كما جرت العادة ، كل صباح يكتظ شباك إستقبال قاعة الإنتظار الصغيرة العالقة بين الكاشف الضوئي و الرواق. على المقاعد القليلة يجلس غالبية الحاضرين و هم من الرجال و أحيانا بعض النساء. أناس من مختلف الأعمار ينتظرون بوجوه قلقة، يحملون ملفات و بعض الأوراق المتناثرة التي توثق آثار المحنة التي جلبتهم إلى مقر الهيئة.
لكل منهم رقم، وبمجرّد المناداة عليه يتوجه إلى أحد المكاتب الثلاثة لتقديم ملفه في إطار اجراء إداري شكلي ظاهريا، لكن هنا بالتحديد يدور الفصل الأول من مشوار طويل سعيا وراء الحقيقة و الاصلاح و لكنه في ذات الوقت تتويج لمشوار من العنف و الظلم الذي سلبت الحياة خلاله من العديدين.
في بعض الأحيان تطغى العوطف على المقابلة، ما يجعل مندوبَا الهيئة زهير مخلوف وإبتهال عبد اللطيف يتدخلان للمعاضدة والتخفيف.
تدور المقابلات الأولى بعيدا عن أعين الأخرين، و لكن ذلك لم يمنع البعض من إستعراض قصصهم.
علي مبعوج : عشرة أيام من التعذيب وتفكك أسري
يذكر علي ذو الاثنين والخمسين سنة أنه تم إيقافه في 6 فيفري 1994 : “إلى حدود ذلك التاريخ كنت تاجر خضر و غلال في فرنسا في كليرمون فيرون تحديدا. وكنت أتنقّل بشكل طبيعي بين تونس وفرنسا. أثناء اقامتي في تونس قمت بزيارة أحد اصدقاء الطفولة في بن قردان بعدها بقليل تم ايقافي. أعتقد أنه الشخص الذي ابلغ نظرا لأنني كنت أصلي و أمارس شعائري الدينية “.
ويواصل علي سرد شهادته : “في مرحلة أولى تم نقلي إلى تطاوين ثم إلى مدنين لمدة ثلاث أيام .اتهموني بالانتماء إلى منظمة غير مرخص لها .في الوضوح, كان المقصود حركة النهضة لانني كنت عضوا في الاتحاد العام التونسي للطلبة (منظمة طلابية قريبة من حركة النهضة) عندما كنت طالبا في الجزائر اواخر الثمانينات و لكنني لم أكن عضوا في الحزب .بعد ذلك تم نقلي إلى تونس العاصمة حيث وصلنا إلى هناك على الساعة الرابعة صباحا “.
كان ذلك بداية الكابوس بالنسبة الى علي الذي أضاف قائلا …
«تم توثيقي لمكتب المدير العام للامن العمومي الذي وصل على الساعة الثامنة صباحا. بعد ذلك جلبوا حوضا كبيرا من الماء و الثلج. تمّ ربطي من القدمين و أنزلوا رأسي في الماء. تلقيت عديد الضربات العنيفة على مستوى المعدة. أعتقد أن الحصة الاولى دامت عشر ساعات . »
توالت أيام التعذيب بعد ذلك: “مررت بوضعية “الدجاج المصلي “، و مرروا عصا بين الركبتين و المرفقين .تم صلبي من اليدين المربوطتين إلى ظهري -يروي علي محاولا تقليد المشهد- هي وضعية سريعة الايلام لدرجة أن معذبيّا كانا يجبراني على القيام بتمرين من وقت إلى آخر كي لا يقصم ظهري. في كل يوم كان يزورني طبيب و ينصحني بأن أتغذى جيدا في حرص منه أن يمدد حصص التعذيب لا لدواعي إنسانية.
«أعتقد أن ذلك دام عشر ساعات. بعد ذلك تم نقلي إلى مدنين لأوقّع محضر الإستنطاق. كان ذلك شكلا من أشكال فسخ آثار الإستجواب في تونس العاصمة. على اثر ذلك تم الحكم علي بثلاث سنوات وتسع أشهر سجنا .أصيبت الشرطة بخيبة أمل ،لاعتقادهم انني سا سجن لمدة أطول».
“بعد ذلك بقليل نُقلت إلى قسم الشرطة بمدنين برغم انني حوكمت. هذه المرة خُيّلَ إلي أنه ستلفق لي تهمة الاتجار بالسلاح. وكان الهدف من ذلك إضعافي. في البداية كانت مقاومتي الجسدية هي التي أطالت حصص التعذيب لذا توقفت عن الأكل ثم أصبحت أصاب بالاغماء. تلفظت ببعض الأسماء لربح الوقت. في أخر المطاف، و بعد ثلاث أيام، قرروا أن يستسلموا.”
انتهى المطاف بعلي مبعوج بقضاء عقوبته إلى أن تم إطلاق سراحه سنة 1997 حيث عرف السجن “الناعم” بحرمانه من جواز السفر و المراقبة القانونية المستمرة. لم يستطع أن يسافر إلى فرنسا إلا سنة 2011، لكن الآثار الجسدية لتلك الفترة مازالت ظاهرة في مستوى المعدة بالاضافة الى الآثار السلبية على العائلة.
“في أخر المطاف اضطرت إلى بيع ما لدي في فرنسا الذي لم يكن بالشيء الكثير. ابني معاق و زوجتي تهتم به في فرنسا لكن ابني الأخر لا يستطيع أن يتحصل على التأشيرة، فوجدت نفسي مظطرا إلى البقاء إلى جانبه .سنة 2013، تم إنتدابي كمحاسب في وزارة الفلاحة لكن همي الأساسي اليوم أن أعيد لم شمل عائلتي” .
قادري اللافي: تجربة المنفى أو نصف الحياة
«شتموني وضربوني فخفت من العنف الجسدي .كنت أخشى أن افقد كرامتي كمدرس محترم انذاك .في السجن, كنا نقيم مع مساجين ألحق العام .في شهر رمضان ، كانوا يجلبون الأكل على الساعة الثانية مساء وقد كان ذلك شكل من أشكال تدميرنا».
عندما أطلق سراحه كان مجبرا على الاختيار: ” لا استطيع إلا أن اشيد بابي الذي قال لي (أنا ممزق بين فكرة أنك ستغادر أرضك و مدرستك و عائلتك و لكنني أرفض أن أراك تعذب وتفقد كرامتك) … أولئك الذين لم يغادروا تم تحطيمهم لذا فضلت المنفى”.
استطاع أن يغادر سريعا إلى إيطاليا بجواز سفره الصالح لاربع سنوات أخرى”عندما إنتهىت صلوحية جواز سفري رفضت السلطات التونسية التجديد ورفضت السلطات الإيطالية أن تمنحني اللجوء. قضيت ست سنوات من الرعب في وضع غير قانوني خوفا من أن يتم تسفيري إلى تونس. وجدت نفسي في وضع مواطن دون حقوق فلم استطع أن أتزوج خطيبتي وأؤسس عائلة نظرا لاني كنت غير قادر عن العمل لهذه الأسباب”.
قادري سوّى وضعيته سنة 2011 و تزوج سنة 20013 وأصبح وسيطا ثقافيا للاطفال غير الايطاليين بعد دراسة العلوم السياسية حيث تمكن من أن تكون له حياة شبه طبيعة.
«لكن العيش في المنفى هو نصف الحياة. لا استطيع التواصل مع عائلتي. كان بريدي يفتح قبل وصوله لي ، حتى أولئك الذين أقابلهم يتم استجوابهم».
اتاحت له الثورة أن يعود إلى تونس.. “إعادة الاندماج كانت صعبة . استعدت مهنتي كمدرس و عشتها كما تركتها منذ 20 سنة .. أتذكر جيدا اليوم الأول الذي رجعت فيه إلى مقاعد الدرس “.
“بدأت بتصوير معلمين على الصابورة احدهما يحمل عصا فوق التلاميذ و الأخر في وسط دائرة .طلبت من تلاميذي أن يحددوا أيهما يفضلون فاختاروا الثاني رغم انني أعلمتهم أن الأمر سيكون أكثر مشقة بالنسبة لنا جميعا.مع نهاية ألسنة الدراسية تعلم تلامذتي أن يعبروا بشكل حر و أن ينقدوا دون خوف أو عدوانية “.
للأسف, الطفل ليس محور التعليم فبالنسبة للكثيرين، بعد ثلاث و عشرون سنة من حكم بن علي ،لطالما كان الهدف إرضاء السلطة عوض التحرك بمسوولية “.
لنا مسؤلية إنقاذ جيل كامل من انعكاسات الدكتاتورية التي كسرت العلاقة بين المواطنين و ضربت روح المبادرة الجماعية فيهم . لم تصنع ثقافة الخوف حضارة من قبل “.
ما الذي جعلك تقدم ملفا للهيئة ؟ يجيب محدّثنا قائلا انّ “الهدف بالنسبة لي هو الحقيقة .لو أن كل من تسبب لنا بكل هذه المعاناة لم يمثلوا أمام القضاء لن نستطيع الوقوف على أقدامنا “.يجب أن نعطي أملا للجيل الجديد الذي يمكن أن تغيره تونس”.
أحمد سلامة :ضحية أخرى لمنظومة فاسدة
خلف قاعة الانتظار تمتلك الهيئة قاعة أخرى كبيرة, ذات نوافذ بلورية يخترقها ضوء دافىء, حيث توجد كراسي و طاولات بلاستيكية وضع أحمد وثائقه على احداها .
بحركة التلميذ، رسم خطوطا على على ورق يحوي مخطط مسح و بعض اتفسيرات .. إلى ماذا يوحي هذا التخطيط ؟
« أنا بصدد وضع حد لقطعة أرض انتزعت من جدتي سنة 1978 من طرف البلدية في بمدينة أكودة القريبة من ولاية سوسة».
اقترحوا على جدتي تعويضا يعادل 75 مليم للمتر المربع . حولت البلدية قطعة الأرض إلى مقبرة في حين يوجد فضاء بلدي مخصص لذلك إستولى عليه رئيس البلدية ليبني بيته. لهذا السبب صادرت البلدية ملكية عائلتي . جدتي كانت أمية تجهل حقوقها و لم تمس فلسا من مال التعويض. بعد خمس عشر سنة إلتجأ ابي إلى القضاء ولم يتم انصافه”.
في خضم الحديث إتضح أنها ليست بحالة معزولة “عدة عائلات تم الاحتيال عليها في أكودة بهذه الطريقة فحتى المعهد شيد على قطعة أرض تم الإستيلاء عليها .. بعد الثورة استرجعت العائلة حقها و حولت الارض إلى معصرة زيت. كان ذلك في حقبة بورقيبة، لم يكن الأمر يتعلق بمافيا، لكن لطالما روّج المسؤولون أنهم يدافعون عن المصلحة العليا للدولة في حين أنهم يتحيلون على مواردها.
يأمل أحمد سلامة أن جزء من العقار سيتم إسترجاعه بفضل العدالة الانتقالية.
سليم القطاري : رحلة البحث عن رد الإعتبار
بعد الثورة أضاف إلى حسابه الشخصي في فيسبوك إسم والده سليم الطيب القطاري الذي توفي سنة 2009 . هذا الاجراء يثبت درجة تنتقل الصدمة من جيل إلى آخر.القصة التي يحملها سليم تروي حكاية رجل تم تحطيمه من أجل أفكاره .
«أبي كان من بين المؤسسين لحركة أفاق و هي حركة يسارية راديكالية وتعد حاضنة لعديد التيارات التي تحمل هذا التوجه . سليم الطيب القطاري أصيل مدينة جربة تلميذ سابق بمعهد الصادقية أين تحصل على شهادة الباكالوريا سنة 1962 . في تلك الفترة كانت تلك الشهادة تعني شيئا .في سنة 1963 إنتقل إلى باريس لينهي دراسته».
بدايات الأب تخفي حياة لامعة “فمنذ بداية الستينات إتجه النظام إلى الانغلاق بعد إغتيال صالح بن يوسف و الجلاء و إعدام المتهمين في الانقلاب في دسمبر 1962.في إطار تجمع الدراسات و العمل الاشتراكي فكر شبان تونسيون من بينهم ابي في مشروع مجتمعي حيث كان ينتمي إلى الحركة الماوية .كانت فترة زخم بامتياز”.
شهدت الحركة أول فترات القمع عندما كانت بصدد الاحتجاج على نقابة الطلبة اثر إنقلاب الدساترة المقربين من النظام في إطار محاكمة كبرى ضد قياداتها . حوكم الطيب القطاري غيابيا بانثنا عشر سنة سجنا .
“خلال السنوات الموالية و بعد فشل التجربة الاشتراكية لبن صالح سنة 1969 ،ضاعف النظام من وحشيته ضد ابنائه الذين منعهم من المساهمة في بناء البلاد .استطاع أن يعين أولئك الذين فروا من النظام بحكم أنه كان يدرس الاقتصاد في فنسان .كان نصيرا لكل حركات التحرر في العالم حيث كان المترجم القائد للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين و لجورج حبش .سنة 1974 تم محاكمته في إطار موجة أخرى من المحاكمات ولم يستطع أن يعود إلى تونس إلا سنة 1980 “.
«لكن الحياة التي كانت تنتظره لم تكن بحجم انتظاراته فبعد حكم بورقيبة عرف الموت البطيء حيث تم تهميشه و منع من جواز سفره و من العمل في الوظيفة العمومية».
“بعض المناضلين قبلوا بوظائف في الجامعة و الوظيفة العمومية مقابل مساندتهم للنظام تحت عنوان محاربة الاسلاميين لكن رفض الانخراط في هذا التوجه.إشتغل لفترة في نزل في جربة لكن النظام لاحقه و أجبر مشغلة على طرده وقد تم إقصاء كل العائلة فلم نكن نستدعى حتى للحفلات العائلية .كان عمي يحمل عقربان إلا البحر لكنه لا يفعل مطلقا بالمثل إذا ما تعلق الأمر بي و باخي..اخوته لم يترك له ما يستحق من ميراث “.
توفي والد سليم سنة 2009 لكن جرح هذا الإقصاء و هذه الحياة المنكسرة مازال غائرا.
“ابي وهب حياته و طاقته و شبابه في سبيل تحرير التونسيين .كانت الثورة أنتصارا له بعد وفاته.عندما فكرة في تقدم ملف للهيئة كان ذلك نيابة عن عائلتي و ذاك المستقبل الذي منعه النظام من الولادة .أن يستمع إلى حكاية والدي من طرف موئسسة من مؤسسات الدولة هو شكل من أشكال رد الاعتبار في حد ذاته فبالحقيقة وحدها يمكن أن نصنع تونس جديدة .قلة من اليساريين قدموا ملفاتهم لانهم لا يعتقدون في ذلك و للأسف سوف لن تكون الحقيقة كاملة حول هذا النظام فالمصالحة لا يمكن أن تبنى على الانكار. يجب أن يعرف التونسيون ما حدث بالفعل “.