الأب جوناثان .. مُمَرّر الأرواح

في صفاقس، يرافق الأب جوناثان المهاجرين، الذّين يَلقون مصرعهم محاولين الهجرة بشكل سرّي لأوروبا، الى مثواهم الأخير واهبا ايّاهم مراسم دفن لائقة في المقبرة المسيحية التي تقع في المدينة.
بقلم | 08 جانفي 2015 | reading-duration 15 دقيقة

متوفر باللغة الفرنسية
عندما نغادر صفاقس عبر الطريق السيّارة قابس نمرّ وجوبا أمام المقبرة المسيحية بالمدينة. هنا توارت جثامين السكّان من ذوي الديانة المسيحية منذ عهد “الحماية” الفرنسية. الأب جوناثان هو راهب المدينة، وقد اعتاد أن يُكرم جثامين المهاجرين غير الشرعيين بمراسم الدّفن اللّائق بعد أن تقذف بهم أمواج البحر الى الشواطئ. 

يوم خريفي ثقيل ورطب، السماءُ تلُوحُ رمادية اللّون، والهواء مازال ينفث بعض الحرارة. بوّابة المقبرة الكبيرة مقفلة بقفل صدئ والمفتاح قد فُقدَ، على ما يبدو، منذ وقت طويل. على كلّ حال لا أحد يُفترَض به الدّخول الى هذا المكان. يدفع الأب جوناثان البوّابة الجانبية الصغيرة ويلجُ الى المكان المقدّس.

على طريق قابس تتحاذى ثلاث مقابر: مقبرة اليهود، مقبرة جنود “الكومنوالث” الذّين سقطوا خلال الحرب العالمية الثانية ومقبرة المسيحيين (صور سناء السبوعي).

ينشغل الحارس وزوجته داخل المقبرة بجمع ما تبقّى من فروع الأشجار المتساقطة، فيما يستقبل كلب طليق –لا نعلم ان كان متوحّشا أم أهليا- الزّائرَ الحزينَ بنباح مسترسل مبرزا أنيابه الحادّة. جوّ كئيب يخيّم على مكان الرّاحة الأبدية.

يعود تاريخ انشاء المقبرة المسيحية بصفاقس الى عهد “الحماية” الفرنسية. والى جوار قبور متساكني صفاقس من ذوي الدّيانة المسيحية الذّين يرقدون هنا منذ عشرات السّنين، نجد لحودا جديدة من الاسمنت يرقد تحتها القادمون الجدد وهم المهاجرون.

الأب جوناثان يحمل الجنسية النيجيرية وقد ترحّل كثيرا قبل أن يحطّ رحاله في تونس خلال شهر سبتمبر من سنة 2010، ليصبح منذ نحو سنتين مسؤولا عن الكنيسة المسيحية بكلّ من صفاقس وقابس. بمجرّد وصوله الى تونس انهمك الأب جوناثان في مساعدة المهاجرين حيث كان في أغلب الأوقات آخر من يلقي عليهم نظرة الوداع الأخير.

يستقبل هذا المكان منذ عهد “الحماية” جثامين سكّان صفاقس من ذوي الديانة المسيحية (صور سناء السبوعي).

يمشي الأب بين القبور ويتوقّف بين الفينة والأخرى أمام بعضها كأنّه يروم تذكّر المراسم وأفراد الأسرة والأصدقاء الذّين تلُوحُ لغيابهم وطأة كبيرة على نفسه. لم يَدفن، هنا، سوى شخصين من صفاقس منذ مجيئه، أمّا البقيّة فهم مهاجرون مسيحيّون لا تُعرف لهم هويّة صحيحة بسبب الوثائق المفتعلة التي بحوزتهم.

تبدو على المقبرة مظاهر الاهمال (صور سناء السبوعي).

كان بمقدور الأب جوناثان نحت مستقبل مغاير، فقد احترف كرة القدم في بداية مشواره.

يقوده الحنين دائما الى مواصلة لعب كرة القدم رفقة الطلبة الشبّان الأفارقة المقيمين في مدينة صفاقس أو مع الشبّان التونسيّين القاطنين في الأحياء الشعبية المهمّشة. ولا يتخلّف الأب جوناثان أبدا عن مشاهدة مقابلات فريقه الاسباني المفضّل برشلونة بالاضافة الى تشجيعه الدّائم للنادي الرياضي الصفاقسي. هو فضولي بطبعه، حاول مرارا تجربة أنشطة أخرى ما قاده الى تعلّم الملاكمة. انّه من ذلك النّوع البسيط الذّي يصعب تفكيك شخصيّته، وهو في الوقت ذاته لا يخشى تهديدات الصّعاليك الذّين ينتمون الى عالم الهجرة غير الشرعية.

لم يلبث في عالم كرة القدم طويلا، فبعد فترة تأمّل انتهى الأب الى تغيير مساره ليتوجّه نحو دراسة الفلسفة واللاهوت قبل أن تقوده الأقدار الى ما هو عليه الآن.

يأخذ الأب جوناثان بين الفينة والأخرى وقتا مستقطعا للتّذكّر (صور سناء السبوعي).

لئن كانت مهنته تتمثّل أساسا في تقديم العون للمقبلين عليه فانّه لم يتلقّ أبدا تكوينا في مجال اغاثة المهاجرين واللّاجئين “لقد وجدتُني وجها لوجه مع الواقع، فلم يكن بوسعي أن أُوصد الباب أمامه”. بمجرّد قدومه الى صفاقس استجاب الأب جوناثان الى نداء الاستغاثة الصّادر عن الجنوب الشرقي للبلاد حيث تشهد مخيّمات اللّاجئين أزمة انسانية حقيقية.

سنة 2011، ومع تفجّر الحرب في ليبيا، فرّ اللّيبيون بأعداد غفيرة الى تونس، حيث تمّ انشاء مخيّم على مقربة من الحدود التونسية اللّيبية: مخيّم الشوشة الذّي سيحتضن ما بين ثلاثة الى أربع آلاف لاجئ. هؤلاء اللّاجؤون وجدوا أنفسهم في مواجهة وضع انساني متأزّم في الوقت الذّي لم تكن فيه السّلطات التونسية تملك الخبرة الكافية للتعامل مع مثل هذا التدفّق الهائل للّاجئين. فالى جانب ما عانوه من تهديدات ومعاملة سيّئة خلال فرارهم من أتون الحرب الدّائرة في بلادهم، وجد المهاجرون اللّيبيون أنفسهم يعانون ظروف ايواء سيّئة للغاية في مخيّمهم الجديد. وقد خلقت هذه الوضعية المعقّدة حالة من الاحتقان في ما بينهم من جهة وبينهم وبين متساكني المنطقة والسلطات التونسية من جهة أخرى ما تسبّب في عدّة مرّات في نشوب اشتباكات أسفرت في بعض الأحيان عن سقوط ضحايا.

“وصلت الى مخيّم الشوشة فلم أستطع المغادرة. لقد وجدتني في مواجهة وضعيّة كنت قد عشت على وقعها في سنوات التّسعينات عندما كنت بدوري لاجئا خارج وطني”

في ذلك الوقت، كان الأب جوناثان يبلغ من العمر 16 سنة فقط. تلك الواقعة أثّرت أيّما تأثير في نحت الخطوط العريضة لشخصيّته وهو ما قد يفسّر التزامه الكبير بالتطوّع للدّفاع عن المهاجرين.

قبور لعدد من متساكني صفاقس (صور سناء السبوعي)

بعد أن قضّى نحو سنتين في بنقردان، أقرب مدينة لمخيّم الشوشة، عاد في ربيع 2013 الى صفاقس، قبل أشهر قليلة من اغلاق المخيّم دون ايجاد حلول لكلّ المهاجرين العالقين هناك. لم تنته مهمّته بمغادرة بنقردان فقد واصل تقديم يد المساعدة للمهاجرين دون أن يرمي المنديل “انّه لمن الصّعب جدّا قطع الصّلة بأشخاص فرّوا من جحيم الحروب ويحتاجون الى مساعدة”.

تأخذ الهجرة داخل المدينة أبعادا أخرى، حيث تنخفض درجة الطّوارئ ولكن في المقابل ترتفع درجة العنف الاجتماعي، وخاصّة في ما يتعلّق ب”الحرّاقة” على اعتبار انّ صفاقس تمثّل موقعا استراتيجيا تنطلق منه رحلات الهجرة السرّية نحو سواحل ايطاليا. ويحدث عادة أن تجرف الأمواج حطام السّفن الى سواحل تلك المدينة المطلّة على البحر.

ووفق احصائيات الهلال الأحمر التونسي، فانّ ما لا يقلّ عن أربع سفن غرقت قبالة شواطئ صفاقس خلال سنتي 2013 و 2014 ما أسفر عن وفاة ثمانية أشخاص من بينهم طفل.

وبحسب أرقام منظّمة الهجرة الدّولية، لقي أكثر من 3000 مهاجر مصرعهم في البحر المتوسّط من أجمالي 4077 مهاجر فارقوا الحياة في ظروف مشابهة على مستوى العالم بشكل عام. سنة 2013 كان عدد من لقُوا مصرعهم وهم بصدد محاولة اجتياز المتوسّط لا يتجاوز ال700 في حين ناهز عددهم ال1500 على مدة الأشهر التّسعة الأولى لسنة 2011.

الأب جوثان بصدد التنقّل بين القبور (صور سناء الوسلاتي)

الأب جوناثان، هو الآخر، مهاجر لذلك يتفهّم جيّدا الرغبة الجامحة في الهجرة التي تراود أولائك المهاجرين.

“لا أعتقد أنّه يوجد هجرة جيّدة وأخرى سيّئة. فالهجرة هي احدى خصائص الانسان. نحن دائما في وضعية ترحال، دائما نبحث عن الأمن والسّلام”.

غير أنّ الجزء الأصعب في مهمّته وفي مسؤوليّاته عامّة يتمثّل بلا ريب في مواراة هؤلاء المهاجرين التّرابَ.

فمنذ سنة 2012، دفن الأب جوناثان أكثر من 20 مهاجرا مسيحيّا في مقبرة صفاقس بعضهم مات غرقا في عرض البحر وبعضهم الآخر فارق الحياة على البرّ.

الأب جوناثان يقتطع قليلا من الوقت للصلاة لعشرات المهاجرين الذّين هلكوا في عرض البحر (صور سناء السبوعي).

بعد أن ينهي الأب جولته المعتادة داخل المقبرة، ينتهي به المطاف أمام ألواح إسمنتية مُغْبرَّة. لا وجود لصليب أو لمظاهر تزويق. ولا وجود لاسم كذلك. لا شيء مطلقا. من السّهل الاعتقاد أنّ الأمر يتعلّق بمجرّد تبليط للأرض بالاسمنت ولكنّ الحقيقة عكس ذلك حيث يرقد، تحت تلك الألواح، عشرات الأشخاص الذّين لا هويّة لهم. يرقدون دون أسماء كأنّهم لم يمرّوا من هنا أبدا. كأنّهم لم يوجدوا في هذا الكون مطلقا.

تحت هذه الألواح الاسمنتية يرقد العشرات من المهاجرين (صور سناء السبوعي)
“اليوم، مهمّتي تتمثّل في تقديم يد المساعدة للمهاجرين وأنا مقتنع بما أفعل، ولكنّني لم يدُرْ بخلدي أبدا أنّ عملي سيمتدّ ذات يوم الى دفن الموتى وهي مهمّة أجهلها تماما”. يقول الأب وملامح الخيبة تعلو محيّاهُ.
تمثال “نوتر دام لورد” (السيدة العذراء) في نهاية المقبرة، وضعه عدد من المؤمنين (صور سناء السبوعي)

هو يقول انّه وجد وضعا غير عادل. يقول أيضا انه كان بودّه لو يستطيع أن يندّد بأكثر قوّة باللّاعدالة المسلّطة على المهاجرين. أولائك الذّين يموتون وحيدين. الأب جوناثان الذّي يتبنّى فكرة التنقّل الحرّ مازال غير قادر على استيعاب فكرة أن يموت شخص ما وهو بصدد عبور الحدود.

خلال فترات الشكّ، يتّجه نحو تمثال “نوتر دام لورد” (السيّدة العذراء) الذّي ينتصب في نهاية المقبرة. مهمّة (نوتر دام لورد) تتمثّل في حراسة الموتى الذّين يرقدون داخل المقبرة، فهكذا، ربّما، يشعرون أنّهم ليسوا وحيدين خلال رحلة عبورهم نحو الضفّة الأخرى.