صبيحة يوم 25 جويلية 1957، احتضنت قاعة العرش بقصر باردو جلسة خارقة للعادة عقدها المجلس القومي التأسيسي لاختيار نظام الحكم للدولة التونسية المستقلة حديثًا منذ 20 مارس 1956.
"في القاعة المتلألئة بالأنوار والتي شهدت على مدى قرنين ونصف تأدية الرعايا لفروض الولاء والطاعة لملوك السلالة الحسينية في المناسبات الكبرى، لم تتم بعد إزالة صور البايات الذين تعاقبوا على البلاد." (لوموند، 26 جويلية 1957).
منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري
أنشئ حسابك الآن وتمتع بميزات النفاذ الحصري ومختلف الخاصيات المتقدمة التي توفرها لك. تحصّل على عضويتك وساهم في تدعيم استقلاليتنا.
تسجيل الدخول"شكل الدولة الجديد"
كان حاضرا في الجلسة آنذاك 93 من أصل 98 نائبا وعدد من السفراء أجانب، واتخذ الوزير الأكبر الحبيب بورقيبة وأعضاء حكومته مجلسهم على المقاعد المخصصة للنواب. كما امتلأت القاعة كذلك بصحفيين يحملون شارات خُط عليها "اليوم الأول للجمهورية".
في ذلك اليوم الصيفي القائظ، بثت مكبرات الصوت خطبَ النواب وأعضاء الحكومة خارج المبنى واحتشد الناس حول القصر الذي كان يؤمنه الحرس الوطني والشبيبة الدستورية.*
وبصفته رئيسا للجلسة، بين الجلولي فارس في الكلمة التي ألقاها "إن جدول أعمالنا في هذه الجلسة هو النظر في شكل الدولة الذي كان متوقفا على معرفته الإنجاز لمشروع الدستور. ولذا فإن جلستنا ستستمر حتى يستقر رأينا على ذلك".
ثم تناول الكلمة أحمد بن صالح، نائب رئيس المجلس:
"لن يؤدي هذا إلا إلى ترسيخ استقلال البلاد وسيادة الشعب التونسي. وليس ثمة شك في أننا سنقضي اليوم على إرث النظام البالي. لا يمكن أن تكون هناك سيادة مشتركة في هذا البلد، وإرادة الشعب مقدسة. لقد نشأ جيلنا على فكر الحزب الحر الدستوري الجديد التواق إلى الحرية والسلام والازدهار ويجب أن ننعم بسيادتنا كاملة دون مشاركة. لقد سبق وأن عشنا خلال أوقات الكفاح في ظل نظام جمهوري باعتبار أنه لم تكن هناك تونس واحدة بل "اثنتان" آنذاك، إحداهما متخيَلة والأخرى حقيقية. لقد عاشت الجمهورية بالفعل في تونس في ظل عدم الشرعية ووجب اليوم إضفاء صبغة شرعية عليها".
الجمهورية ثمرة تمشٍّ مرحلي
إن فكرة الإطاحة بالنظام الملكي في الواقع لا تعود إلى فترة الاستقلال فحسب، فمنذ عشرينات القرن الماضي شرعت الصحافة الاستعمارية أو الفرنسية المتروبولية في تداول فكرة إنشاء جمهورية تونسية وإن تناولت ذلك من زاوية الشائعات والتهديد، معتبرة تلك الفكرة مؤامرة تتخطى الحدود الوطنية:
"هنالك مؤامرات غريبة تُحاك في الخفاء فيما يخص مستعمَرِي شمال إفريقيا. على سبيل المثال، إرساء جمهورية تونسية تحت حماية إيطالية خسيسة". (إفريقيا الفرنسية، 1 جانفي 1926).
"بدأت فكرة إرساء جمهورية تونسية تلوح في الأفق وتخامر الأذهان. يراود الأكثر جرأة عبر المُغرب [كذا] الحديث حلمٌ بجمهورية فيدرالية بشمال إفريقيا!" (الحوليات الاستعمارية- Les Annales Coloniales - 21 أكتوبر 1933).
كما أوردت الصحيفة اليومية تونيزي-فرانس (Tunisie-France) في عددها الصادر في 15 سبتمبر 1945 شائعة مفادها أن الأحزاب القومية، ولا سيما منها الحزب الحر الدستوري، تنوي إعلان الجمهورية.
قبل عامين من الإرساء الفعلي لهذه الأخيرة وقبل أشهر قليلة من نيل الاستقلال، نبهت صحيفة لوفيجارو الصادرة بتاريخ 22 أوت 1955 الأمين باي إلى أن النظام الاستعماري هو الذي يحميه في الواقع من مشاريع إنشاء جمهورية، محذرة إياه من أن تعرض السلطة الفرنسية للتهديد في تونس يعني لا محالة انهيار سلطته بدورها "لإفساح المجال لاستبداد جمهورية تونسية فتية".
في نفس الموضوع
وعلى إثر إبرام اتفاقيات الثالث من جوان 1955 المتعلقة بالحكم الذاتي الداخلي ونيل الاستقلال التام بتاريخ 20 مارس 1956، تتابعت الأحداث بوتيرة متسارعة قبل الإعلان عن قيام الجمهورية في سياقٍ اتسم بصراعٍ دامٍ بين اليوسفيين والبورقيبيين وبحملة من المحاكمات والاعتقالات طالت معارضي بورقيبة *.
في تلك الفترة، كان الأمين الباي خَلَفُ المنصف الباي الذي كان يحظى بشعبية وبشرعية واسعة لوقوفه إلى جانب الحركة القومية، ملكاً أضعفته مختلف التجاذبات السياسية. وكانت الإطاحة بالنظام الملكي في 25 جويلية 1957 نتيجة حتمية للتمشي الممنهج الذي انطلقت شرارته منذ سنة 1955.
"سلطة منحلة"
أطنبت الصحف الناطقة باسم الحزب الحر الدستوري الجديد منذ الاستقلال في الترويج لصورة النظام الملكي كنظام بال لا يتناغم مع تطلعات "الشعب":
"إن السلالة الحسينية ذات الأصول التركية تحكم البلاد منذ قرنين ونصف. ولقد أدركها الذبول والنحول فصارت أشبه بشجرة ميتة سيجتثها الشعب التونسي وقادته. وسيتم ذلك وفق الأسلوب التونسي فلا أهواء أو مبالغات، وإنما إحساس واع مسؤول بأن ما يُنجز ليس ثورة بل عملية ضبط للأمور وترتيب لها، ليس قفزة نحو المجهول، بل هي خطوة إلى الأمام". (لاكسيون، 23 جويلية 1957)
التذكير بحقيقة أن حكم البايليك دخيل على الشعب التونسي يجعل منه بمثابة شكل من أشكال الاحتلال تعود جذوره إلى ما قبل الحماية الفرنسية، وهو احتلال وجب على الدولة الجديدة التخلص منه سعيا إلى تحقيق استقلال مزدوج. كما سعت بعض الصحف إلى التشديد على مسؤولية العرش الحسيني في فرض النظام الاستعماري الفرنسي وترسيخه:
"لا يمكن لتونس بعد تخلصها من الحماية، مواصلة وضع مصيرها بين أيدي أولئك الذين خدموا الاحتلال الفرنسي بأمانة من أجل مصالحهم الضيقة فحسب". (لو بتي ماتان، 25 جويلية 1957)
في نفس الموضوع
يوم إعلان الجمهورية، توجه وفد مكون من أحمد المستيري وزير العدل، وعلي البلهوان الكاتب العام للمجلس، وإدريس قيقة مدير الأمن الوطني، ووزراء آخرين إلى قصر قرطاج [مقر بيت الحكمة حاليا] تحت حراسة الجيش لإعلام الباي بقرار المجلس التأسيسي.
"استمع الباي، الذي كان مرتدياً جبة بيضاء وطربوشاً، إلى قرار إعلان الجمهورية الذي تلاه عليه السيد البلهوان وهو واقف ومحاط بأبنائه الثلاثة. كان شاحبا للغاية ولم يدل بأي تصريح حتى انسحب الوفد. وعلى إثر ذلك أبلغ مدير الأمن الوطني الحاكم المخلوع بقرار الحكومة وضعه رهن الإقامة الجبرية في أحد منازله بمنوبة".
اقتيدت الأميرة زكية، ابنة الأمين باي، رفقة عائلتها وأبناء الباي الآخرين إلى منوبة على متن سيارة. "وبعد نصف ساعة من السير، دخل الموكب حدائق الإقامة المؤقتة الجديدة للباي المخلوع وهي عبارة عن مبنى كبير أصفر اللون مكون من طابق واحد ويحيط به عناصر من الحرس الوطني". (لو بتي ماتان، 26 جويلية 1957)
وُضعت الأسرة الملكية تحت الإقامة الجبرية في هذا القصر الكائن بمنوبة. وتُشير الشهادات التي أدلى بها أحفاد الأمين باي إلى حالة الفاقة التي كان يعيشها أفراد الأسرة بكبيرهم وصغيرهم. يستحضر فخري المحرزي، أحد أحفاد آخر البايات، الظروف التي احتُجزت فيها الأسرة:
"كلما تظاهر أحدنا بالإطلال خارج إحدى النوافذ، صوب أحد الحراس سلاحه نحونا. لم يكن بإمكاننا النوم ليلا بسبب تعمد بعض الحراس دحرجة أحجار كبيرة فوق السطح". (مقتطفات من بايات تونس، نظام ملكي في مهب عاصفة استعمارية، شريط وثائقي لمحمود بن محمود، متوفر هنا )
صادرت الدولة إلي أعقاب ذلك ممتلكات الأسرة الملكية واتهمتها بحيازة مكاسب غير مشروعة. ولم يتوان الحزب الحر الدستوري الجديد عن شن حملة مناهضة للمُلُكية، متهما البايات ودائرتهم المقربة في أكثر من مناسبة بالإثراء على ظهر الشعب.
غير أن مصادرة الممتلكات المنقولة وغير المنقولة للعائلة الملكية جاءت مخيبة لآمال الدولة حيث لم تكن العائلة على ما يبدو تنعم بثروات طائلة في نهاية عهدها، بل تقلصت ثروتها وكانت ترزح تحت ثقل الديون على مدى القرن العشرين*.
مع اقتراب يوم 25 جويلية 1957 من نهايته وفي نفس الوقت الذي أخبر فيه الوزراء الباي بقرار عزله، غادر الحبيب بورقيبة قصر باردو ليجوب الشوارع المحاذية في خيلاء.
ميلاد الجمهورية
لئن كان الخبر متوقعا، لم يدبّ النشاط في المدينة إلا في نهاية اليوم إثر الإعلان عنه في العشية.
"سرعان ما دبت الحركة في العاصمة، مكبرات الصوت تبث قرارات المجلس بينما تعالى الهتاف باسم "الجمهورية" عدة مرات. يبدأ الحشد الذي كان متجمهرا إلى حد الآن في باردو بالانتشار في شوارع العاصمة. شماريخ نارية تُطلق. قرابة الثامنة مساءً، يعبر الموكب الرئاسي العاصمة تحت وابل من التصفيق والهتافات باسم رئيس الجمهورية. وستستمر الاحتفالات طوال الليل". (لابراس، 26 جويلية 1957)
أثر الحدث على المواطنين لا بشكل جماعي فقط بل على المستوى الفردي كذلك. حيث أُطلق اسم "الجمهورية" على مولودة رأت النور في صبيحة ذلك اليوم في نفس الحي على بُعد بضع عشرات من الأمتار من قصر باردو تمجيدا لهذا اليوم التاريخي مثلما يشهد على ذلك إعلان ورد في جريدة الصباح بتاريخ 28 جويلية 1957:
باتصالنا بها حول هذا الموضوع، استحضرت رفيقة الإينوبلي، ابنة محمد الطيب الدريدي البكر، وقائع ذلك اليوم:
"أذكر ذلك كما لو جد بالأمس، كنت في السابعة من عمري. كان المنزل حينها في حالة غليان حيث كانت والدتي توشك على الولادة. كان والدي مرتبكًا للغاية في ذلك الصباح ولم يكن يدري ما إذا كان عليه مواصلة الاستماع إلى الخطب التي يبثها المذياع أو التثبت من وضع والدتي، كان يعتريه القلق فمن ناحية، كان هنالك هذا الحدث المشهود، الباي بجلالة قدره على شفا الإطاحة به، ومن ناحية أخرى، حدث خاص يتمثل في هذا المولود المنتظر. كنا نشهد ولادتين في ذلك اليوم وإن كان وضع مولودة جديدة يفوق ولادة الجمهورية أهمية. في مساء ذلك اليوم، عمت الاحتفالات جميع شوارع باردو وسط فرحة عارمة. كانت والدتي قد أنجبت لتوها ولم تتمكن من الخروج لضرورة ملازمتها الفراش. كانت مهتمة للغاية بالشأن السياسي ولكن في ذلك اليوم بالذات، لم يعد بورقيبة والجمهورية يعنيان لها شيئًا. في المقابل، في يوم الذكرى الأولى للجمهورية، أحيى علي الرياحي ومطربون آخرون حفلا بباردو فاصطحبتنا إليه."
كما أوضحت أنه فيما يتعلق باختيار الأسماء، كان من الشائع في سياق ذلك الوقت إطلاق أسماء مرتبطة بالأحداث السياسية على المولودات والمواليد الجدد:
"بالتزامن مع نيل الاستقلال، أطلق الكثيرون على أطفالهم اسم "استقلال". كذلك الشأن في غرة جوان 1955 [عودة بورقيبة إلى أراضي الوطن، "عيد النصر"] حيث اختار الكثيرون لأبنائهم أسماء "نصر" أو "انتصار" أو "منتصر". رأى والدي أن الفرصة كانت مواتية لمنح ابنته اسمًا يمجد هذا الحدث التاريخي لولادتها في نفس اليوم. أظنه كان سعيدًا بإعلان الجمهورية. غير أن والدتي انتقت اسمًا أخف وقعا على السمع فاكتفى والدي بـ"جمهورية" كاسم وسط لأختي."
عُقد أول زواج مدني في تاريخ البلاد بعد أقل من أسبوعين من إعلان الجمهورية في تونس العاصمة بتاريخ 6 أوت 1957 وجمع فاطمة الجيلاني بصلاح الدين بالي في بلدية تونس وبحضور شيخ المدينة علي البلهوان. وتجدر الإشارة أن زيجات التونسيين.ات قبل تغيير النظام كانت تتم في إطار ديني، سواء كان مسلما أو يهوديا.
تميزت الأيام الموالية للإعلان على قيام الجمهورية باعتراف مختلف المؤسسات الوطنية بالنظام الجديد، واستُبدلت الصيغة الشعائرية المعتادة "حفظ الله أميرنا وجميع الأمراء المسلمين" في صلاة الجمعة المقامة يوم 26 جويلية 1956 بجامع الزيتونة، بدعاء جديد:
"حفظ الله مجاهدنا الأكبر وحكومته وجميع قادة الشعوب الإسلامية".
كما حرصت الصحف على الترويج لصورة لُحمة وطنية حول شكل الدولة الجديد وقدمت وفود من وجهاء مختلف أرجاء البلاد والعديد من المنظمات وممثلي مختلف الديانات تهانيها للرئيس بورقيبة معربةً عن اعترافها بقيام الجمهورية.
لكن الاعتراف بالجمهورية على الصعيد الدولي لم يكن فوريًا خصوصا بين الأنظمة الملكية المجاورة التي سارعت بالتعبير عن تحفظاتها. فبمجرد الانتقادات الأولى التي استهدفت الحكم الملكي الحسيني، غادر سفير المملكة الليبية المتحدة (أول دولة مغاربية تنال الاستقلال في 24 ديسمبر 1951) اجتماع المجلس التأسيسي. وبعد مضي أسبوعين من ذلك اعترفت المملكة الليبية بالجمهورية التونسية تحديدا يوم 6 أوت 1957.
كما لم يصدر عن المملكة المغربية، المستقلة منذ 2 مارس 1956، أي رد فعل.
"لم يُعرب المغرب عن أي موقف رسمي إلى حد هذه الساعة [...]. التزم القصر الملكي بالصمت كما لا تزال وزارة الخارجية متحفظة، إضافة إلى امتناع الإذاعة الوطنية المغربية عن كل تعليق وعدم نشر الصحيفة اليومية "العهد الجديد" ذات الميول الحكومية لإرساليات وكالات الأنباء حول هذه الأحداث إلى حد يوم الأربعاء ظهرًا." (لوموند، 26 جويلية 1957)
أخيرا أعربت الرباط في بيان عن "أسفها" لتغيير النظام في تونس وصرح معلق سياسي عن إذاعة المغرب:
"نتساءل عما إذا كان قرار المجلس التأسيسي التونسي يستجيب حقًا لإرادة الشعب [...] كما نتساءل عما إذا كان الوقت مناسبا لاتخاذ مثل هذا الإجراء نظرا إلى أن بلدان شمال إفريقيا مازلت تشهد فترة انتقالية وأن الحرب لا تزال مستمرة في الجزائر".
ولم تعترف وزارة الخارجية المغربية رسميا بإرساء النظام الجمهوري التونسي الجديد إلا يوم 3 أوت.
"إرادة الشعب"
جاء الخطاب الرسمي المتعلق بقيام الجمهورية مشددا على صبغته "الناعمة" (لاكسيون، 29 جويلية 1957) ومصورا هذا الحدث كتتويج لمسار طبيعي ينبثق قبل كل شيء من إرادة الشعب ويمثل طريقة لخلاصه:
"كان الشعب التونسي يرنو إلى زوال نظام ملكي يكن له الازدراء". (لاكسيون، 29 جويلية 1957)
وبالتالي لم يكن يُنظر إلى الجمهورية كنظام حكم كفيل بتحقيق التطلعات الشعبية فحسب بل كنظام يخفي في طياته وعودا بسيادة لا تشوبها شائبة:
"من هنا فصاعدا، سيكون كل مواطن تونسي شريكا في سلطة الدولة. لن يكون هناك بعد الآن حاجز بين الممثلين المنبثقين من الإرادة الشعبية والماسكين بالسلطة [...]. الإرادة الوطنية والشأن الوطني يتجليان في الشعب وينبثقان عنه." (لو بتي ماتان، 25 جويلية 1957)
غير أنه ولئن قُدم مشروع الحزب الحر الدستوري الجديد كفكرٍ يتيح نفاذ الشعب إلى السيادة، فقد وضع في الواقع حرية التصرف المطلقة بين يدي شخص واحد، وكانت الخطب التي تغنت بحلول العهد الجديد تستعمل الشعب استعمالا وظيفيا واعتبرته بالأحرى "مفهوما متخيلا أو متوهما يستعمله زعيم أو حزب من أجل بلوغ السلطة". *
"ملك على رأس الجمهورية"
يركز الدستور الذي صاغه المجلس التأسيسي والصادر في غرة جوان 1959 جميع السلطات في يدي رئيس الجمهورية دون غيره. فهو يسمح "لا فقط بتخطي الوظيفة التشريعية بل بالسيطرة أيضا على السلطة القضائية" من خلال "منح رئيس الدولة سلطة حقيقية على القضاة تجعل من استقلاليتهم أمرا نسبيًا". كما يمسك رئيس الدولة بكامل السلطة التنفيذية ويجمع بين وظائف رئيس الدولة ورئيس الحكومة.
"لم يكن بورقيبة يبغي إهانة الأمين باي بقدر ما كان يسعى إلى تجنب الازدواجية في رأس السلطة. إذ يعتبر الرئيس المستقبلي أن الزعامة مسألة فردية لا تحتمل تقاسم السلطة. فالدولة الجديدة التي ستُبنى على أنقاض المخزن يجب أن تكون جديدة بشكل جذري [...] وأن تُكتب على ورقة بيضاء بما يعني أن بورقيبة يدشن حكمه الشخصي وليس خلفا لأي كان".*
ومثلما أن الحبيب بورقيبة ليس خلفا لأي كان، سارت الأمور وكأن لا أحد يخلفه هو الآخر إذ أُدخل في 18 مارس 1975 تعديل على الدستور يسند رئاسة الجمهورية مدى الحياة إلى بورقيبة، كما تشهد على ذلك اللافتات المعلقة خلال خطبه والتي خُط عليها "بورقيبة إلى الأبد". لكن بعد ثلاثين عامًا من تقلده منصب رئيس الجمهورية، عزله وزيره الأول آنذاك زين العابدين بن علي في 7 نوفمبر 1987.
في نفس الموضوع
يوم 25 جويلية، الدستور والرئيس
نُقح دستور 1959 في العديد من المناسبات منذ تولي بن علي الحكم، ففي 25 جويلية 1988 حصر الدستور في صيغته المعدلة عدد الولايات الرئاسية في ثلاث كحد أقصى، ملغيا بذلك الرئاسة مدى الحياة (تم التراجع عن ذلك مرة أخرى سنة 2002). ولم يكن من محض الصدفة أن يوافق التعديل الدستوري الأول الذي جد في عهد بن علي أول احتفال بعيد الجمهورية منذ توليه الرئاسة. ذلك أنه منذ سنة 1957 ارتبط تاريخ 25 جويلية رمزيا بمحطات تاريخية فارقة.
إذ شهد يوم 25 جويلية 2013 حادثة اغتيال نائب الجبهة الشعبية محمد البراهمي لدى مغادرته منزله، أي بعد مضي ستة أشهر من اغتيال شكري بلعيد في 6 فيفري. وعلى إثر اغتياله، نُظمت مظاهرات يومية حاشدة عُرفت بـ'اعتصام الرحيل' في باردو، طالب فيها المتظاهرون باستقالة الحكومة وحتى بحل المجلس التأسيسي. انشق في تلك الفترة 42 نائبا من المعارضة عن المجلس، مما أدى إلى توقف أعماله اعتبارا من 6 أوت.
وفي 25 جويلية 2019، غيب الموت الرئيس الباجي قايد السبسي خلال فترة ولايته التي بدأت في 31 ديسمبر 2014 وقد طغت مراسم جنازته وإحياء الذكرى الأولى لوفاته عام 2020 على الاحتفال بذكرى إعلان الجمهورية.
أما في 25 جويلية 2021، فقد طالب المئات من المتظاهرين والمتظاهرات في باردو بحل مجلس نواب الشعب. وفعل الرئيس قيس سعيد في مساء نفس اليوم الفصل 80 من الدستور معلنا عن إقالة الحكومة وتجميد أعمال المجلس. كما اقترن تاريخ 25 جويلية 2022 بتنظيم استفتاء شعبي للتصويت على مشروع دستور جديد يعزز من صلاحيات رئيس الجمهورية.
في نفس الموضوع
هذا التاريخ الذي طالما وُظف بشكل رمزي ينطوي إذاً على أسطورة ودلالة ملتصقة به. وإلى جانب توظيفه بصفة متكررة، فإن ارتباطه بالمشاريع الدستورية مثل الحيز الأكبر من الأحداث المفصلية التي بصمته. ذلك أن المسألة الدستورية شكلت الهاجس الأكبر على مدى قرن كامل من الاضطرابات السياسية كما لو كانت محفورة في جينات الحياة السياسية التونسية. وبالعودة إلى التاريخ، فإن أبرز مطالب الحزب الحر الدستوري المؤسس عام 1920 كانت تتمثل في إنشاء دستور تونسي داخل برلمان تونسي. واحتفظ الحزب الحر الدستوري الجديد وليد الانشقاق عن الحزب الأول في سنة 1934 بنفس المرجعية الدستورية وسعى إلى تطبيق برنامجه المدرج في هويته الأصلية فور وصوله إلى السلطة بالتزامن مع نيل الاستقلال.
تكرر الإشارات إلى الدستور منذ الاستقلال تُبرره إرث يمتد على عقود من النضالات والتحولات الانتقالية، لكن هذا التشبع يكرس في ذات الوقت عملية صياغة الدستور وتعديله كالمشروع السياسي والأفق الوحيد الممكن.
لا يمكن التغافل عن تشابه فحوى مسودة دستور 2022 بعدة عناصر من تاريخ 25 جويلية 1957: منح كامل الصلاحيات للرئيس والتشديد على إرادة الشعب والتكلم بلسانه وادعاء إنقاذه من خطر محدق لا حول له تجاهه، علاوة على فكرة إعادة التأسيس والتخليد وصنع التاريخ.
ومن خلال قطعه مع دستوري 1959 و 2014 عبر تغييبهما ومحاولة توظيف تاريخ 25 جويلية مع إفراغه من ماضيه، فإن المشروع السياسي الحالي ليس في حقيقة الأمر سوى تواصلا لتاريخ طويل يتغذى من هاجس محورية الدستور وتسكنه ظلال شخصيات رئاسية مسيطرة.