قصّة أحمد، معركة أبناء الحامّة ضدّ الفوسفوجيبس

تخوض مدينة الحامّة منذ نحو عامين معركة مواطنية ضدّ مقترح تركيز مصبّ الفوسفوجيبس على تخومها. هذا البورتريه، يروي قصّة مدينة تقول لا للموت البطيء بصوت رجل واحد، هو أحد أبنائها.
بقلم | 28 مارس 2019 | reading-duration 10 دقائق

متوفر باللغة الفرنسية
   كان تلميذا في السنة الأولى ابتدائي عندما غادر قاعة الدّرس ليشارك مع أقرانه وأبناء جهته في مظاهرة حاشدة سنة 1989، احتجاجا على شبهة تورّط السلطات في صفقة أمريكية دفنت بموجبها نفايات نووية في مدينته الحامّة بولاية قابس. واليوم، وبعد حوالي 29 عاما، يجد أحمد نفسه مضطرّا مجدّدا للاحتجاج على اعتزام السلطات الجهوية دفن نفايات الفوسفوجيبس في منطقة أخرى على تخوم المدينة.  

يوم 10 ديسمبر 2018، لم تفتح المدرسة الخاصّة التي يديرها أحمد السّاحلي أبوابها، فقد التحق الرّجل بجموع المتظاهرين ضمن المسيرة السلمية التي جابت الشوارع الرئيسية لمدينة الحامّة. بالتزامن مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان، شهدت المدينة إضرابا عامّا تنديدا بقرار تحويل وحدات الإنتاج التابعة للمجمع الكيميائي التونسي ومصبّ الفوسفوجيبس، من خليج قابس إلى معتمدية منزل الحبيب، الواقعة على بعد 43 كيلومترا من الحامّة.

معركة يلتقي فيها دافع الانتماء إلى المكان بالجانب الذاتيّ، فأرض عائلة أحمد الفلاحية في الفجيج متاخمة لنقاط ردم النفايات المقترحة.

  "يبدو أنّه قد قدّر لي أن أعيش حياتي مشاركا في الإحتجاجات وأمام تهديد متواصل بالموت". أحمد السّاحلي، 35 عاما، صاحب أرض متاخمة للمنطقة المقترحة لردم الفوسفوجيبس

في لقاء مع أحمد بمناسبة "اعتصام الفجيج" الذي نُظّم في نهاية شهر ديسمبر 2017، لم يخف هذا الأخير حزنه الممزوج بالغضب. تمركز الاعتصام، الذي شاركت فيه مجموعة من أبناء الحامّة ومنزل الحبيب، على مستوى مفترق السكة الحديدية بمنطقة الفجيج التي تبعد حوالي 18 كيلومترا عن الحامّة، ممّا عطّل عملية نقل الفسفاط عبر القطار من قفصة إلى المنطقة الصناعية بقابس، في حركة رافضة لنقل مصبّ الفوسفوجيبس إلى منطقة الزملة البيضاء (15 كيلومترا عن الحامّة) المتاخمة لأراضيهم.

 نقطة تمركز اعتصام الفجيج في 2017. الفجيج، منزل الحبيب

  الموت على تخوم المدينة

  الفوسفوجيبس مادّة كيميائية تتمثّل في النفايات التي تنتج بعد تحويل الفسفاط الطبيعي لإنتاج الحامض الفوسفوري. ونظرا لاحتوائها على شوائب وإشعاعات نووية، تتسبّب هذه المادّة أينما وجدت في إخلال بيئي كبير يهدّد بقاء الكائنات الحيّة. وتفيد عدّة دراسات، من بينها دراسة أثر التلوّث الصناعي على الاقتصاد بجهة قابس  (2016) التي أعدتها المفوضية الأوروبية، أنّ وجود مادّة الفوسفوجيبس في البيئة البحرية قد غيّر بشكل كبير النظم الإيكولوجية في محيط المنطقة الصناعية. وتصف الدراسة صبّ فضلات الفوسفوجيبس بأنّه أحد الأضرار الرئيسية، إن لم يكن أكثرها أهميّة، في علاقة بقيمة تأثيرها على البيئة الفيزياء-حيوية بمنطقة قابس ولا سيّما ساحلها.

  "تسببت هذه الأنشطة (الصناعية الكيمائية) في أضرار بيئية لا تمّحى في المنطقة، تتمثل في تغيّرات في الغطاء النباتي الأرضي ونوعية الهواء والحيوانات والنباتات البحرية، وذلك بعد التخلّص ممّا يعادل 40 ألف مكعّب في اليوم من فوسفات الصوديوم في شكل طين جبسي في خليج قابس (أي ما يعادل حوالي 5 مليون طنّ سنويا في شكل فوسفوجيبس خامّ)." دراسة أثر التلوّث الصناعي على الاقتصاد بجهة قابس

انطلق النشاط الصناعي لتحويل الفسفاط بقابس في بداية سبعينات القرن الماضي. وقد طالب المجتمع المدني في المنطقة، منذ ما قبل الثورة، بتحويل الوحدات الملوّثة التابعة للمجمع الكيميائي التونسي* إلى جهة أخرى.

في سنة 2008، تمّ اقتراح نقل الوحدات الجديدة للمجمع إلى منطقة المخشرمة من معتمدية وذرف التّابعة لولاية قابس، لكنّ الأهالي شكّلوا حينها تنسيقية نجحت في التصدّي لهذا المقترح. قامت السلطات الجهوية بعدها باقتراح نقل الوحدات الملوّثة إلى منزل الحبيب قبل أن يتمّ حصر المنطقة المقترحة في الزملة البيضاء والتي تقع بين الحامّة ومنزل الحبيب.

الصحة حق لكل إنسان. تضمن الدولة الوقاية والرعاية الصحية لكل مواطن، وتوفر الإمكانيات الضرورية لضمان السلامة وجودة الخدمات الصحية. الفصل 38، دستور الجمهورية التونسية

مخاوف أحمد وأهالي الحامّة جميعا من تهديد حياتهم، رأى فيها المكلّف بالإعلام لدى ولاية قابس حينها "أمرا سابقا لأوانه". حيث اعتبر لطفي الحدّاد، في ديسمبر 2017، أنّ الحديث عن اعتزام تحويل مصبّ الفوسفوجيبس إلى الزملة البيضاء (15 كيلومترا عن الحامّة) أو إلى السفية (حوالي 90 كيلومترا عن مدينة الحامّة) مجرّد "تخمينات من قبل السكّان"، ومضى إلى أبعد من ذلك ليصفها ب"الحسابات السياسية"، رافضا تحديد الجهات المقصودة بقوله ذلك.

  "مشروع صديق للبيئة"؟...  

على جوانب الطرقات الريفية غير المعبّدة، لم تكن هناك أيّة لافتة تحمل أسماء الفجيج أو الزملة البيضاء. وعلى الرّغم من أن أحمد هو ابن المنطقة، فقد كان مضطرّا إلى سؤال الأهالي لمعرفة الطريق للوصول إلى أقرب نقطة من المصبّ المزمع تركيزه. "في المستقبل، لن يعود الاهتداء إلى المنطقة صعبا إذا ما تمّ تركيز مصبّ الفوسفوجيبس بها"، يقول أحمد بنبرة ساخطة.

تبعد الزملة البيضاء حوالي 5 كيلومتر عن الفجيج وكلتاهما منطقتان قريبتان من معتمدية الحامّة الواقعة على بعد 30 كيلومترا من مدينة قابس مركز الولاية. تقطن في الزملة البيضاء والفجيج عشرات العائلات التي تعيش أساسا على الفلاحة التقليدية وتربية الماشية. وعلى الرّغم من أنّ الحامّة تُعرف بوجود طبقة مياه باطنية حارّة، إلا أن السلطات الجهوية بولاية قابس ارتأت وضع الأراضي المتاخمة لها في قائمة المناطق المقترحة لتحويل الفوسفوجيبس.

خلف الجبال الثلاثة، موقع مصبّ الفوسفوجيبس المزمع بعثه.

  يوم 4 ديسمبر 2018، جاء تصريح الوزير المستشار لدى رئيس الحكومة المكلّف بمتابعة البرامج والمشاريع العمومية، رضا السعيدي موافقا ل"تخمينات" الأهالي في الحامّة ومنزل الحبيب، بقوله إنّ "اختيار الموقع الذي سيحتضن سكب الفوسفوجيبس بات محصورا بين منطقتي الزملة البيضاء والسفية التابعتين لمعتمدية منزل الحبيب. كان ذلك خلال ندوة صحفية انتظمت بمدينة قابس بحضور وفد وزاري ووالي قابس وممثّلين عن شركة فسفاط قفصة والمجمع الكيميائي التونسي. وقد خصّصت الندوة للإعلان عن الشروع في إنجاز الدراسات الفنية والبيئية لمشروع المدينة الصناعية الجديدة بولاية قابس، والذي ناهزت قيمته الجملية 4000 مليون دينار، مع التأكيد على أنّه "مشروع صديق للبيئة يحترم المعايير الوطنية والدولية في السلامة البيئية".

وشدّد رضا السعيدي، في السياق نفسه، على أنّ مبدأ المقبولية المجتمعية مبدأ أساسي في إنجاز المشروع، موضّحا أنّ الدولة ستتكفّل بتنظيم زيارة لوفد يضم ممثلين عن المجتمع المدني بقابس، وخاصة بجهتي منزل الحبيب والحامة، إلى دول أوروبية تحتوي على مشاريع مماثلة.  

حدّد الأمر عدد 2339 لسنة 2000 المؤرخ في 10 أكتوبر 2000 قائمة النفايات الخطرة التي تشمل 20 مجموعة تضمّ كلّ منها عدّة أصناف على غرار النفايات الإشعاعية وتلك الناتجة عن مؤسسات العلاج الطبي أو البيطري وعن تكرير النفط. وتقدّر الكمّيات السنويّة من النفايات الخطرة بالبلاد التونسية بحوالي 8 آلاف طن بالنسبة لنفايات الأنشطة الصحيّة وستّة ملايين و150 ألف طن بالنسبة للنفايات الخطرة الصناعيّة، منها  6 مليون طن من الفوسفوجيبس، وذلك حسب دراسة حول النفايات الصلبة أعدّتها وكالة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ) سنة 2014.

  في تقريرها العام الثلاثون، خلصت دائرة المحاسبات إلى ضعف منظومة التخلّص من النفايات الخطرة، بمختلف جوانبها من إشراف ومساندة وآليات فرز وتجميع ومعالجة وسبل رقابة ومتابعة. وقد اتّسمت المنظومة، وفق التقرير، "بعدم فعالية آليات المساندة والإشراف علاوة على محدوديّة التصرّف في النفايات الخطرة من الإفراز إلى التجميع. كما لم تتم عمليات المعالجة بالكمّية وبالكيفيّة المطلوبة، فضلا عن نقص في الرقابة والمتابعة، وهو ما قد ينجرّ عنه تأثيرات سلبيّة على صحّة الإنسان والمحيط."  

  لم يسلم منه أحد ولا شيء...  

يعرف أحمد جيّدا المنطقة المزمع ردم الفوسفوجيبس فيها، فقد عاش السنوات الأربع الأولى من عمره في مسقط رأسه الفجيج، المتاخمة للزملة البيضاء، قبل أن تنتقل العائلة إلى مدينة الحامّة. رحل الأهل دون أن تنقطع أواصر ارتباطهم بالأرض في الفجيج. فلم تتوقّف عائلة السّاحلي عن التردّد على أرضها تزرعها قمحا وشعيرا وزراعات أخرى…

تحاول السلطات الجهوية في قابس منذ سنة 2016 إقناع أصحاب الأراضي بالبيع لتسهيل إجراءات نقل وحدات الإنتاج التابعة للمركّب الكيميائي ومصبّ الفوسفوجيبس إلى الزملة البيضاء والسفية. في هذا الصّدد،  يقول أحمد السّاحلي إنّ الأمر بدأ باقتراح نقل المصبّ فقط، قبل أن يتحوّل إلى اعتزام تحويل المنطقة كلّها إلى وحدة إنتاج كيميائي بديلا عن مدينة قابس.

لا ينكر أحمد أنّ مشكل التلوّث الذي خلّفه المجمع الكيميائي في قابس قد تفاقم ليبلغ حدّ الكارثة. إذ "لم يسلم من رائحة الغازات الكيميائية بشر ولا حيوان ولا نبات". قضى التلوّث الهوائي على بساتين الحنّة والملوخية والرمّان والتمر. ودمّرت أطنان الفضلات الكيميائية التي تلقى في البحر يوميا الثروة السمكية في خليج قابس.

نفايات المجمّع الكيميائي أثّرت بشكل كبير على الحياة في خليج قابس

وتؤكّد جمعيات حقوقية بجهة قابس، أنّ التلوّث الذي خلّفته فضلات المجمع الكيميائي قد أدّى إلى انتشار أمراض لم تكن مألوفة قبل تركيز المجمع سنة 1972. أمراض جلدية، إجهاض متكرّر، ضيق التنفس، وهشاشة العظام أمراض جعلت أهالي مدينة قابس والمناطق القريبة لمركز الولاية يعيشون مع وقف التنفيذ أو يرحلون عن الحياة في سنّ مبكّرة.

  من جهته، كان والي قابس قد نفى في تصريحات سابقة، وبالاستناد إلى دراسات أنجزتها وزارة الصحّة، وجود علاقة سببيّة بين انتشار هذه الأمراض، كالسرطان وضيق التنفّس، وبين التلوّث الناتج عن المجمع الكيميائي.  

   المياه الجوفيّة الحارّة مهدّدة 

خلف قسمات وجهه الّذي لوّحته الشمس، كان يبدو على أحمد السّاحلي قلق كبير إزاء المستقبل، حيث يعتقد أنّ مدينة قابس كانت ضحيّة لتلوّث فرض عليها فرضا وأنّ الأمر سيتكرّر الآن مع الحامّة والمناطق المجاورة لها. يطلق أحمد زفرة حارّة ويقول شارحا: "الحامّة، منزل الحبيب أو قابس جميعها تتبع ولاية واحدة. لكن لم على التاريخ أن يعيد نفسه؟ هل سيُفرض على أهلي اليوم مواجهة الموت البطيء مقبورا في أراضيهم الفلاحية؟ ثمّ هل من المنطقي أن نفكّر في حماية الثروة البحرية فنحلّ المشكلة بتسميم البشر؟"

  بعد تتالي إخفاقاته في اجتياز المناظرات العمومية، منها أربعة في مناظرة "الكاباس"، قرّر أحمد السّاحلي بعث مشروعه الخاصّ. وقام في أكتوبر 2015 بإنشاء "المعهد الثانوي الخاصّ ابن خلدون" الّذي يحتضن مئات التلاميذ المتسرّبين من المعاهد العمومية.

خلف قسمات وجهه الّذي لوّحته الشمس، كان يبدو على أحمد الساحلي قلق كبير إزاء المستقبل.

بالتّوازي مع إدارة المعهد الخاصّ، يتردّد أحمد على أرض والديه في الفجيج مرّتين إلى ثلاث مرّات كلّ أسبوع. وهو يرفض بيعها أو القبول بتحويلها إلى مقبرة للفضلات الكيمائية لأنّها "مصدر سعادة" لوالديه، البالغين من العمر 74 و66 عاما والذين يعملان في الفلاحة وتربية الماشية.

يبتسم أحمد بفخر وهو يقول: "لأرضنا ارتباط وثيق بالتاريخ النضالي للحامّة. فخلف بيتنا وأرضنا تماما يقع جبل العيدودي" الذي يشتهر باحتضانه معركة مهمّة وقعت عام 1953 بين مجموعة من المجاهدين بقيادة "الطاهر لسود"، أشهر قادة المقاومة المسلّحة في تونس، وقوّات الإحتلال الفرنسي.

  "إعادة إنتاج التاريخ"...  

صدر بتاريخ 30 جوان 2017، في أعقاب المجلس الوزاري المضيّق المنعقد حول الملفّ البيئي بقابس، بلاغ تمّ  التأكيد فيه على الالتزام التامّ لحكومة الوحدة الوطنية بإيقاف سكب الفوسفوجيبس في البحر عبر تفكيك الوحدات الملوّثة المرتبطة بإفراز هذه المادة، وإحداث وحدات صناعية جديدة تحترم المعايير الوطنية والدولية في السلامة البيئية في موقع داخل حدود ولاية قابس يتمّ تحديده بناء على معطيات تراعي الابتعاد عن التجمّعات السكنية وتفادي أيّ مساس بالمائدة المائية، واحترام كافة المقتضيات البيئية، وتحرّي وجود طبقات جيولوجية عازلة مع مراعاة المقبولية المجتمعية للمشروع.

  تحدّث البلاغ نفسه عن تفعيل المسؤولية المجتمعية والاقتصادية تجاه المنطقة التي ستحتضن الوحدات الجديدة وموقع التكديس وتهيئة منطقة صناعية، قريبة من الموقع الذي سيتم اختياره، موجّهة بالخصوص لصناعات تثمين وتحويل الفوسفوجيبس، إضافة إلى إحداث لجنة قيادة وطنية صلب رئاسة الحكومة تضم كافة الأطراف المتدخلة للتوجيه والمتابعة واتخاذ الإجراءات المناسبة لتسريع الإنجاز واحترام الآجال المقررة.

شاحنة نقل أمام إحدى وحدات الإنتاج التابعة للمجمع الكيمائي بقابس. ولافتة تشير إلى "ممنوع الإقتراب. منطقة عسكرية محجّرة"

بالنّسبة إلى أحمد، يمثّل فرض مشروع نقل وحدات المجمع الكيميائي "إعادة إنتاج لتاريخ من الممارسات الظالمة في حق الحامّة ومنزل الحبيب والمناطق المتاخمة لها". فهو لا ينسى مطلقا أنّ "حقيقة عقد الدولة التونسية صفقة مع الولايات المتحدة الأمريكية عام 1989 لدفن نفايات نووية في منطقة بن غيلوف من معتمدية الحامة، لم تتّضح إلى اليوم"، ويضيف: "كنت تلميذا في السنة الأولى ابتدائي لكنني خرجت في المسيرة التي نُظّمت وقتها ومازلت أذكر جيدا التحركات الاحتجاجية لمواطني الحامة التي تواصلت أيّاما".

  عام 2012، عاد الحديث عن وجود مقبرة نفايات نووية في الحامّة بعد نشر صحيفة إيطالية مقالا بالخصوص. وقد كلّفت وزارة الصحّة حينها فريقا من المراقبين المختصّين بالتنقّل إلى منطقة بن غيلوف، حيث قاموا بعمليات قيس للأشعّة. وجاءت النتائج الأولية لتفنّد ما راج حول إمكانية وجود نفايات مشعّة في المنطقة. وكذلك كان الأمر بالنسبة لعملية قيس أخرى للأشعّة أجراها في نفس العام خبراء من المركز الوطني للعلوم والتكنولوجيا النووية والمركز الوطني للحماية من الاشعة بقرية الشارب من معتمدية الحامة. 

لن نبيع…    

كان قرار أحمد وعائلته برفض بيع أرضهم لاستغلالها في مشروع نقل الوحدات الكيميائية مباشرا وغير قابل للتفاوض، وفق تعبيره. ويقول السّاحلي إنّ السلطات الجهوية تحاول الإيهام بوجود مقبولية مجتمعية للمشروع عبر بثّ الشائعات. تفيد هذه الشائعات بأنّ العائلات المقيمة والمالكة لأراض في منطقة الزملة البيضاء قد قبلت عقد صفقة البيع مع الجهات الرسمية واحتضان مصبّ الفوسفوجيبس ووحدات الإنتاج. "هؤلاء الناس بسطاء ومن المجحف بحقّهم وحق المنطقة إيهامهم بالثروة المحتملة"، يوضّح أحمد نافيا قبول الأهالي بالمشروع.

قبالة أرض عائلة أحمد، طريق ريفية غير معبّدة تقود إلى الزملة البيضاء، حيث تقطن الحاجة  مباركة، 80 عاما. كانت قابعة أمام منزلها منهمكة في غسل الصّحون في قصعة كبيرة، فيما تجلس بقربها حفيدتها البالغة من العمر 10 سنوات. جاء ردّها حازما فيما يخصّ مشروع تحويل المصبّ: "ما نقبلوشي، ما حاجتناش بيه" وهي تقصد الفسفوجيبس الّذي تعتزم السلطات الجهوية ردمه في المنطقة. أمّا الحفيدة فكانت تكتفي بالمصادقة على قول جدّتها بهزّ رأسها مصحوبا بابتسامة خفيفة.

على بعد أمتار قليلة من منزل الحاجّة مباركة، كان فرحات، 79 عاما، رفقة زوجته زهرة يتفقّدان الماشية. نفى كلاهما القبول بمقترح ردم النفايات الكيميائية في أرضهم. ويرى هذا الأخير أنّ الدولة التونسية قصّرت سابقا في حقّ عائلته عبر "تجاهل تاريخها النضالي"، فقد كان والد فرحات مقاوما ضدّ الاستعمار الفرنسي، و"ستكافئها" اليوم بجلب الفوسفوجيبس إلى أرضها. "نحن نعيش في الخلاء (بعيدا عن المدينة)، وسيجلبون لنا القضاء (الأجل)"، يقول فرحات.

"مشروع المدينة الصناعية الجديدة" الّتي ستضمّ وحدات الإنتاج التابعة للمجمع الكيميائي التونسي معطّل حاليا من قبل الأهالي"، كما  يؤكّد لطفي الحدّاد، المكلّف بالإعلام لدى ولاية قابس. تصريح يأتي بعد سنة من تركيز لجنة قيادة وطنية صلب رئاسة الحكومة للعمل على تسريع تنفيذ المشروع.

من جهته، يرى أحمد الساحلي أنّ خروج أهالي الحامّة في مسيرة حاشدة خلال الإضراب العامّ في ديسمبر 2018 كان أفضل ردّ يوجّهونه إلى السلطات التي تزعم وجود مقبولية مجتمعية للمشروع. كما أنّ عددا من أهالي الحامّة ومنزل الحبيب نظّموا يوم الجمعة 4 جانفي 2019 وقفة احتجاجية أمام مجلس النوّاب، رفعوا خلالها شعارات رافضة للتلوّث المزمع جلبه إلى المدينة.

   "نطالب بالتنمية والتشغيل لا بفوسفوجيبس الموت"،  شعار رفعه أحد المشاركين في وقفة أمام مجلس النوّاب  

رزق أحمد السّاحلي مؤخّرا بابنه الثّاني وهو يتمنّى أن تعيش إبنته ريمان (عام ونصف)، وابنه الوليد أيلان بعيدا عن شبح التلوّث والموت. لكنّ تصريحات المسؤولين الجهويين التي تصله كلّ مرّة لا تبدو مطمئنة بالنسبة إليه. "يريدون تمرير المقترح بحدّ السيف"، يقول أحمد السّاحلي بحسرة، مضيفا "يقومون بإيهام الناس بأنّ الوحدات الكيميائية جنّة ستغيّر وجه المنطقة".

لكنّ أحمد يعرف جيّدا كيف أصبحت واحات قابس بسبب التلوّث، وهي التي أسماها الرّحالة التّجاني في القرن الثامن هجري "جنّة الدّنيا".