متوفر باللغة الفرنسية

محسن، 63 سنة، متقاعد لم يتقاعد بعد، 2697 دينار في الشهر



متوفر باللغة الفرنسية

صيدلي، بائع خشب، مربي نحل… يمتهن محسن المتقاعد صاحب الـ63 سنة عديد المهن.

أيامه منظمة كدقات الساعة. في الصباح يفتح مخزن الخشب الذي يملكه ويظل هناك حتى يأتي شريكه حوالي الظهر ليحل محله. يعود عند ذلك إلى منزله لتناول الطعام ويأخذ نصيبا من الراحة قبل أداء الصلاة في نهاية العصر مع أعضاء طريقته الصوفية، وأحيانا يذهب إلى رؤية بيوت النحل خاصته التي أقامها على أرض العائلة. وأخيرا، يذهب بصفة يومية إلى الصيدلية لمد يد المساعدة واحتساء القهوة، ويتبادل أطراف الحديث عن السياسة أو كرة القدم.

محسن يعرف الصيدلاني منذ سنوات إذ تتلمذ على يده منذ ما يقرب من 50 عاما، عندما كان فتى لا يبلغ من العمر سوى 15 عاما. في ذلك الوقت، كان محسن يعمل في إحدى صيدليات قربة في الوطن القبلي. أُرسل إلى هناك ليتدرب كفني صيدلة بعد رسوبه في السنة السادسة من التعليم الابتدائية. وبعد ثلاث سنوات من الممارسة، عاد الصيدلاني ومعه تلميذه ليستقرّا في مسقط رأسهما.

وهكذا، عمل محسن لمدة خمس سنوات في الصيدلية إلى حدود عام 1979 لمّا عُرض عليه تولي منصب ممرض في المعهد الثانوي بالمدينة كون الشاب كان متضلعا في إجراء الإسعافات الأولية وإعطاء الحقن بفضل تدريبه وخبرته، وانتفع من خلال هذه الوظيفة الجديدة بسكن وظيفي. مارس الرجل هذا العمل لمدة 39 عاما حتى تقاعده الرسمي عام 2018.

في ما يلي لمحة عن مداخيله ومصاريفه الشهرية:

إضافة إلى عمله آنذاك في المعهد، دأب محسن على تقديم العون في الصيدلية وشرع في عدة مشاريع أخرى. اقترض لشراء منزل وقام بكرائه ليجني منه 290 دينارا في الشهر.

استثمر كذلك في شراء مرآب استعمله لعدد من الأنشطة حيث فتح محسن وشقيقه في البداية محل بقالة صغير استفاد من قلة المنافسة في الجوار. من ثم ارتجل في وقت لاحق وأنشأ مطعما أداره لبضعة أشهر ثم باعه عندما أصبح مربحا.

كوّن محسن في نفس الفترة صداقة مع رجل أقنعه بشراء حوالي خمسة عشر خلية بفضل قرض من وكالة النهوض بالصناعة والتجديد ونصّب النحال المبتدأ بيوت النحل هذه على أراضي مملوكة لعائلته.

"النحل يتطلب عناية كبيرة، إنه شغف حقيقي!" لاحظت أن النحل هنا لا يتغذى فقط على الكلتوس ولكن أيضًا على الزعتر، وهو ما يعطي العسل طعما خاصا. إنه من أفضل ما يوجد في تونس”.

يبيع محسن بعضا من إنتاجه من العسل ويهدي منه الكثير للأصدقاء والصديقات وأفراد العائلة.

نصحه في عام 2004 أحد أقاربه الذي يمتلك متاجر أثاث كبيرة في العاصمة بالدخول في ميدان الأخشاب، بحجة أنه مورد مربح. قدم قريبه نفسه كضامن تجاه الموردين ليساعد محسن على فتح مخزن خشب بالشراكة مع أحد أصدقائه. استثمر كل منهما 11.000 دينار، وحتى مع ارتفاع الأسعار تمكنا من تدبر أمرهما. يعلق محسن أن "هذا ما يجعلني مشغولا الآن بعد تقاعدي".

سدد محسن تدريجيا أقساط قروضه وبلغ وضعية تسمح له بالادخار. استثمر في الأرض بمجرد أن أتيحت له الفرصة وبنى منزله الذي يعيش فيه الآن مع زوجته التي يعود زواجه منها إلى عام 1986. تربطه بزوجته، جميلة، قرابة وهو يكن لها تقديرا كبيرا فتتمتع "بمزاج هادئ" مثله. حاول الزوجان إنجاب طفل لأكثر من عشر سنوات دون جدوى. ولكن الحال تغيّر عندما قرر شقيق محسن وزوجته أن يوليا مولودتهما الجديدة بعهدة محسن وجميلة. اليوم تدرس الشابة في تونس العاصمة ويزورها أبوها وأمها مرة في الأسبوع.

في كل صيف، يأخذ الستيني المتقاعد سيارته 4L القديمة ويذهب هو وزوجته وابنته في إجازة لمدة ثلاثة أسابيع  على البحر. وغالبًا ما يذهب إخوته وأخواته معهم أيضا.

المنطقة الرمادية

يقول محسن أن عمله في مخزن الخشب يتعبه كثيرا. إذ من واجباته أن ينتبه إلى المخزون والسجل النقدي وكذلك المحاسبة، خاصة أن الأسعار لا تتوقف عن الزيادة. "قريبا، سيكون الخشب الذي أبيعه منتجا فاخرا!" يقول الرجل. من جهة أخرى، يتطلب منه عمله التطوعي في الصيدلية والاعتناء ببيوت النحل الخاصة به الكثير من الوقت والطاقة و "في النهاية أنا لم أعد شابا كما ذي قبل..." يقول الستيني بتنهد.

يضيف محسن أنه كان ليصاب بالجنون "إذا توقفت عن العمل تمامًا بعد التقاعد! لا أعرف ماذا كنت عساي أفعل طوال اليوم".

بعد العمل، يأخذ الرجل لنفسه بعض الوقت الهادئ برفقة طريقته الصوفية التي انضم إليها منذ حوالي خمسة عشر عاما بدعوة من صديق له. ولكن في تلك الفترة كان يُنظر بنظرة سوء لكل ما كان مرتبطا من قريب أو من بعيد بالدين. وبعد تردد وانصياعا للفضول انتهى به الأمر إلى مقابلتهم. "كنت حذرا جدا في البداية، لكنني أدركت تدريجيا كم كان الأمر مسكّنا. يتلون القرآن بطريقة لم أكن أعرفها. كانت أكثر ليونة، وأكثر لحنا".

يوضح محسن أنه تأثر بشكل خاص بالقيم التي تدعو بها المجموعة. "يدافعون عن قيم حقيقية تشبهني مثل الإحسان والتسامح والانفتاح. إنها نظرة للدين أكثر طيبة ونحن نطبق ما ندرسه على أرض الواقع". من ذلك يقوم متّبعو هذه الطريقة بإصلاح المنازل ومساعدة المحتاجين وما إلى ذلك. كما بنى محسن، بمعية أصدقائه، مسجدا صغيرا هدفه الجمع بينهم واستقبال الفئات الأكثر حرمانا. وتمثل لقاءاتهم فرصة للاجتماع حول وجبات الأكل والنقاشات الكبيرة.

يتابع محسن: "قبل الثورة أبدت السلطات آنذاك بعض الاهتمام بنا وشرعت في اضطهادنا قليلا".

ولكن سرعان ما خبت الأمور وعادت إلى مجراها، على حد قوله، لأن المجموعة كانت مكونة من "أشخاص محترمين ومعروفين في المدينة". "ثم رأوا بعد فترة أننا لا نقصد أذى ولا نطالب بأي شيء على وجه الخصوص، لذلك تركونا وشأننا ... لكنهم لم ينقطعوا عن مراقبتنا".