يقول لسعد سوا، مدير برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالإيدز في تونس: «فيروس نقص المناعة البشرية ليس مجرد مسألة طبية بل هو أيضًا مسألة اجتماعية اقتصادية، ومسألة مساواة وحقوق إنسان». منذ عام 2010، ارتفع عدد حالات الإصابة الجديدة بفيروس نقص المناعة البشرية بنسبة 59% في البلاد، لكن هذا الرقم المقلق تُغيّبه التابوهات والوصم. كما أن الحواجز الهيكلية تعيق الوقاية والجهود اللازمة للحد من تفشّي الفيروس.
نظام صحيّ تحت الضغط
أحدثت العلاجات المضادة للفيروسات القهقرية تحولًا في كيفية التحكّم في فيروس نقص المناعة البشرية على المستوى العالمي ومكّنت المصابين·ـات من العيش في صحة جيدة ومنعت العدوى الفيروسيّة، لكن الوصول إلى هذه العلاجات يظل تحديًا كبيرًا في تونس. حيث تعاني المنظومة الصحية من صعوبة الاستجابة للاحتياجات نظرا لأن عدد المراكز الصحية المختصة لا يتجاوز الأربعة فقط وهي تقع في تونس العاصمة وسوسة وصفاقس والمنستير. وتبقى فحوصات التقصّي محدودة، والتغطية العلاجية غير كافية، ومخزون الأدوية ينقطع باستمرار، والبنى التحتية لا تلائم الفئات المعنية.
تُمكّن العلاجات المضادة للفيروسات القهقرية، التي يتم تناولها يوميًا، من خفض الحمل الفيروسي إلى مستوى غير قابل للكشف، مما يجعل الفيروس غير قابل للانتقال. ومع ذلك، تُمثّل إمكانية الوصول إليها في تونس تحديًا كبيرًا رغم الزيادة المطردة في عدد الإصابات الجديدة. إذ يُقدر أن 26% فقط من الأشخاص المصابين بالفيروس على علم بحقيقة حالتهم·ـن المصليّة، و25% فقط يتلقون العلاج بمضادات الفيروسات القهقرية. وتعكس هذه التقديرات تأخرًا كبيرًا عن بلوغ الأهداف الدولية الموضوعة للبلاد والساعية إلى بلوغ نسبة علاج بـ 95%.
يقول لسعد سوا: «ظل الوباء منذ عام 2010 متركزا في فئات معينة دون أن نتمكن من عكس المنحنى. [...] كما ثمة نقص كبير فيما يتعلق بالوصول إلى الخدمات، وتغطيتها الجغرافية، واستهداف الفئات المعنية».
في كل من الملاسين ونابل، أدت الإكراهات المالية إلى الغلق التدريجي للمراكز سهلة الوصول التي تم إنشاؤها لتوفير رعاية دون شروط صارمة للفئات المهمشة. و كانت هذه الهياكل تقدم خدمات أساسية مثل توزيع الحقن المعقمة لمتعاطي المخدرات حقنًا غير أن إغلاقها أضرّ بجهود الوقاية. في حين تكافح المراكز المتبقية للاستجابة للاحتياجات المتزايدة لهذه المجتمعات في ظل محدودية مواردها.
في ذات الوقت، يسلط البطء في إدخال الابتكارات الطبية – مثل الوقاية المركبة والميثادون لمتعاطي المخدرات عن طريق الحقن – الضوء على القصور الهيكليّ الذي تعاني منه المنظومة الصحية. يوضح سوا متأسفا: «نحن نحرز تقدما ولكن ليس بالسرعة المطلوبة لمواجهة الممارسات ذات الخطورة العالية، مثل ممارسة الجنس تحت تأثير المخدرات ‘chemsex’ أو مشاركة الحقن»، مشيراً إلى أن هذه الممارسات تزيد من تفشي الفيروس.
التابو خلف الأرقام
في الوقت الذي تعقّد فيه نقائص النظام الصحي رعاية المتعايشين·ـات مع فيروس نقص المناعة البشرية، يزداد الوضع سوءا تحت وطأة التابوهات والوصم. تُفسّر أميرة دربالي، المنسّقة لدى منظمة محامون بلا حدود أن «الأعراف الاجتماعية المحافظة تُعقِّد مسألة خوض النقاشات حول الصحة الجنسية والإنجابية. فنظرًا لكون فيروس نقص المناعة البشرية والأمراض المنقولة جنسيًا مرتبطة بسلوكيات تُعتبر منحرفة أو غير أخلاقية، يدفع الخوف من الإقصاء الناس إلى ممارسة الرقابة الذاتية مما يحدّ من الوقاية أو العلاج».
تأثير هذا الوصم هو أمر قابل للقيس إذ تُظهر دراسة أُجريت عام 2018 أن 53% من التونسيين·ـات يرفضون شراء الخضروات من شخص حامل للفيروس، وأن 47% يعتقدون أن الأطفال المتعايشين·ـات مع فيروس نقص المناعة البشرية لا ينبغي أن يرتادوا نفس المدارس مع الآخرين.
وتكشف حكايات خوخة وزينة* عن هذه التحديات. في عام 2021، اكتشفت خوخة حملها للفيروس وأمراض منقولة جنسيًا أخرى أثناء فحص روتيني فترك الخبر في نفسها جرحا: «فقدت القدرة على وعي ما يجري من حولي». أما زينة، فقد تم تشخيص إصابتها قبل 25 عامًا. أُصيبت المرأة الخمسينية بالفيروس خلال لقائها الأخير بشريكها السابق «وكان ذلك بداية المتاعب» تقول بأسى.
تروي زينة: «ظللت معه عشر سنوات. حاولت توعيته كثيرًا ليستخدم الواقي الذكري إذ اتضح أنه كانت لديه علاقات أخرى لكنه لم يستوعب الأمر». ورغم أن زينة حاولت توعية شريكها الموالي، إلا أنه أفشى حالتها المَصليّة لمحيطها دون رضاها وهو فعل تعتبره خيانة. «بعد ذلك، أدركت أنني سأكون أفضل حالا بمفردي» تقول بنبرة العزيمة تحدوها مرارة.
من جهتها، حولت خوخة تجربتها إلى أداة للتوعية فهي منذ تشخيصها تشارك تجربتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. تقول: «أعبر عن غضبي وحيرتي في محاولة لنشر الوعي، وأيضًا لجعل هذا الواقع أكثر إنسانية. أظنّ أنه لو كانت لدي قدوة حقيقية ربما كنت سأكون أكثر وعيًا». لكن رغم جهودها، لا تزال حياتها اليومية ترزح تحت وطأة الوصم.
تواصل قائلة: «فور أن أبدأ في تقديم نفسي وما إن يعلم الشخص بحالتي المَصليّة حتى يتغير الخطاب والمواقف. إنّ فيروس نقص المناعة البشرية يؤثر على العلاقات الإنسانية أساسا، أي العلاقة مع الآخرين وبالتالي العلاقة مع الذات».
تعترف خوخة بأنها تتمتع خلال تجربتها ببعض الامتيازات: «حظيت بدعم موثوق فأصدقائي·ـاتي المقربون·ـات اختاروا تثقيف أنفسهم·ـن حول الموضوع. ليس الجميع محظوظين·ـات هكذا». غير أنها ترى أن المشكلة الحقيقية تكمن في المواقف أكثر منها في الجهل: «ثمة أشخاص أقلّ تعليما ولكنهم يملكون طيبة غير عادية. إنّ التمييز ينبع من اختيار: اختيار اللامبالاة أو إطلاق الأحكام».
تمييز متواصل في الهياكل الصحية
في مستشفى الرابطة، يلاحظ الدكتور راجح رزقي، الطبيب المقيم المختص في الأمراض المعدية، تأثيرات هذا التمييز بشكل يومي. يقول في أسف: «يعيش الكثير من المرضى في خوف رهيب من أن يكتشف محيطهم أو أسرهم حالتهم. وقد يصل بهم الأمر إلى إخفاء أو تمويه تلقي العلاج كما لو كانوا يخفون شيئًا غير قانوني».
لكن الوصم لا يقتصر على الجانب الاجتماعي فقط، بل يتسلل إلى المؤسسات الصحية نفسها. يضيف الرزقي أن «بعض المرضى يتم وضعهم في آخر قائمة العيادة الطبية ويُجبرون على ارتداء الأقنعة، أو حتى يُرفض استقبالهم من قبل أقسام الاستشفاء».
تندد خوخة بهذه الأشكال من التمييز، فهي تتمتع بحماية نسبية بفضل شهرتها على وسائل التواصل الاجتماعي لكن «الطريقة التي يُعامل بها الأشخاص القادمون·ـات من جنوب الصحراء أو العاملات في مجال الجنس صادمة حقًا»، مشيرة إلى الشتائم التي سمعتها في غرف الانتظار والصادرة غالبًا عن الطاقم شبه الطبي.
من جانبه يُضيف الدكتور رزقي أن «أسوأ أشكال التمييز هي تلك التي تجري داخل المستشفيات نفسها». نتيجة لذلك، وبدلاً من أن يجد الحاملون للفيروس ملجأً لهم·ـن داخل الهياكل الصحية، يواجهون حواجز جديدة مما يزيد من عزلتهم·ـن ويُضِرُّ يرعايتهم·ـن الصحية.
ترى سهيلة بن سعيد، رئيسة الجمعية التونسية للوقاية الإيجابية، أن «الإفصاح عن التشخيص بشكل سيء وانعدام السرية وعدم توضيح ما تعنيه الاصابة بالفيروس» كلها عوامل تدفع المرضى للهروب من النظام الصحي. في عام 2022، تم اعتبار حوالي 32% من المتعايشين·ـات مع فيروس نقص المناعة البشرية المسجلين·ـات في خدمات الرعاية الصحية "مفقودين.ـات*"، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.
ما بين القانون والممارسة
تتجاوز مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية رهانات الصحة العمومية لتثير مسائل أعمق تتعلق بحقوق الإنسان. في تونس، ورغم جهود الجمعيات وبرنامج الأمم المتحدة المشترك بفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، يظل الإطار القانوني والمؤسساتي غير ملائم لمواجهة خصوصيات هذا الفيروس واحتياجات الفئات الأكثر هشاشة.
ورغم أن قانون 1992 يمنع التمييز في علاج الأمراض المعدية، فإن أحكامه، ولا سيّما الفصل 11 مكرر الذي أُضيف لاحقا في عام 2007، تفتح المجال لانتهاكات محتملة. إذ يسمح هذا الفصل بتطبيق تدابير قسرية عبر مرسوم، مثل الفحص أو العزل الإجباريّين للأمراض المصنّفةِ وبائيةً. تقول أميرة دربالي، عن جمعية محامون بلا حدود، محذرة: «يمكن توظيف هذا القانون لمعاقبة سلوكياتٍ تتعلق بالعدوى المقصودة بفيروس نقص المناعة البشرية، مما يعزز وصم الأشخاص المتعايشين·ـات مع الفيروس بدلاً من ضمان حصولهم·ـن على رعاية عادلة تحفظ كرامتهم» مما قد يثنيهم·ـن عن طلب الفحص والعلاج.
يقدم أسامة*، وهو من المُكوِّنين الأقران صلب جمعية معنية بالوقاية، مثالًا على تداعيات هذه الأحكام: «عندما يرفع شخص شكوى تفيد بأن متعايشا مع فيروس نقص المناعة البشرية قد نقل إليه الفيروس، يمكن الحكم على هذا الأخير بالسجن لمدة ثلاث سنوات». ويرى أسامة أن هذا التطبيق قد يكون مبررًا في حالة الاغتصاب لكنه غير مبرر في سياق علاقة رضائية إذ أن «المسؤولية يجب أن تكون مشتركة» وفق قوله.
أما على أرض الواقع فتتداخل هذه العقبات القانونية مع المخاطر العملية. يتحدث أسامة، الذي يعمل مع الفئات الأكثر عرضة للخطر، عن تجربته بالرغم من امتلاكه لأوامر مهمة رسمية: «نواجه أحيانًا مشاكل مع الشرطة إذا تم العثور بحوزتنا على واقيات ذكرية أو اختبارات كشف عن الفيروس». ويتم غالبًا الاستناد إلى الفصلين 226 و226 مكرر من المجلة الجزائية، المتعلقين بـ «الإخلال بالحياء العام» و«المس من الأخلاق الحميدة» من أجل تبرير هذه التدخلات.
كما تؤثر هذه العقبات القانونية والاجتماعية بشكل مباشر على الفئات الأكثر عرضة، حيث تكون نسبة تفشي فيروس نقص المناعة البشرية في صفوفهم مرتفعة بشكل خاص. إذ تبلغ 8.2% بين الرجال الذين يمارسون الجنس مع الرجال و8.8% بين متعاطي·ـات المخدرات بالحقن. وهي نسب تتجاوز بكثير المعدل الوطني الذي يقل عن 0.1%. وبينما يسعى مُثَقِّّفو الأقران إلى توعية وحماية هذه الفئات، تستمر النقائص القانونية وحملات التفتيش البوليسيّ في عرقلة جهودهم·ـن وتعزيز إقصاء الفئات المهمشة فعلا.
ولمواجهة هذه التحديات، تركز الخطة الاستراتيجية الوطنية 2021-2025 على ثلاثة محاور: تعزيز المرافقة النفسية والاجتماعية للأشخاص المتعايشين·ـات مع فيروس نقص المناعة البشرية، وملائمة الوقاية والعلاج وفق الاحتياجات الخصوصية، وإدماج حقوق الإنسان في كل مرحلة من مراحل المكافحة. وتستهدف بعض التدريبات توعية العاملين·ـات في القطاع الصحي والمجتمعات حول رهان حقوق الإنسان.
لكن هذه المبادرات تواجه صعوبة في تحقيق نتائج ذات وزنٍ بسبب نقص الاستمرارية والتنسيق في تنفيذها. يقول لسعد سوا، مدير البرنامج الأممي المعني بالإيدز في تونس، داعيًا إلى جهود منسقة لتجاوز هذه الحواجز الهيكلية: «إن وزارة الصحة مستعدة للتقدم لكن يجب الآن التنسيق مع الجميع لضمان استدامة الكفاح».
أما الدكتور راجح رزقي فيضاعف عدد الندوات مع زملائه·ـاته في القطاع الطبي. بينما تؤكد أميرة دربالي عن مُحامون بلا حدود على أهمية دور الإصلاحات القانونية في حماية حقوق الأشخاص المتعايشين·ـات مع الفيروس حصرًا. كما تشدد على دور المحامين·ـات في تقديم الدعم القانوني لمن يتعرّضون للتمييز، مشيرةً إلى أن هذه الجهود تساهم في دمجهم·ـن اجتماعيًا وضمان وصولهم·ـن إلى الرعاية الصحية.
ورغم العقبات، يحدو خوخة عزم شديد، تقول: «اخترت مشاركة تجربتي لكسر التابوهات والترويج لثقافة التعاطف والطيبة. إنّ الردود التي أتلقاها، لا سيّما من الأشخاص الذين يمرون بتجارب مشابهة، تحثني على مواصلة ذلك». أما الحل بالنسبة لها فيتمثل في التثقيف الجماعي وحملات التوعية التي تُؤَنْسِنُ فيروس نقص المناعة البشرية: «ليس الفيروس ما يدمّرنا حقاً، بل رفض الآخرين لنا».