الصيد بالكيس يجتاح قرقنة.. والصيادون يدقون ناقوس الخطر

تحولّ البحر حول أرخبيل قرقنة إلى ساحة صراع تصطدم فيه طرق الصيد التقليدية بالحداثة المدمّرة لمراكب الكيس غير القانونية. والرهان: الحفاظ على التنوع البيولوجي البحري وضمان أرزاق الصيادين المحلّيين.
بقلم | 28 أفريل 2025
10 دقائق
متوفر باللغة الفرنسية
في جزيرة القراطن الصغيرة شمال أرخبيل قرقنة، يقضي ناجي أمسيته رفقة أصدقائه على شرفة منزله المطلّ مباشرة على البحر والمنعزل في آخر مسلك رملي. كان يومه في البحر طويلا ومرهقا، لكن للتقاليد في هذا المكان أهميّة كبرى، يقول الصياد: "أواصل هذه المهنة حبًا في ثقافتي وعائلتي، لكنني لست متفائلًا بشأن المستقبل"، مضيفا أنه يخشى أن تنقرض تقاليد الصيد في قرقنة إذا استمرت الأوضاع على حالها. يتنهّد الرجل قائلا بحزن: "أبناؤنا لن يجدوا ما يعيشون به من هذا البحر".

في قرقنة، تُعتبر "الشرفية"، وهي تقنية صيد تقليدية تم توارثها جيلاً بعد جيل، كنزًا ثقافيًا لا يقدّر بثمن. لكن منذ عدة سنوات، اقتحمت مراكب غير قانونية مياه الأرخبيل بتقنية يُطلق عليها محليًا اسم "الكيس"، التي تجرّد قاع البحر وتقلّص مخزون الأسماك بشكل خطير.

وبين التقاليد العريقة والتهديدات على بيئتهم وأرزاقهم، يسعى صيادو قرقنة إلى الحفاظ على أسلوب حياتهم، في بحرٍ صار مسرحًا لصراع من أجل السيطرة على الثروة السمكية.

توازن هش 

يدرّ خليج قابس لوحده 33% من الإنتاج الوطني من الأسماك، وتحتضن مياهه تنوعًا بيولوجيًا فريدًا من نوعه. وفي قلب هذا الخليج، تزدهر قرقنة، الأرخبيل الصغير، منذ زمن بعيد بفضل تقنيات الصيد التقليدية التي يعتمدها صيادوها الذين يتوارثون منذ أجيال ممارسة الصيد بـ"الشرفية"، وهي تقنية مدرجة ضمن التراث الثقافي اللامادي لمنظمة اليونسكو منذ عام 2020.

يعدُّ ناجي طبقًا من التريليا اصطادها في الصباح، بينما يتحدث بشغف عن هذه التقنية العريقة التي ورثها عن عائلته: "كان جدي صيادًا ووالدي كذلك، أما أنا فأمارس الصيد منذ نحو خمسين عامًا. إنها طريقة حياة هنا، تنتقل من الأب إلى ابنه."

تعتمد الشرفية على تركيب مصائد ثابتة مصنوعة من مواد طبيعية مثل سعف النخيل، حيث تُوجه الأسماك إلى غرف الاصطياد دون الإضرار بالبيئة. وتسمح هذه الطريقة بترك الأسماك حية داخل المصائد حتى يتم جمعها، كما تتيح إطلاق سراح الأسماك الأصغر للحفاظ على استمراريتها.

على النقيض من الشرفية، يتمثل الصيد غير القانوني بالكيس، في جرّ شباك ثقيلة على قاع البحر تدمّر المواطن البحرية وتجرف كل الأنواع بلا تمييز. وقد بدأ ظهور طريقة الصيد المفرط هذه في التسعينات بمدينة سيدي منصور على سواحل صفاقس، وغالبًا ما تُمارس بواسطة مراكب غير مسجلة، ثم انتشرت شيئا فشيئا إلى خليج قابس.

تصاعد استخدام تقنية الكيس بعد ثورة 2011، في ظل غياب الرقابة والتنظيم. يقول أحمد السويسي، عضو جمعية القراطن للتنمية المستدامة والثقافة والترفيه (AKDDCL): "عندما رأى الناس أن السلطات لا تواجه مراكب الكيس ولا تسلّط عقوبات على ما هو غير قانوني، بدأ الصيادون تدريجيًا في تبني هذا الأسلوب."

وتقوم مراكب الكيس غير القانونية بالصيد في الوقت الحاضر في مياه ضحلة يتراوح عمقها بين 5 و 15 مترًا، وهي أعماق أقل بكثير من الحد الأدنى القانوني البالغ 50 مترًا للصيد المسموح به.

في جنوب الأرخبيل، الذي يُطلق عليه السكان القَرَاقِنة اسم "الغرب"، تحتل مراكب الكيس غير القانونية معظم الموانئ الواقعة في الناحية مثل ميناء سيدي يوسف.

في ذلك اليوم، كانت المراكب متوقفة. حفيف الريح يصفّر بين هياكل القوارب، ممزوجًا بأصوات النوارس وروائح الغازوال والملح البحري. على أرض الميناء، يجلس الصيادون متربّعين وهم يرممون شباكهم على عجل.

يشرح أحد الصيادين العاملين على متن مركب كيس: "نجد أنفسنا مثقلين بالديون أو الفواتير التي لا نستطيع دفعها. يحاول كل واحد منا النجاة في هذه المهنة لكن الأمر يزداد صعوبة مع الوقت."

في المقابل، في شمال الجزيرة الذي يُسمى محليّا "الشرق"، لا تزال تقنيات الصيد التقليدية تحاول جاهدةً الصمود رغم الضغوط المتزايدة من طرق الصيد المدمرة.

في ميناء سيدي يوسف، ينهمك الصيادون في إصلاح شباكهم قبل ركوب البحر على متن مركب صيد بالكيس.

تُعرف تقنية الجرّ بالكيس ببساطتها وتكلفتها المنخفضة، فعلى خلاف الشباك التقليدية التي تكون عادة مكلفة وتستلزم تجديدا كل موسم، فإن المعدات المستخدمة في الكيس بدائية ورخيصة.

يوضح السويسي: "يحتاج كل موسم صيد معدات مناسبة ومخصوصة يجب الحصول عليها". لكن بالنسبة لمراكب الكيس، "تُستخدم نفس المعدات طوال العام." كما أن الربح فوري والتقنية في متناول الجميع. يقول السويسي بابتسامة ساخرة: "الأمر لا علاقة له كثيرًا بالصيد، إذ لا تحتاج لأن تكون صيادًا كي تمارس الجرّ بالكيس عندما يكون قبطانك هو جهاز تحديد المواقع GPS".

تداعيات بيئية خطيرة

يحتضن خليج قابس واحدًا من أغنى النُظم البيئية في البحر الأبيض المتوسط، لا سيما بفضل مروج البوسيدونيا المحيطيّة (أو ما يُعرف بالضريع) الشاسعة التي تغطي قاعه. تُعرف هذه الأعشاب البحرية الملقبة بـ"رئات البحر الأبيض المتوسط" بدورها في تثبيت الرواسب ولكونها موطناً لعدة أنواع بحرية: منها الأسماك، والقشريات، وغيرها من اللافقاريات. كما تمتص البوسيدونيا كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون فتساهم بذلك في تعديل المناخ.

لكن هذه المروج البحرية باتت تظهر علامات تدهور، إذ انخفضت مساحتها بنسبة 34% انطلاقا من السبعينيات، وهي خسارة يصفها العلماء بأنها لا رجعة فيها بسبب النمو البطيء لهذا النبات البحري.

يأسف ناجي قائلاً: "صرنا نرى المزيد من السفن الصناعية الكبيرة تدخل مناطقنا وتدمّر قاع البحر بشباكها." وبالتالي بات هذا الضغط على الموارد البحرية يهدد استمرارية الصيد التقليدي والتوازن البيئي في الأرخبيل.

تشكل البوسيدونيا في المتوسط 68% من وزن ما تجرّه عمليات الصيد بالكيس.

محمود صيّاد محلي، يعاني هو أيضًا من الآثار المدمّرة التي يخلّفها الصيد بالكيس. في اليوم الذي زارت فيه إنكفاضة الميناء، كان محمود الوحيد الذي ركب البحر آملاً في جلب صيد لائق. يقول متأسفًا: "عندما يكون البحر مريضًا، أشعر بذلك في كياني. عملنا جاهدين هذه السنة، لكن بالنسبة لقريتنا كانت النتيجة صفرًا".

يتثبت محمود من شباكه على متن قاربه الراسي في ميناء القراطن.

التلوث البلاستيكي هو كارثة أخرى تضاف إلى سابقاتها. فالصيد باستخدام الشباك البلاستيكية وإهمالها في البحر بعد استعمالها غدت من الممارسات الشائعة. وتعلق هذه النفايات في مروج البوسيدونيا أين تتفتت إلى جزيئات بلاستيكية دقيقة ينتهي بها المطاف في معدة الأسماك.

هذا التلوث يؤثر على السلسلة الغذائية المحلية ويهدد صحة الأحياء البحرية. يقول ناجي إن "نفايات البلاستيك تغزو مياهنا وتخنق معدات الصيد. سئمنا رؤية الشباك المهجورة وممارسات الصيد غير المنظمة التي تدمر منظومتنا البيئية."

وعلاوة على التدهور الناتج عن الصيد غير القانوني، يفاقم التغير المناخي من هشاشة هذا النظام البيئي الفريد من نوعه. إذ يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى تحولات سريعة تطرأ على المواطن البحرية. ومن بينها تكاثر الأنواع الدخيلة مثل السلطعون الأزرق المعروف محليًا باسم "داعش"، مضيفةً ضغطًا إضافيًا على الأنواع المحلية. هذا السلطعون المفترس الذي لا يكبح تكاثره أي نوع طبيعي آخر في المنطقة، يخل بسلاسل الغذاء ويغير التوازن البيئي في خليج قابس.

كما يساهم الاحترار في تآكل السواحل، مهددًا المواطن ومناطق الصيد التي تعتمد عليها المجتمعات المحلية في قوتها وبقائها. ويتوقع العلماء تسارع هذه التغيرات مما سيزيد من صعوبة ظروف الصيد التقليدي في بيئة تزداد عدائية.

ويهدد الصيد غير القانوني بالكيس أيضًا تكاثر العديد من الأنواع، من خلال تدمير مناطق التفريخ مما يعرقل استدامة الأنواع البحرية، ويضغط على المخزون ويؤدي إلى انخفاض الكميات المُصطادة. يوضح حامد ملات، عالم بيولوجيا بحرية وعضو في جمعية القراطن أن "الصيد المفرط في الأخطبوط على سبيل المثال أدى إلى ندرة كبيرة في وجوده حالياً".

وردًا على هذا النقص، أعلنت السلطات التونسية في شهر أفريل 2025 غلق موسم صيد الأخطبوط وتحجيره، على أمل تمكين هذا الصنف من التجدد.

رحّبت جمعية القراطن بهذا القرار، معتبرة إياه "خطوة إيجابية ينبغي تطبيقها على الميدان". وأكدت في بيان لها على ضرورة وضع خطة عمل ميدانية تجمع مختلف الهياكل المتداخلة من صيادين تقليديين وسلطات محلية وهيئات معنية، من أجل إنقاذ الصنف أثناء فترة تكاثره والحفاظ على موسم الصيد القادم. ويورد البيان: "إن الأخطبوط هو الركيزة الأولى لنشاط الصيد البحري لبحارتنا، وحمايته تعني إنقاذ مورد رزقهم الرئيسي".

رهانات اجتماعية واقتصادية معقدة

يواجه الصيادون التقليديون منافسة غير عادلة، فبينما يُجبرون على تحمّل أعباء ثقيلة مثل صيانة المعدات، ودفع الاشتراكات الاجتماعية، وتكاليف المحروقات، تنشط مراكب الكيس غير القانونية خارج الأطر النظامية بل وتستفيد أحيانًا من الوقود المدعّم الذي تتزود به خلسة. وقد ساهم هذا الاحتيال في استغلال الدعم العمومي، وفقًا لتحقيق أجرته منظمة "فيش آكت"، في توسّع نشاط الكيس.

يقول ناجي، الذي باتت حياته اليومية متّسمة بالقلق وعدم اليقين: "صار من المستحيل علينا نحن الصيادين الصغار منافسة مثل تلك المعدات."

الموارد البحرية في أرخبيل قرقنة لا تلبّي احتياجات السكان فحسب بل تزوّد السوق الأوروبية أيضًا أين يحظى الأخطبوط والسلطعون اللّذين يتم اصطيادهما في خليج قابس بطلب مرتفع. لكن الصيد المفرط وتراجع المخزون دفعا بالكثير من الشباب إلى مغادرة الجزيرة، غالبًا مجازفين بحياتهم.

يقول أحمد السويسي إن "الكثير من الشباب يغادرون هذه الجزيرة لأنهم لا يرون أي مستقبل في مهنة الصيد. يفضلون الذهاب إلى فرنسا أو إيطاليا أو أي مكان آخر بحثًا عن مستقبل أفضل".

قدّرت دراسة أُنجزت في سنة 2020 الخسائر الاقتصادية الناتجة عن تدهور مروج البوسيدونيا في خليج قابس بنحو 60 مليون أورو في سنة 2014 وحدها، مع خسارة تراكمية لقطاع الصيد الساحلي تناهز 750 مليون أورو بين 1990 و2014.

ورغم النداءات المتكررة التي أطلقها الصيادون والجمعيات البيئية، يظل الصيد بالكيس مزدهرًا في ظل تقاعس السلطات. يعلّق السويسي قائلًا: "إنهم يستفيدون من غياب الرقابة. نود لو تغلق الدولة البحر شهرين أو ثلاثة حتى يتسنى للمخزون السمكي أن يتجدد".

إلا أن تطبيق القوانين الحالية يظل صعبا في غياب الإمكانيات، كما أن ضعف الرقابة حوّل الصيد غير القانوني إلى واقع يومي يعيشه الصيادون التقليديون. وقد امتنعت السلطات الموجودة في قرقنة عن الإجابة عن استفسارات إنكفاضة حول الموضوع.

أنجزت جمعية القراطن للتنمية رسومات جدارية في ميناء الجزيرة للتحسيس بأهمية الصيد المسؤول والمستدام.

وفي سبيل إنقاذ المنظومة البيئية الهشة في خليج قابس، تدعو جمعيات مثل جمعية القراطن ومؤسسة العدالة البيئية، ومنظمة فيش آكت إلى إنشاء مناطق بحرية محمية وإغلاق بعض مناطق الصيد بشكل مؤقت. كما توصي "فيش آكت" بمراقبة السفن بالأقمار الصناعية للحد من أنشطتها غير القانونية. 

أما الاتحاد الأوروبي فله دور محوري في هذا المجال، يتمثل في ضمان احترام المنتجات البحرية التي يستوردها لمعايير الصيد المستدام. ويمكن لعملٍ منسّق بين السلطات التونسية والمنظمات غير الحكومية والشركاء الدوليين أن يسمح بإنقاذ خليج قابس وحماية سبل عيش القَراقنة.

لكن بالنسبة لأحمد السويسي، تكمن الحلول أولًا في حشد جهود المجتمعات المحلية وتثقيف شباب الأرخبيل وتكوينهم في طرق الصيد التقليدية، ويقول في الختام أن "من يريد ويستطيع حقًا حماية قرقنة هم أبناؤها". 

Inkyfada Landing Image

منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري

أنشئ حسابك الآن وتمتع بميزات النفاذ الحصري ومختلف الخاصيات المتقدمة التي توفرها لك. تحصّل على عضويتك وساهم في تدعيم استقلاليتنا.

منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري. تسجيل الدخول