمد هذه الطريقة لتمرير شتى أنواع البضائع.
يختلف الأمر بالنسبة للمناطق الحدودية مع ليبيا، يوضح لنا مالك ابن بنقردان: "يعبئ ما نسميه نحن بمصطلحاتنا الحرّاق خزانات الوقود و البيدونات من المحطة ثم يأتي بها عبر طرق ملتوية إلى هنا، إلا أن ذلك ليس بالأمر الهيّن إذ إن إحتمالية تعرضه للسطو في الطريق مرتفعة". لكن في ذات الوقت، يعتبر مالك أن "الرشاوى وشراء طريق العبور من الجزائر أعلى كلفةً، ما يقلل هامش الربح في إحضار المحروقات من هناك"، هذا إلى جانب كونها "أكثر تعقيدا" على حد تقديره.
في نفس الموضوع
الأسعار
يشتري "الحرّاقة" - إلى حدود شهر جانفي الماضي - اللتر الواحد من الجزائر بسعر يتراوح بين 400 إلى 700 مليم، إذ لا يتعدى سعر اللتر الواحد من البنزين الرفيع 700 مليم كما أن هناك أنواعا أقل جودة تتراوح بين 300 و500 مليما. أما أفضل الأنواع والتي لا توزع في تونس فلا يتجاوز سعرها عتبة الـ900 مليم.
تخضع سوق المحروقات غير الرسمية إلى تقلبات الأسعار هي الأخرى، على غرار مدى توفرها والزيادات التي تطرأ على نظيرتها الرسمية. "تتغير أسعار البنزين الذي نحضره نحن بتغير السعر الرسمي، هم يقومون برفع السعر ونحن نرفع الأسعار أيضا" يشرح محمد.
كما يتحكم عامل آخر في الأسعار، وهو يتعلق بمدى قرب المنطقة من الحدود الجزائرية، لأنه كلما نُقل الوقود المهرب إلى أماكن أقرب للعاصمة كلما ارتفع سعره، بما أن "للطريق كلفته" مثلما يقول لسعد، ويضيف أنه "يمكن أن تشتري من الجزائر صفيحة البنزين - سعتها بين 20 و22 لترا - بـ12 دينار وقد اشتريتها بـ 15 دينار في فترة غير بعيدة. هنا أعيد بيعه مقابل 30 دينارا للتاجر الذي سيبيعه بـ32 أو 33. هذا الأخير لا يتعدى ربحه دينارين عن الصفيحة الواحدة فيما أن هامش الربح الأكبر يكون للحرّاق الذي يتكبد مخاطر أعلى". بينما يزيد سعره بدينارين قرب القيروان وهكذا دواليك كلما اقتربت المسافة إلى العاصمة.
رفعت الحكومة بداية سنة 2022 أسعار المحروقات 5 مرات، ووفقا للمرصد التونسي للاقتصاد فإن "الترفيع الأول كان في شهر فيفري بنسبة 3% والثاني خلال شهر مارس بنسبة 3% والثالث في أفريل بنسبة 5% أما الزيادة الرابعة فكانت في سبتمبر بنسبة 3.9% والخامسة والأخيرة في نوفمبر بـ 5.5%" ليصل السعر الرسمي إلى 2,525 دينار للتر الواحد وهو المعتمد إلى حين كتابة هذا المقال. غير أنه وفقا لإحصاءات غير رسمية يُتوقع بلوغ سعر البنزين مع رفع الدعم كليا حوالي 3.5 دينار للتر الواحد.
في المقابل، يتوقع محدّثونا أن يصل سعر البنزين المهرّب بعد رفع الدعم إلى 45 دينارا للصفيح، ما يعني أن يتراوح سعر اللتر الواحد بين دينارين إلى 2.2 دينار كحد أقصى.
البُونوات مقابل البنزين المهرب
لدى مالك دفتر يسجل فيه أسماء المدينين، "أغلبهم من فئة الموظفين" يقول التاجر مؤكدا أن لديه حرفاء من السلك الأمني أيضا. أما لسعد فيعلق على هذا الموضوع قائلا: "كان لدي أصدقائي من الحرفاء الذين لديهم بُونوات [كوبونات] الوقود، كانوا يتفقون مع محطة المحروقات حيث يبيعونهم إياها، ثم يقومون بتعبئة خزانات سياراتهم من الوقود الآخر [ويقصد المهرّب]". يؤكد مالك أن "الأستاذ والمعلم والطبيب جميعهم يعبئون سياراتهم من هنا". ويرى هؤلاء أن جودة البنزين والديزل (المازوط) الجزائري والليبي تفوق التونسي، إذ استشهد محدثونا بأمثلة تتعلق بفارق معدل استهلاك الوقود بين أنواع المحروقات المختلفة لقطع ذات المسافة. ويؤكدون على أن البنزين الليبي "يأتي في المرتبة الأولى".
لا ينفي لسعد فكرة أن الوقود يمكن أن يكون مختلطا ويؤثر على السيارة، لكنه يؤكد أن هذا الأمر لا يحصل إلا في مرات نادرة عندما تبقى الصفائح في البطحة لمدة طويلة، وبالتالي يحدث التبخر ويختلط بالماء. أو حينما يقوم الحراق بصبّ البنزين في صفائح المازوط أو العكس، لكنه يحذّر "يجب ألا تعبئ خزان سيارتك إلا لدى شخص تعرفه".
سلسلة من المستفيدين: "حرس الحدود أيضا"
تتكون سلسلة المستفيدين الرئيسية من الحرّاق وشاري الجملة الذي يكون ذاته بائع التفصيل أحيانا، والحريف، وتتكاثر حلقات السلسلة عندما يدخل فيها أيضا تجار المناطق غير الحدودية عند شرائهم البنزين المهرب وبيعه في مناطقهم.
يذكر لسعد ومحمد أن "أعوان الحدود على الجانبين أيضا من المستفيدين". أما بالنسبة للثمن الذي يُدفع مقابل كل حمولة فهو "يتفاوت" وفقا لمحمد، أي أنه يتم تقدير كل حمولة على حدة. بينما من الممكن ألّا يُكتشف الأمر حين يقع التهريب عن طريق توسيع خزان الوقود "بشكل غير ملفت" وفقا لتعبير لسعد. ويتم عقد اتفاق أحيانا يشمل مجموعة من الحرّاقة وأحد الأعوان الموجودين ليُشترى الطريق مقابل مبلغٍ محدّد من كل مهرّب" يوضح محمد.
يعترف مالك وهو يكشف عن طرف ساقه أنه تعرض لحروق بليغة مازالت ندوبها واضحة وهو يقوم بتفريغ صفائح الوقود، ويشير إلى حرّاقه الذي يرقد في سيارته ليأخذ قسطا من الراحة قبل أن ينطلق في جولة جديدة، قائلا: "بائع الجملة يعتمد على الرفع في السعر بينما بائع التفصيل يعتمد على الكمية"، مؤكدا أنه عملٌ محفوف بالمخاطر.
في نفس الموضوع
أصدر البنك الدولي في 2013 دراسة حول التهريب عبر الحدود البرية في تونس خلص فيها إلى أن 25% من الوقود المُستهلك في تونس مهرّب من الجزائر. وقدّرت دراسة إحصائية أخرى صدرت في 2014 كمية الوقود المهرب من الجزائر بـ 921.000 متر مكعّب بقيمة بيع جملية تناهز 882 مليون دينارا. ومن المرجح أن تكون هذه الأرقام قد ارتفعت منذ ذلك الحين في ظل تذبذب أسعار المحروقات على المستوى العالمي بسبب الحرب الروسية الأوكرانية المتواصلة وتواتر الأزمات التي يشهدها القطاع في تونس.
ليس ثمة شك أن تجارة الوقود المهرّب عبر الحدود تعود بمنافع مالية هامة على المهربين والمستهلكين·ـات على حد السواء، حتى وإن كانت تطرح مخاطر جمة. وبالرغم من أنها "موازية" للقطاع الرسمي إلا أن هناك علاقة طردية بينهما تتضح خصوصا في علاقة بترابط الأسعار.
وبينما تعتمد الدولة منذ سنوات مقاربة أمنية بحتة وغير متجددة لم تثبت نجاعتها بعدُ في التصدي للتهريب، خصوصا مع ضلوع عدد من أعوان حرس الحدود في تسهيله أو الانتفاع منه بل وحتى امتهانه، لا يبدو أن نسق هذه التجارة سوف يتباطأ في المستقبل القريب.