الدول التي تستورد منها تونس حاجياتها من الحبوب (2017-2019)
المصدر : (The Observatory of Economic Complexity (OEC
عالميا، تؤمن روسيا وأوكرانيا معا أكثر من ثلث الصادرات العالمية للحبوب* حيث تستحوذ منطقة حوض البحر الأسود على مكانة أساسية في الإنتاج والعرض العالميين للأغذية. وتُعتبر روسيا أوّل مصدّر للقمح في العالم، فيما تحتلّ أوكرانيا المرتبة الخامسة.
مما يفسر المخاوف على إمدادات الحبوب أنه وبمجرد الإعلان عن بدء العمليات العسكرية في أوكرانيا نهاية شهر فيفري، بلغت أسعار المواد الغذائية أعلى مستوى لها على الإطلاق وفق منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "فاو" (FAO) إذ سجّلت الأسعار العالمية للقمح والشعير على سبيل المثال ارتفاعًا بنسبة 31% مقارنة بالسنة الفارطة.
"للحرب تداعيات ملحوظة على الأمن الغذائي. سوف تؤثر بشكل خاص على البلدان التي تعتمد على روسيا وأوكرانيا لتأمين نسبة تتراوح بين 30 % أو أكثر من إمداداتها من القمح. والعديد من هذه البلدان هي من الدول الأقل نموًا أو البلدان المنخفضة الدخل أو ذات العجز الغذائي والواقعة في أفريقيا الشمالية وآسيا والشرق الأدنى." منظمة الأغذية والزراعة.
ومن المرجّح، حسب نفس المنظمة، أن تؤدي البلدان المعتمدة على واردات القمح -ومنها تونس- إلى رفع الكميات المطلوبة بشدة، ما يمارس ضغطًا إضافيًا على العرض العالمي. وينذر تواصل الحرب منذ الرابع والعشرين من فيفري 2022 بتفاقم أزمة غذائية عالمية قد ترمي بظلالها على أكثر من 50 بلدا.
تداعيات الحرب على الوصول إلى الغذاء
وفقا لموقعهما المفصلّي في إنتاج الحبوب وتصديرها في العالم، يتسبّب أي اختلال في الأنشطة الزراعية والتجارة لأحد هذين البلدين أو كليهما، في اضطراب الإمدادات العالمية للحبوب وكذلك في أسعارها.
ففي أوكرانيا، تكون محاصيل الحبوب في موسم الزراعة الربيعي في العادة جاهزة لحصادها مع بداية الصيف، ولكن في السياق الحالي لا يمكن توقع قدرة الفلاحين في أوكرانيا على حصادها وتسليمها إلى الأسواق. كما أدّى النزوح الكثيف للسكان إلى خفض أعداد اليد العاملة والعمّال الزراعيين وسيكون من الصعب الوصول إلى الحقول الزراعية. ولهذا السبب أعلنت السلطات الأوكرانية يوم 03 مارس 2022 حظر تصدير القمح من أجل "منع حدوث 'أزمة إنسانية في أوكرانيا'، و'تحقيق الاستقرار في السوق' و' تلبية احتياجات السكان في المنتجات الغذائية الهامة'."
في الجانب الآخر، ماتزال الموانئ الروسية الواقعة على البحر الأسود تعمل حتى الآن، ومن غير المتوقع حدوث أي اختلال ملحوظ في الإنتاج الزراعي في الأجل القصير. غير أنّ العقوبات المالية المفروضة على روسيا قد تؤدي إلى نقص الإمدادات العالمية من القمح باعتبارها أول دولة منتجة له في العالم.
"لا تزال حدة هذا الصراع ومدته غير معروفتين. ومن شأن الاختلالات المحتملة في الأنشطة الزراعية لدى هذين المصدّرين الرئيسيين للسلع الأساسية أن تؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي في العالم بشكل خطير، في ظلّ الارتفاع الحالي للأسعار الدولية للأغذية والمدخلات وتقلّباتها." منظمة الأغذية والزراعة.
يتزايد في نفس الوقت مع تعاظم المواجهات العسكرية، عدد الدول التي أعلنت حظر تصدير مجموعة من المواد الغذائية من أجل حماية أمنها الغذائي المحلي، ليبلغ 13 دولة على رأسها روسيا . فعلاوة على إعلانها أوليّا تعليق صادرات الأسمدة مؤقتاً يوم 10 مارس، عادت لتعلن فرضها قيودًا على صادرات الحبوب إلى أربع دول كانت جزءًا من الاتحاد السوفياتي السابق من أجل تجنّب الشحّ وارتفاع الأسعار. الأمر الذي حذّرت منه منظمة الأغذية والزّراعة في بيان لها مبينة أنه "من شأن خفض التعريفات الجمركية على الواردات أو استخدام القيود على الصادرات أن يساعد على المدى القصير في التصدي لتحديات الأمن الغذائي لبلدان بعينها، ولكنهما سيؤديان أيضًا إلى رفع الأسعار في الأسواق العالمية."
تونس تعتمد على الحبوب في ضمان أمنها الغذائي
يرتكز النمط الغذائي التونسي حسب المسح الوطني حول تغذية الأسر، بالأساس على الحبوب. إذأن متوسط الاستهلاك السنوي من هذه المادة يقارب 174.3 كغ للفرد. ويختلف نمط الاستهلاك حسب وسط الإقامة إذ أن متوسط الاستهلاك الفردي من الحبوب بالوسط غير البلدي يفوق متوسط الاستهلاك الفردي بالوسط البلدي بأكثر من 30 كغ، إضافة إلى أن الحبوب تؤمن حوالي النصف أو أكثر بالنسبة للسعرات الحرارية والزلاليات والحديد.
ويستهلك التونسيون والتونسيات أكثر من 3 مليون طن من الحبوب سنويا موزعة بصفة متقاربة بين القمح الصلب والقمح اللين والشعير على مدى السنوات السابقة.
كمية الاستهلاك الوطني من الحبوب (2018- 2021)
المصدر : ديوان الحبوب
ارتباطا بما سبق وإذا تحدثنا عن تعريف الأمن الغذائي ، فيختلف مفهومه الحالي عن المفهوم القديم الذي كان يرتبط بتحقيق الاكتفاء الذاتي باعتماد الدولة على مواردها وإمكاناتها في إنتاج احتياجاتها الغذائية محليا. وأصبح يرتبط أو "يتحقق عندما يتاح لجميع الناس، في جميع الأوقات، الوصول المادي والاقتصادي إلى أغذية كافية وآمنة ومغذية تلبي احتياجاتهم الغذائية وتوفير طعامهم المُفضل من أجل حياة نشطة وصحية". وهذا الاختلاف حسب تعريف منظّمة الأغذية والزراعة هو الأكثر انسجاما مع التحولات الاقتصادية الحاضرة فهو يمكن الدول من تحمل زيادة استهلاك الغذاء المطردة ومعادلة تقلبات الإنتاج والأسعار.
التبعية لضمان الأمن الغذائي
تعتمد تونس في ضمان أمنها الغذائي على الخارج، عبر شراء حوالي ثلثي حاجياتها من الحبوب. وهي تبعية ما فتئت تتعمّق في السنوات الأخيرة خاصة مع تداعيات أزمة كوفيد-19 على كميات الإنتاج العالمي من الحبوب وأسعارها، فلا يغطيّ الإنتاج المحلي للحبوب سوى جزءا ضئيلا من مجمل حاجيات التونسيين والتونسيات.
يحتكر الديوان الوطني للحبوب نشاط التوريد لتغطية حاجيات البلاد التي لا يؤمنها الإنتاج المحلي. ويوفر الديوان هذه الحاجيات عن طريق طلبات عروض دولية مضيقة تصدر للغرض كلما تأكدت جدوى الشراء. تحدد لجنة الشراءات صلب ديوان الحبوب، حسب المدير العام للإنتاج الفلاحي عبد الفتاح سعيد، طلباتها وفق المخزون الذي يغطّي وجوبا 4 أشهر من الإستهلاك ووفق سعر الحبوب في الأسواق العالمية. وتنشر لجنة الشراءات كل شهر طلبات عروض لتعويض ما تم استهلاكه. يفصّل سعيد عملية الشراء: "تقع طلبات العروض على المزودين الذين يقترحون السعر الأدنى مع الأخذ بعين الاعتبار المواصفات التي نطالب بها في تونس حسب النوعية".
"نحن لا نملك طاقة خزن كبيرة. أحيانا يسجل السوق انخفاضا في الأسعار ولا نقدر على شراء الحبوب لأننا لا نجد أين نخزّنه. وهذا يعود لكون طاقة الخزن الجمليّة بين ديوان الحبوب والخواص لا تتجاوز 1.4 مليون طن." عبد الفتاح سعيد، المدير العام للإنتاج الفلاحي بوزارة الفلاحة
عادةً تتزوّد تونس من الحبوب وفق روزنامة إنتاج الحبوب العالمية تزامنا مع مواسم الحصاد الخاصة بكلّ جهة في العالم، ذلك أن الأسعار تنخفض عند الوفرة. ففي فصل الخريف، تستورد محاصيل القمح الربيعيّ من أوروبا الشرقية ودول حوض البحر الأسود. وتعتمد في الشتاء على محاصيل أمريكا الشمالية وجنوب أمريكا. وتلجأ إلى الاستيراد من المخزونات الاستراتيجية لكبرى الدول المنتجة غرب أوروبا، أو دول حوض البحر الأسود في الفترات المتبقية من السنة، وتعتمد في فصل الصّيف بالأساس على محاصيل الإنتاج المحلّي.
نسبة الحبوب المستوردة من إجمالي الحاجيات الوطنية (2018- 2021)
المصدر : ديوان الحبوب
بالنسبة للإنتاج المحلّي، يتولى ديوان الحبوب الإشراف والتنظيم ومراقبة عمليات التجميع وقبول كامل كميات الحبوب المجمعة من قبل مؤسسات التجميع وخزنها وبيعها. إلاّ أنّ الفرق يظل شاسعا بين كمية الحبوب المنتجة سنويا، وكمية الحبوب المجمّعة من قبل الديوان. يوضّح ذلك عبد الفتاح سعيد، المدير العام للإنتاج الفلاحي بوزارة الفلاحة قائلا : "نحن ننتج قرابة 1.6 مليون طن سنويا لا يتم خزن سوى نصفها تقريبا لدى ديوان الحبوب". ويفسر المدير العام عجز الدولة عن تجميع كل محاصيل الحبوب بتحرير تجارة الشعير في تونس أوّلا ذلك أنّ الانتاج المحلّي يتوزع بين 450 ألف طن من الشعير، و 950 ألف طن من القمح الصلب والبقية متوزعة على الأنواع الأخرى من القمح اللين "التريتيكال" على حد تعبيره.
"بزيادة الطلب في السنوات الماضية على المواد الأولية للأعلاف التي ارتفعت أسعارها في الأسواق العالمية، صار المنتجون يفضّلون بيع محاصيل الشعير في السوق المحلية ولا تخزّن منها الدولة شيئا. إذا أضفنا على ذلك البذور والإستهلاك الذاتي وأيضا التهريب وعدم نجاعة مسالك التجميع، لا تجمّع الدولة سوى نصف محاصيلها من الحبوب سنويا." عبد الفتاح سعيد، المدير العام للإنتاج الفلاحي بوزارة الفلاحة
الحرب تعمّق الأزمة
"تأتي السفن في الوقت الحالي، محمّلة بوارداتنا من الحبوب بصفة عاديّة. لدينا مخزون كافي لحدود ماي أو جوان. وبعد تلك الفترة سنعتمد على 'الصّابة' التونسية التي ستعزّز مخزوناتنا. ليس لدينا إشكال في الوقت الحاضر." هكذا صرّح محمود إلياس حمزة وزير الفلاحة إجابة عن المخاوف من عدم تأمين وصول الشراءات المتعاقد بشأنها إلى الموانئ التونسيّة.
غير أنّ شبح تهديد الأمن الغذائي بدأ يلوح منذ نهاية السنة الفارطة. فقبل اندلاع الحرب وحتى قبل تصاعد المخاوف من المواجهة المسلّحة، أعلنت وكالة تونس إفريقيا للأنباء، يوم 20 ديسمبر 2021، عن بقاء 4 بواخر أجنبية محملة بالقمح والشعير والفارينة المستوردة في عرض البحر دون التمكّن من الدخول إلى ميناء صفاقس التجاري وتفريغ شحناتها بسبب عدم قدرة ديوان الحبوب على خلاص هذه المواد الأساسية. ترجع الوكالة الرسمية للأنباء ذلك إلى "تراجع مستوى التصنيف الائتماني لتونس في الأشهر الماضية والذي صارت بمقتضاه مصنفة من ضمن الدول غير القادرة على الخلاص، والذي نتج عنه اشتراط المزودين الأجانب الخلاص الفوري."
يأتي هذا في سياق زاد فيه عجز الميزان التجاري الغذائي التونسي جراء ارتفاع أسعار المواد الأساسية الناجمة عن أزمة كوفيد-19. فقفزت القيمة الجملية لاستيراد الحبوب من حوالي 513 مليون دولار سنة 2019 إلى حوالي 849 مليون دولار سنة 2021.
قيمة استيراد الحبوب بالمليون دولار (2018- 2021)
المصدر : ديوان الحبوب
ويزيد تراجع احتياطيّ العملة الصعبة في تونس إلى 127 يوما بتاريخ نشر هذا المقال، عملية التزود بالحاجيات المستوردة من الحبوب تعقيدا. ففي ارتفاع غير مسبوق لأسعار المواد الأولية الغذائية التي بلغت أرقاما قياسية، تثقل التبعية الغذائية كاهل المالية العمومية التي لا زالت تجابه تداعيات أزمة كوفيد-19.
تطور معدل سعر شراء الطن الواحد (2018 -2021)
المصدر : ديوان الحبوب
قفزت الأسعار في أواخر شهر جانفي، وذلك مرده أساسًا المخاوف من الغزو الروسي لأوكرانيا حسب آخر نشرية للمرصد التونسي للفلاحة. وفي المقابل، ومع تواصل ارتفاع أسعار الحبوب بعد بداية الحرب، اقتصرت إجراءات الدولة التونسية على بلاغ وزارة الفلاحة معلنة أنّ "ديوان الحبوب قد تمكّن خلال الفترة المنقضية من تجسيم برنامج الشراءات لتأمين تغطية حاجيات البلاد بالحبوب إلى غاية موفى شهر ماي 2022 بالنسبة للقمح الصلب والشعير، وإلى موفى شهر جوان 2022 بالنسبة للقمح الليّن." وستكون البلاد التونسيّة خلال هذه المرحلة في منأى عن الاضطرابات الناتجة عن الصراعات بمنطقة حوض البحر الأسود حسب نص البلاغ.
وبدوره لاحظ البنك المركزي في بيان له أنه في "غياب اتخاذ القرارات المناسبة بصفة عاجلة، من شأن ارتفاع الأسعار العالمية للمواد الأساسية والطاقة وتقلص النشاط لدى أهم الشركاء التجاريين إضافة إلى المناخ المتسم بالضبابية أن يؤدّي إلى تفاقم العجز الجاري ويزيد من الضغوط التضخمية خلال الفترة المقبلة".
ورغم عديد المحاولات، لم يتسنّ لانكفاضة الحصول على معلومات دقيقة حول ما قررت الحكومة، أو ديوان الحبوب، القيام به في هذا الوضع الصعب. من جهته، يؤكد المدير العام للإنتاج الفلاحي عبد الفتاح سعيد، أنّ الوزارة تنكب على تحسين مردودية الإنتاج المحلي للحبوب وتوسيع القدرة على تجميع وتخزين محاصيل هذه السنة.
"سوف نسخر هذه السنة كل الإمكانيات الموجودة لتخزين أكثر ما يمكن خزنه من المحاصيل. ومن المحتمل أن يشمل ذلك تسخير مراكز التجميع الخاصة، إضافة إلى مخازن ديوان الحبوب والأراضي الدولية" المدير العام للإنتاج الفلاحي عبد الفتاح سعيد
غير أنّ الإعتماد على المحاصيل في تأمين غذاء الأشهر القادمة لا يبدو مضمونا باعتبار تذبذب الإنتاج المحلي المرتبط تاريخيا بتغير العوامل المناخية. يقول سعيد :" الوضعية إلى حد هذه اللحظة تعتبر جيدة لكنها قابلة للتدهور وذلك حسب كمية الأمطار". بينما تظل إمدادات الأشهر اللاحقة مرتبطة بهشاشة الأوضاع الميدانية في أوكرانيا ومدى تأثر الأسواق العالمية بها.