عند مدخل المخيّم، تحتمي مجموعات من المهاجرين·ـات بظلال الزياتين من القيظ، بينما تنتشر وراءهم مئات الأكواخ والخيم والمآوي البدائية على نحو سبعة هكتارات. على مقربة من المكان، تنشغل مجموعة من الشبان من غينيا بجمع الحطب لبناء مأوى جديد...

يروي أحدهم: "طلبت منا الشرطة قبل أسابيع قليلة أن نرحل وجاؤوا لهدم المخيّم القديم"، مضيفًا: "هم من طلبوا منا التمركز هنا ولا نعرف السبب بالضبط".
في نظر السلطات الرسمية، لم يعد لمخيّم الكيلومتر 22 وجود بعد ما جرت تسويته بالأرض في أواخر شهر أفريل على يد قوّات الأمن ضمن حملة واسعة النطاق أُطلقت منذ موفى شهر رمضان وشملت عددًا كبيرًا من المخيّمات في المنطقة. وقد صرّح الناطق باسم الحرس الوطني، حسام الدين الجبابلي، آنذاك أنّه "لن يُسمح بالعودة إلى الفوضى ولا ببناء مخيّمات عشوائية".
لكن على أرض الواقع، ظهر مخيّم جديد على بعد أمتار قليلة من الموقع السابق، بموافقة ضمنية من قوّات الأمن وفق شهادات المهاجرين·ـات على عين المكان. ويروي هؤلاء أن الكثير من متعلّقاتهم تم إحراقها خلال حملات الإخلاء، علاوة على التعرّض للإبعاد القسري والخوف من الإيقافات.



يشكو المهاجرون·ـات في حديثهم من التضييقات التي تحاصر معيشهم اليومي في المخيّمات. يقول إبراهيم، شاب من مالي دخل تونس منذ عدّة أشهر: "لا يُسمح لنا بالذهاب إلى صفاقس للعمل. لا يوجد لواج ولا تاكسي ويُغلقون الطريق البحرية [نحو أوروبا]" ويضيف: " أشعر كأننا نعيش في سجن مفتوح."
منذ بداية سنة 2025، تراجعت بشكل لافت أعداد المهاجرين·ـات الوافدين·ـات إلى لامبيدوزا انطلاقًا من السواحل التونسية . لكن نجاح قوّات الأمن التونسية في كبح حركة العبور البحري، جاء بالتوازي مع تدهور أوضاع العيش في مخيّمات الزياتين منذ ظهورها للمرة الأولى في صائفة 2023. ومنذ ذلك الحين غذت الإشاعات والدعاية المغلوطة الرأي العام حول هذا الموضوع.

"دولة داخل الدولة"؟
شهدت ملامح هذه المخيّمات تغييرات عديدة في ظرف عامين. فبعد عمليات الإبعاد الجماعي من صفاقس في شهر جويلية 2023، انتقل المهاجرون·ـات من افتراش الأرض للنوم، إلى تشييد أكواخ بسيطة ومآوي للاحتماء من صقيع الشتاء. بدأت هذه المجتمعات المؤقّتة، رغم الحملات الأمنية المتكرّرة وعمليات الإخلاء المتواترة الي تتعرض لها، في تنظيم نفسها بنفسها ضمن مجموعات يُطلق عليها أسماء مختلفة مثل " Présidence [رئاسة]" أو "Chefferie [قيادة]" أو "Sécurité [أمن]"، وهي تسمياتٌ تعبّر في حقيقة الأمر عن أشكال مرتجلة تماما للتسيير الذاتي في غياب بدائل أخرى.


هذه الوضعية معروفة منذ زمن على مستوى بلدة العامرة، لكن لم تشتهر ويتم تداولها على المستوى الوطني في بداية مارس 2025، إلا بزيارة النائبة البرلمانية فاطمة المسدي (مستقلّة) لمخيّم "الكيلومتر 34". وقد أبدت المسدي في مقطع فيديو انتشر بكثرة على الإنترنت استغرابها من وجود دكاكين مرتجلة تبيع أدوية ومواد غذائية ولاحظت وجود خيام تحتوي على تلفزيونات.
وبالفعل، ارتجل المهاجرون·ـات في عدد من هذه المخيّمات هياكل للتسيير الذاتي من قبيل "القيادات" أو "الرئاسات"، وكان بعضها يفرض على الوافدين·ـات الجدد دفع "معلوم" للتمركز في الزياتين، غالبًا عبر وسطاء من المهرّبين. وقد خُصّصت هذه المبالغ لبناء مراحيض وأدواش وأيضا لتسيير الهياكل نفسها. وقد وصفت النائبة في زيارتها آنذاك ما يحدث بأنه "دولة داخل الدولة".
بعد مرور أسابيع على ذلك، وتكرّر عمليات الهدم وإعادة البناء، تبدو الأوضاع في الزياتين المحاذية لـ"الكيلومتر 21" على حالها، على بعد بضع مئات الأمتار من مخيم الكيلومتر 22. ظهر هنا مخيّم جديد مطابق للسابق، يشمل دكاكين مرتجلة تبيع الماء ومواد غذائية أساسية (يشتريها المهاجرون·ـات من تونسيين في المناطق المجاورة)، وأيضًا ما يشبه "صيدليةً" بسيطة تعتمد نفس النموذج. بالنسبة لكريس المهاجر الكاميروني الذي يعيش في تونس منذ ثلاث سنوات وفي العامرة منذ عشرة أشهر، فإن هذه المظاهر من مرافق العيش تبقى تافهة مقارنة بالحاجيات الفعلية لساكنة المخيّم.
"تغيير التركيبة السكانية"؟
في زياتين العامرة، وُلد نويل وعدد من الأطفال الآخرين وسط ظروف قاسية ليس أقلّها انتشار الأمراض المعدية والإصابات الخطيرة وانعدام الإحاطة الطبية والنفسية، وفق ما يرويه المهاجرون·ـات في المخيم. ومع ذلك يدرك سكّان الكيلومتر 21 أن أوضاعهم مقارنة بغيرهم قد تكون أفضل نسبيًا .
في الكيلومتر 24 مثلا، لم يستطع المتواجدون·ـات بناء مآوي جديدة بعدما اضطرّوا للفرار على عجل من مخيمهم السابق وترك كل شيء وراءهم. يروي محمد*، وهو سوداني ثلاثيني، أن الطريقة الوحيدة للحصول على الماء في الكيلومتر 24 هي التزوّد من مسجد قريب مرة واحدة في اليوم.

وبحسب محمد، فإن كل محاولة من تونسيين وتونسيات لمساعدة المهاجرين·ـات سواء بتقديم الماء أو الأكل أو غيره قد تعرّضهم لتتبّعات أمنية ما يزيد من هشاشة أوضاع سكان المخيمات. إلا أن ذلك لم يثنِ عددا من الأهالي المحليين عن توفير بعض الخدمات داخل المخيّمات، مثل النقل على متن الدراجات النارية، وبيع الماء أو الفحم أو مستلزمات العيش الأساسية.
انقر·ي على "السابق / التالي" للانتقال بين الصور:
يذكّر محمد، الذي يتحدّث العربية بطلاقة أن "الإسلام يحث المسلم على أن يُعين جاره وخاصة إذا كان مسلمًا هو الآخر".


"وفاق إجرامي"؟
تتكرر الاتهامات الموجهة للمهاجرين·ـات بأنهم السبب في الاعتداءات والسرقات وانعدام الأمن بشكل عام. وقد صرّح الناطق باسم الحرس الوطني، حسام الدين الجبابلي، في شهر أفريل الماضي أن "قوات الأمن تمكنت من حجز أسلحة بيضاء وغيرها" خلال عمليات تفكيك المخيمات، معتبرًا أنها أسلحة "كانت بحوزة المهاجرين بهدف التهجّم على عناصر الأمن"، على حدّ قوله.
ويُقرّ كريس، أحد مهاجري مخيّم الكيلومتر 21، بأن بعض السلوكات الفردية المعزولة أو تصرّفات بعض الأشخاص من "مفتعلي المشاكل" كما يصفهم، قد تكون ساهمت في تشكيل صورة سلبية عنهم لدى التونسيين·ـات.

على الجهة المقابلة من الطريق ناحية الكيلومتر 22، استقر مامادي كامارا في المخيم منذ وقت غير بعيد، وهو شاب من غينيا شغوف بالصحافة الرياضية ويحلم بالوصول إلى أوروبا من أجل مستقبل أفضل، منذ فرّ من بلاده إثر الانقلاب الذي نفّذه الجنرال مامادي دومبويا.


يقول مامادي الذي وصل إلى تونس بمفرده ولا يتلقّى أي دعم من عائلته: "كم أتمنى أن أتمكن من مواصلة دراستي في فرنسا أو إيطاليا" ويضيف: "كثيرون مثلي هنا في الزياتين، من الشباب الموهوبين الطموحين ولكنهم مورد بشري لا أحد يعير له اهتماما."
ويؤكد المهاجرون·ـات أنهم أول الضحايا عندما تنشب أعمال العنف، مثلما حدث في الأسابيع الأخيرة حين وفدت أعداد من الكاميرونيين·ـات إلى الكيلومتر 24 هربا من مناشبات اندلعت في مخيمات مجاورة بين مجموعات مختلفة. تتذكّر فرانسِين* إحدى الليالي العنيفة في مخيّم 21 حين "طُرد الكاميرونيون وضُربوا وسُرقت أمتعتهم."
تروي فرانسِين: "اضطررت إلى إنكار جنسيتي كي أنجو. جاء رجل نحوي فقلت له إنني إيفوارية ثم نفذت بجلدي.. لو لم أفعل لتعرّضت لأشياء مروّعة وحتى الاغتصاب."
يشير المهاجرون·ـات أيضا إلى غياب تام لأي حماية في مواجهة هذا المعيش العنيف: "يأتون فقط بعد وقوع الأحداث ليهدموا المخيمات"، تقول فرانسين.

صناعة وهم الاستيطان
في شهر فيفري 2023، أي قبل ظهور المخيّمات في العامرة، صرّح رئيس الجمهورية قيس سعيّد بأن وجود المهاجرين والمهاجرات في تونس يدخل في إطار "مخطّط يهدف إلى تغيير التركيبة السكانية للبلاد"، وهو تصريح لا يزال يثير استغراب المهاجرين·ـات بحسب شهاداتهم، ذلك أن الغالبية الساحقة منهم لا تريد البقاء في تونس بتاتا.
ورغم تزايد عمليات التعرّض في البحر التي تقوم بها الدوريات الأمنية وتراجع أعداد المغادرين·ـات نحو الضفة الأوروبية، لا نزال نجد في الكيلومتر 22 عوامات بدائية الصنع معروضة للبيع بـ15 دينارًا.
انقر·ي على "السابق / التالي" للانتقال بين الصور:
في ظل انسداد الأفق بالمنطقة، تزايدت مطالب المهاجرين·ـات بالعودة إلى أوطانهم عبر الآلية التي تديرها المنظمة الدولية للهجرة. ووفق ما يرويه المهاجرون·ـات، نصّبت هذه الهيئة الأممية في الآونة الأخيرة عددًا من المخيّمات المتنقّلة في حقول الزياتين لتسجيل طلبات العودة مباشرةً مع الراغبين فيها، بعد أن أصبح من شبه المستحيل على هؤلاء التنقّل بين المدن للوصول إلى مكاتب المنظمة.
يتذكّر مهاجر نيجيري شاب أن "المنظمة كانت متواجدة في الكيلومتر 21 أواخر شهر جوان، لكنها لم تكن تسجّل إلا الطلبات المقدّمة من أشخاص بحوزتهم جوازات سفرهم ومن بعض الجنسيات فقط"، مشيرًا إلى أن أوراقه الرسمية صُودرت خلال حملة تفتيش أمني في السنة الماضية.
وبينما يعجز البعض عن المغادرة لغياب الوثائق أو المسارات الرسمية، يقول آخرون وأخريات إنّ العودة إلى بلدانهم ببساطة غير ممكنة.
"لا يمكنني العودة، قد أُقتل لو عدت"، يقول إبراهيم الشاب القادم من تمبكتو وهي منطقة في مالي تشهد مواجهات دامية بين جهاديين وقوات "أفريكان كورب" شبه العسكرية الروسية، وخليفة مجموعة فاغنر في القارة.
نفس المصير ينتظر الطفل نويل ووالده كريس المطرود من مدينة كومبا الكاميرونية، أين يتعرّض الأهالي بشكل ممنهج إلى أعمال عنف مروّعة على يد جماعات مسلّحة انفصالية وقوّات نظامية في آن واحد. وبالنسبة لكريس فإن "الحل الوحيد هو بلوغ أوروبا".
