وُلد الشاب في عائلة متواضعة الحال أصيلة الشمال الغربي بتونس : تعمل أمه في تنظيف المنازل بينما توفي والده بعد صراع مع المرض حين كان عمره 7 سنوات. أخته الوحيدة متزوجة ويعيش لوحده مع أمه.
حينما كان يدرس بالمعهد الثانوي، كان محمود يعاني من مشاكل ضيق التنفس التي لم تُعالج كما يجب، فكانت لها وطأة على دراسته. انقطع الشاب عن الدراسة في السنة الثانية من التعليم الثانوي وانخرط في تكوين في تركيب الألواح الشمسية ولكنه لم ينجح في الحصول على عمل.
وفي الأثناء، كان يصاحب البعض من رفاقه الذين يعملون في التهريب من الجزائر. يتنقلون للمدن الحدودية مثل ساقية سيدي يوسف بينما يساعدهم محمود في تحميل الشاحنة بالصفائح مقابل 20 دينار لكل السفرة، أربع أو خمس مرات في اليوم. يقول مؤكدا : "فعلت ذلك لأنني لم يكن بيدي خيار، كان بودي أن أعمل في أي شيء آخر إلا هذا".
في 2012، تمكن محمود من الحصول على "باتيندة" بيع مواد غذائية عامة سمحت له بالعمل لبلوغ هدفه : شراء سيارته الخاصة. وبعد أن أتم سدادها عن طريق "الليزينغ"*، أصبح بإمكانه العمل في نقل شتى أنواع البضائع. ولم يلبث الشاب أن تخلى عن الباتيندة. يعلق قائلا :"اخترت بيع المواد الغذائية العامة لأنه لا يترتب على غلقها سوى القليل من التكاليف".
بعد مضي أربع سنوات، انخرط محمود نهائيا في الكنطرة. وبفضل سفراته المنتظمة، كوّن شبكة متينة من العلاقات وقابل "الأشخاص المناسبين" على حد تعبيره. كانت لديه عدة خيارات : نقل السجائر، تبغ الشيشة، الإطارات المطاطية وغيرها… ولكن معرفته كانت تختص أكثر بالوقود. يقول بفخر : "هناك أيضا تهريب الويسكي الجزائري ولكنني لم أرد نقل بضائع حرام".
فيما يلي لمحة عن مصاريفه ومداخيله الشهرية :
لجلب صفائح الوقود من الجزائر، يمر محمود عبر مسالك جبلية تقوده لمكان آمن حيث تجلب البضائعَ حميرٌ تعرف الطريق عن ظهر قلب، فيحمّل بها الشاب شاحنته. ثم يرسل المال مع الحيوانات أو يبعثه عن طريق وسطاء.
تعقدت الأمور مع الديوانة والحدود انطلاقا من سنة 2017. حدثت أعمال ارهابية ولم تعد الوضعية آمنة وأصبحت الحدود مغلقة معظم الوقت. ولكن الشبكة تكيفت مع الوضع وظهر وسطاء في المدن الحدودية للبلاد يهتمون بجلب كل ما يجب من الجزائر. هذا الأمر يسمح للناقلين بتفادي الأخطار وفق محمود. كما أن الشرطة في هذه المدن على علم بعمليات التهريب إلا أنهم يغضون البصر مقابل الرشاوي.
يعلق : "على الحدود مع الجزائر، هنالك بلدات كاملة تختص في الكنطرة أين تبيع النساء في منازلهن شتى أنواع السلع. هناك، لا يوجد عمل آخر، وعلى كل حال، لم يعد بوسع الكثيرين شراء 'تونسي الصنع' لأن الأسعار باهظة للغاية. ولولا الجزائر لمتنا جوعا".
يشتري محمود في العادة 150 صفيحة بـ20 لتر ثمن الواحدة منها 15 دينار يتحصل الوسيط منها على دينار واحد لكل صفيحة. يقوم الشاب عموما برحلتين أو ثلاث في اليوم، أربع مرات في الأسبوع. ولكن تمر به فترات يرتفع فيها الطلب فيضطر للقيام بستة سفرات. : ثلاثة في النهار وأخرى في الليل مع سائق ثانٍ، مثل ما يحصل في أوقات موسم الحصاد حين تعمل الآلات الفلاحية بكامل طاقتها.
يبيع الصفيحة بـ19 دينار للواحدة ويجني بذلك 7200 دينار في المتوسط. يرى محمود أنه بزيادة وتيرة سفراته بإمكانه ربح المزيد، ولكن ذلك سيزيد من مصاريفه أيضا ومن عدد الرشاوي التي يمنحها للأمنيين والمهربين أو الحرس الوطني.
يسر قائلا : "للقيام بهذا العمل، لا يجب الخوف من المخاطر"
يروي محمود أن السائقين لا يترددون في شرب كأس للتغلب على هذا الخوف و"استجماع شجاعتهم" قبل الشروع في السفرة، ما أدى به لاحتساب كلفة الكحول والسجائر مع وقود السيارة وخلاص الوسطاء في مجموعة مصاريفه.
ينطلق الكناطرية عادة في مجموعة تضم ثلاثة أو أربعة سيارات في المسالك الجبلية. في المقدمة، على بعد بضعة كيلومترات، هناك "الكشاف" الذي يتمثل دوره في التفطن لتواجد الشرطة أو الحرس الوطني وتحذير رفاقه، ويمنح كل منهم للكشاف 50 دينار.
"ليس الهدف هو تفادي الإيقاف، بل لأنهم أضحوا يأخذون المزيد من المال كل مرة ! وحتى تكون السفرة مربحة يجب تفاديهم قدر الإمكان"، حسب تفسير محمود.
وفق تجربته، من المستحسن أن يوقفهم الحرس الوطني عوض الديوانة، خاصة إذا كانوا بصدد نقل الكثير من البضائع. حيث يأخذ أعوان الديوانة نسبة على كل سلعة مُصادرة وليس من السهل رشوتهم. يقول منتفضا :"في ما يتعلق بكنطرة الوقود، يأخذ الحرس الوطني من 20 إلى 30 دينارا على كل سفرة ! أما بالنسبة للديوانة فقد يبلغ الأمر 100 أو 150 دينار خاصة إذا رأوك تمرّ عدة مرات. "
فيما يلي تفاصيل مداخيله ومصاريفه الشهرية :
يجد محمود صعوبة في تحديد مصاريفه اليومية. إذ أنه يعطي لأمه نقودا ويهتم بحاجيات المنزل. كما ينبغي عليه أن ينفق 120 دينار شهريا على الأدوية ومستنشقات ضيق التنفس الخاصة به.
أما في ما يخص الترفيه فإنه لا يتوانى عن ذلك، فبعد إتمام سفراته يعود محمود للمنزل ليستحم قبل الذهاب للمقهى للعب الورق أو مراودة الحانات مع أصدقائه. "يكلفني الكحول والسهرات الكثير، خاصة حين نذهب للعلب الليلية في تونس أو سوسة".
تضاف لكل ذلك 320 دينار أخرى ثمنا للسجائر إلى جانب تلك التي يشتريها حين يذهب إلى الحدود. وعلاوة على ذلك، يهوى الشاب شراء الملابس ولا يتردد في إنفاق 400 دينار شهريا عليها.
يهب محمود الكثير لمن هم·ـن حوله أيضا : يعين جاره على سداد فاتورة الماء، ويشتري حاجيات عائلة معوزة أو يأخذ والد أحد أصدقائه إلى عيادة الطبيب إلخ. من الصعب عليه وضع رقم على هذه النفقات ولكن يلخّص حاله قائلا : "طالما بحوزتي مال سأنفقه".
المنطقة الرمادية
لم تمنع الأزمة الصحية وما ترتب عنها من غلق للحدود محمود من مواصلة عمله. ووجد وسيلة للحصول على الوقود بمساعدة أحد أصدقائه. شرع الاثنان في سرقة شاحنات الإسمنت المتوجهة نحو الجزائر وتفريغ خزاناتها. وقد يتحصل محمود بذلك على 40 صفيحة ملأى بالوقود. بعد ذلك، وحتى لا يجلب لنفسه المشاكل، نجح الشاب في الاتفاق مع بعض الساقة : يسدد الخزان بثمنه الجزائري، 15 مليما للتر، ويقول مضيفا : "بما أنه ليس من المفترض على السائق العودة بالخزانات مليئة، يمكنه الاحتفاظ بالنقود لنفسه".
ومنذ تحسن الوضع الصحي، استطاع محمود العودة لسابق نشاطه. إلا أن الكناطري وقع في مشاكل مع الشرطة، وهو أمر اعتاد عليه إذ حدث وأن اضطر للهرب من قوات الأمن. يروي بنبرة ماكرة : "الأهم في هذه المواقف هو ألا تترك الشرطة تتجاوزك". تضاف إلى ذلك تقنية أخرى وهي تعزيز مصد السيارة الخلفي لتصطدم به الشرطة. في العادة تنفذ السيارة ببعض الخدوش لا أكثر.
ولكن هذه المرة، أُلقي القبض عليه من طرف الأمن والديوانة ولم يقدر على رشوتهم، "لم يريدوا المال" حسب روايته. أوقف ثم أُطلق سراحه في عشية نفس اليوم وبقيت سيارته وبضاعته تحت المصادرة. وحتى يستعيد سيارته، وجب عليه خلاص خطية باهظة : السعر التونسي لكل صفيحة ضارب 100، وفق تأكيده.
"تفطنت إثر ذلك أن المحرك تم تعديله ولم تعد السيارة تنفع بشيء الآن"
لو تفطن لذلك وقتها لما ذهب لاستعادتها. يستحضر متمعنا : "لست متأكدا إذا كان لديهم الحق في فعل ذلك، ربما كان يجب علي رفع شكوى".
في الأثناء، لم يعد الشاب قادرا على العمل وأصبح يعول على أمه لمنحه بعض المال، الأمر الذي سبب له ألما كبيرا. "وددت لو كان العكس هو الصحيح…"
المستقبل
أضحى محمود مضطرا لإيجاد وسيلة لشراء سيارة أخرى أو تغيير محرك سيارته في الجزائر ما سيكلفه أقل. كما يأمل في العودة للكنطرة وبناء بيت صغير وشراء قطعة أرض خسرها والده حين كان حيا.
يقول مستشرفا : "هذه المرة لن أعيد نفس الأخطاء، سأفعل مثل الآخرين وأشتري ممتلكات". وفق قوله، لن يواجه أي صعوبات في تبييض الأموال بعد ذلك. ويبقى هدفه الأساسي هو تلبية حاجيات أمه والزواج في نهاية المطاف.
وعندما يبلغ أهدافه، يود محمود إيجاد وظيفة "سويّة" كموظف مثلا. يخلص ضاحكا : "هذه الوظائف ممتازة !"