اليوم، نزيهة لا تكاد تقدر على إخفاء سرورها. لقد سمحت لنفسها أخيرا ببعض الإسراف: طلاء جدران الاستوديو الخاص بها. كانت تحبّذ اللون الرّمادي. إلّا أنّها ليس لديها ترف الإختيار وعليها الرّضا باللون الأزرق السماوي، ذلك كلّ ما تبقّى من الطّلاء للدّهّان.
قرّرت نزيهة البالغة من العمر 62 سنة التقاعد بعد العمل لعدة سنوات في مدرسة دينية خاصة. "العمل مع الأطفال أمر رائع ولكنه مرهق، وفي سني المتقدّم أشعر أن لي الحق في بعض الراحة!".
نظرًا لأنها عملت لمدة 8 سنوات فقط، لا يمكن لنزيهة المطالبة بالمعاش التقاعدي الحكومي الذي يستلزم 10 سنوات على الأقل من العمل. في السابق، كانت السيّدة عاطلة عن العمل وتقوم ببعض الوظائف العرضية، ما جعلها غير قادرة على دفع نصيبها من المساهمات في صندوق الضمان الإجتماعي. والآن، عليها أن تكتفي بالعيش على 100 دينار يدفعها زوجها السابق و 200 دينار يرسلها لها شقيقها من الخارج.
تغيرت الظروف المعيشية لنزيهة كثيرًا في السنوات الأخيرة. تؤكّد المرأة أنها تلقّت وحيا أثناء صلاتها قررت على إثره ارتداء النقاب. هذا الخيار أدّى إلى تقليص فرص عملها بشكل كبير، كما أنّ عائلتها حاولت مرارًا إقناعها بنزعه دون جدوى.
في الشارع، أصبحت معتادة على نظرات الناس، لكنها لا زالت تعاني إلى حدّ الآن من ترهيب الشرطة التي استدعتها إلى المركز عديد المرات دون سبب وجيه.
تقول مؤكّدة: "يفعلون ذلك لإهانتي لا غير، ولكن ينجم عنه تأثير معاكس يقوّي من إيماني" .
فيما يلي لمحة عن مداخيلها ومصاريفها الشهرية:
في الماضي، كان أسلوب حياتها مختلفًا تمامًا. تتذكر نزيهة مدى استمتاعها بزيارة صديقات لها في الساحل. كانت في بعض الأحيان تأخذ سيارتها وتغادر لقضاء عطلة نهاية الأسبوع. كانت تنفق مئات الدنانير على البنزين والهدايا والجلسات في المقاهي. ولكن الآن، وبما أنّها عاطلة عن العمل وتقضّي معظم وقتها في المنزل، فإنها لم تعد تنفق سوى على الحاجيات الأساسية: الطعام والملابس والفواتير والهاتف وبعض الرعاية الطبية إذا لزم الأمر. تلخّص قائلة: "جاءت الأزمة في الوقت المناسب على كل حال، لم يعد بإمكاننا التحرك ولم تعد لديّ الموارد للخروج".
تنفق نزيهة شهريا في المتوسّط 250 دينارا لقضاء حاجياتها التي تتمثل أساسا في الطعام ومواد التنظيف والتجميل التي نادرا ما تستعملها. أحيانا، تهديها صاحباتها أو أختها عبوة عطر أو كريم للبشرة أو شامبو، تخبّؤها طيلة أشهر.
أمّا فيما يتعلق الأمر بالفواتير، فقد تمكّنت نزيهة من الحد من استهلاكها للمياه بطريقة خاصة بها. لغسل الأطباق، تقوم بتشغيل الماء البارد في دلو بانتظار وصول الماء الساخن. ثمّ تستعمل الماء البارد الذي جمّعته لتصريف المرحاض، وبذلك لا تستخدم أبداً سيفون المياه. بالنسبة للوضوء، تستخدم كوباً ولا تترك الحنفية تجري. وبهذه الطريقة لا تتجاوز فاتورة المياه 20 دينارًا في الثلاثي. تعترف المرأة قائلة: "أنا موهوبة فعلا في توفير المياه، على عكس الكهرباء".
لتدفئة نفسها في الشتاء، تستخدم سخانًا كهربائيًا صغيرًا. وفي الصيف، تقوم أحيانًا بتشغيل مكيف الهواء. تتفاوت فواتيرها حسب المواسم لكنها تظل مستقرة عند حوالي 100 دينار لكل ثلاثي. بالنسبة للهاتف، تنفق حوالي 20 دينارًا على المكالمات و 30 دينارًا على الإنترنت.
تعلم نزيهة يقينا أنّ لا مفرّ من التوفير للخروج من الضيق. في السنة الماضية، أنقصت من مصاريف الطّعام لدرجة أنّها فقدت بعض الوزن ولم تعد لها القوّة لأداء صوم رمضان. ومنذ ذلك الحين، قرّرت ألّا تقتصد مجدّدا في شراء الغلال والخضروات "لتحافظ على صحّتها" على حدّ قولها. ولكنّها رغم ذلك ملزمة بتجاهل أطعمة أخرى كالفواكه الجافّة التي علّقت شراءها إلى أن يأتي ما يخالف ذلك.
بالنسبة للملابس، تراود نزيهة أسواق الملابس المستعملة للعثور على أقمشة لخياطة فساتينها ونقابها، حيث تنفق حوالي 15 دينارًا شهريًا. تتحكّم المرأة في نفقاتها بعناية، باستثناء واحد: "يجب أن تكون الجوارب ذات نوعية جيدة، ويجب أن تكون فاخرة لأنني أكره الثقوب!".
فيما يلي تفاصيل مداخيلها ومصاريفها الشهريّة:
المنطقة الرّماديّة
بعد تركها لوظيفتها، كانت نزيهة تأمل أن تتمكن من مواصلة التدريس في المنزل، ولكن ذلك مستحيل نظراً للأزمة الحالية. لإعالة نفسها، اضطرت إلى بيع سيارتها مقابل 3500 دينار، أي ما يقارب نصف سعر الشراء. وبذلك تنازلت عمّا كان يضمن لها نوعا من الإستقلالية والراحة.
في الماضي، كانت نزيهة تركب الحافلة والمترو، لكن الأمر كان "جهنمياً، مستحيلاً". "لم تكن الجداول الزمنية تُحترم على الإطلاق، والناس ملتصقون والحافلات في حالة سيئة للغاية"، حسب وصفها. لفترة من الوقت، اختارت سيارات الأجرة التي كانت تكلّفها كثيراً، وغالبًا ما وجدت الأمر مزعجًا: "إمّا يكون صوت الموسيقى عاليا يصدّع الرّأس أو أنّهم يدخّنون".
تبعاً لكلّ هذه الأسباب قرّرت الإستثمار في شراء سيّارة، واقترضت المال لدى صديقاتها. "في يوم من الأيّام، سألتني صديقتي عمّا أحتاجه، لم أتخيّل أنّها سترضى بإقراضي ولكنّها أسلفتني 2000 دينار، ثمّ طلبت نفس الشّيء من صديقة أخرى، فأقرضتني 2000 دينار أيضا، وبذلك استطعت اقتناء سيّارة!".
من خلال بيعها مرة أخرى، تمكنت نزهة من توفير بعض المال للأشهر القادمة، وقررت أن الوقت قد حان لرعاية أسنانها. كانت أولى نفقاتها الضّخمة هي زيارة طبيب الأسنان تلتها زراعة أسنان.
"أردت الإعتناء بأسناني منذ زمن طويل، لا أريد أن أكون بلا أسنان في سن السبعين! لكنّ ذلك لم يكن أبداً في حدود إمكانيّاتي".
تعلم نزيهة أن مدخراتها ستنفد في غضون بضعة أشهر إذ لم يتبق لها سوى 800 دينار من بيع سيارتها. تأمل في أن تتمكن عائلتها من مساعدتها، لكن الوضع لا يزال عسيراً على الجميع. تقول "أعيش عيشة الكفاف، والله معي وسوف يعينني".
ورغم مصاعبها المالية ومستقبلها الغامض، تقول نزيهة إنها شعرت بارتياح نفسي منذ تركها العمل. ليس عليها مواجهة عقبات الحياة اليومية كما أنّها تجد الوقت الكافي للقراءة. حتى أزمة كوفيد-19 لا يبدو أنها تؤثر على مزاجها، بل على العكس تمامًا.
تعترف وهي ضاحكة أنّها لم تعد تشعر بالوحدة: "العالم كله يرتدي أقنعة الآن، ولا أحد ينظر إلي في الشارع".
المستقبل
أصبحت نزيهة منذ فترة تفكّر في الزواج مرّة أخرى بعد أن تخلت عن الفكرة بعد طلاقها. كانت قد تعهدت بألا تتزوج وأن تكرس نفسها لحياة الورع، لكن تساؤلات شخصيّة خلال الحجر الصحّي جعلتها تغيّر رأيها. "أدركت أنني كنت مخطئةً، وأن حياة الوحدة ليست حياةً".
تعترف المرأة الآن أنها قد بلغت حدود استقلاليتها، وأن الزواج قد يبسط الأمور. ولكن بشروط، فهي تبحث عن زوج تقي لا يدخن وذو وضع اقتصادي مستقر. معاييرها واضحة، يجب أن يقبل أسلوب عيشها، ونقابها، ويجب أن يكون في صحة جيدة، وخاصة ذا موارد مادية كافية للعيش معاً وإن كانت بسيطة.