هل تشهد تونس عودة قوية لمرض السل ؟

منذ أكثر من أربعين عاما، تبذل تونس جهودا حثيثة لمقاومة انتشار مرض السل. وفي حين تم تحقيق نتائج مهمة على مر السنين إلا أن هذا المرض أبعد ما يكون عن الاختفاء. والأسوأ من ذلك أن الأرقام الأخيرة تشير إلى عودة ظهوره من خلال أشكال عدوى جديدة.
بقلم | 03 ديسمبر 2024 | reading-duration 10 دقائق

متوفر باللغة الفرنسية
في وسط مدينة سوسة، يقف مستشفى فرحات حشاد الجامعي بواجهاته المتآكلة شاهدا على عقود من العمل في خدمة الصحة العمومية . في الداخل، تتفرّد وحدة العزل في قسم الأمراض المعدية بتجهيزاتها الحديثة، وتفصلها عن باقي الأقسام أبواب جديدة محاطة بلافتات صفراء وحمراء كتب عليها: «خطر عدوى»، «معدات الحماية إلزامية». هنا، لا يسمح بالدخول سوى لعدد قليل من الممرضات يرتدين أقنعة FFP2.

«هذا هو المكان الذي نستقبل فيه المصابين بالسل الذين يجب وضعهم في عزلة تنفسية»، تقول ممرضة من القسم فضّلت عدم الكشف عن هويتها. وتضيف «لكل ممرضة معداتها الخاصة ويجب عليها اتباع إجراءات صارمة الهدف منها حماية العاملين والمرضى الآخرين من انتقال العدوى». استحال على انكفاضة معرفة عدد المرضى والمريضات المصابين·ـات بالسل والمقيمين·ـات في وحدة العزل يومها.

يشير الدكتور شكيب مراكشي، عضو الجمعية التونسية للأمراض السارية (STPI)، أن السل «مرض معدٍ يتميز بكمونه وبطء ظهور أعراضه». ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، عاد السل في عام 2023 ليصبح السبب الرئيسي للوفيات الناجمة عن الأمراض المعدية عالميًا، حيث أُصيب نحو 11 مليون شخص وتوفي منهم 1.25 مليون، بعد ثلاث سنوات من هيمنة كوفيد-19.

يضيف الدكتور مراكشي أن «السل متوطن في عدة بلدان وأكثر شيوعًا في الدول محدودة الموارد».

قدّرت منظمة الصحة العالمية نسبة حدوث مرض السل في تونس لعام 2023 بـ 38 حالة إصابة لكل 100,000 نسمة، مقارنة بـ 49 لكل 100,000 في نهاية السبعينيات، عندما أطلقت البلاد أول خطة وطنية لمقاومة المرض.

برنامج مقاومة شاملة من التلقيح إلى العلاج

في عام 1978، أنشأت تونس البرنامج الوطني لمقاومة السل (PNLT)بإشراف إدارة الرعاية الصحية الأساسية. وكان الهدف من هذا البرنامج تسهيل الحصول على الرعاية الصحية «بشكل متكامل ومجاني، بما يشمل التصوير الطبي، والإقامة في المستشفى، والتحاليل البيولوجية، والعلاج في كافة هياكل الصحة العمومية» وفق الدكتور مراكشي.

من جانبه، يشرح مسؤول بإدارة الرعاية الصحية الأساسية أن «بإمكان المرضى متابعة مسار الرعاية عبر المستويات الصحية الثلاث في البلاد» أما الحالات الحرجة أو الأكثر عدوى فيتم توجيهها إلى المستشفيات الجهوية أو المستشفيات الجامعية. ووفقا لممرضة بقسم الأمراض السارية بمستشفى فرحات حشاد «يمكن للمرضى مغادرة وحدة العزل عندما تتحسن حالتهم ومتابعة العلاج في مراكز الصحة الأساسية».

بالإضافة إلى ذلك، يتعهّد البرنامج الوطني لمقاومة السل بالتنسيق بين مختلف مستويات الرعاية، بدءا من المستشفيات الجامعية ووصولا إلى مراكز الصحة الأساسية، كما يتم حفظ سجلات الحالات وإحالتها إلى الإدارات الفرعية للرعاية الصحية الأساسية المتواجدة في كل الولايات. تنظم البلاد كذلك حملات التطعيم ضد السل منذ الطفولة بلقاح BCG* الذي يُنتج محليًا في معهد باستور تونس وتم تعميمه على نطاق واسع. وتشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 80% من الأطفال التونسيين تحت سن الشهرين تم تطعيمهم بحلول عام 1988، بعد عقد من إطلاق البرنامج.

يعمل البرنامج الوطني لمقاومة مرض السل أيضا على تشريك المخابر في مكافحة الداء. في مستشفى عبد الرحمن مامي بأريانة، على سبيل المثال، يكرس مخبر الأحياء المجهرية جزءًا كبيرًا من موارده ونشاطه «لفحص عينات من مرضى السل» وفق توضيح أحد أطباء القسم. ويضيف الطبيب أن المخبر يتم طلب خدماته لـ «الحالات الأكثر تعقيدًا» والتي تجنح مؤخرا للتكاثر. وتتيح هذه التحاليل، إلى جانب ضمان بروتوكول العلاج المناسب لكل حالة، قياس مدى مقاومة عصيات السل الموجودة في البلاد للمضادات الحيوية.

وباء مستمر

على الرغم من التقدم الذي أحرزه البرنامج الوطني لمقاومة السل في تونس، إلا أن واقع الحال يشير إلى أن وباء السل لم يعد يشهد تراجعاً. ولئن كانت نسبة حدوث المرض في تونس أقل بكثير مقارنة بجيرانها في شمال إفريقيا، إلا أن بيانات منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن البلاد بعيدة كل البعد عن توصيات الأمم المتحدة لعام 2025 ( نسبة إصابة في حدود 20/100,000). بل شهدت هذه النسبة بين عامي 2014 و2024، ارتفاعا طفيفا من 35 حالة لكل 100,000 نسمة إلى 38 حالة لكل 100,000.

تقديرات منظمة الصحة العالمية لنسبة حدوث مرض السل في كل بلد، استنادا إلى البيانات التي تقدمها سلطات كل دولة إلى المنظمة.
تقديرات منظمة الصحة العالمية لنسبة حدوث مرض السل في كل بلد، استنادا إلى البيانات التي تقدمها سلطات كل دولة إلى المنظمة.

في ذات الوقت، ارتفع عدد ضحايا السل من 160 إلى 154 خلال نفس الفترة. تقول ممرضة بمركز صحة أساسية بولاية سوسة «كان لدينا في العام الماضي ما يقرب من اثني عشر مريضًا يتلقون العلاج» مضيفةً أنه في حيها «عاد المرض للظهور أكثر فأكثر خصوصا منذ نهاية جائحة الكوفيد».

تقديرات منظمة الصحة العالمية لعدد الوفيات الناجمة عن مرض السل في تونس بناءً على المعطيات التي ترسلها السلطات التونسية إلى الأمم المتحدة.

من المستوصفات في سوسة إلى مخابر العاصمة، مروراً بوحدة العزل في مستشفى فرحات حشاد، يطرح العاملون في مجال الرعاية الصحية والأطباء نفس الحجة لتفسير الركود في مقاومة المرض في تونس: وهو ظهور السل غير الرئوي. يشرح أحمد رجب، عميد البياطرة التونسيين أن «عصيات كوخ وهي العامل المعدي المسؤول عن السل، يمكن أن تتواجد أحياناً في أعضاء أخرى غير الرئتين على غرار الكبد أو الجهاز الهضمي أو العمود الفقري.»

ويتابع الدكتور رجب: «وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن ما يقرب من 80% من حالات السل غير الرئوي مرتبطة بعدوى من أصل بقري».

في المقابل، يؤكد الدكتور شكيب المراكشي « أن السل الرئوي لا يزال أكثر أشكال المرض شيوعًا على المستوى العالمي ولكن السنوات الأخيرة شهدت ارتفاعا في حالات السل غير الرئوي». وفي أكتوبر الماضي، أكد الدكتور رؤوف المنصوري، منسق البرنامج الوطني لمكافحة السل، النظرية التي طرحها الأطباء التونسيون·ـات، إذ من بين 3114 حالة سل مسجلة في البلاد في عام 2023، كانت 1129 حالة فقط تتعلق بالعدوى الرئوية، مقارنة بـ 1985 حالة خارج الرئة.

ويقول أحمد رجب أنه على الرغم من أن برنامج مقاومة السل قد وضع عددًا من الإجراءات «لمواجهة انتقال العدوى المرتبطة بالحالات الرئوية»، إلا أنه لا يزال يتعين بذل جهود وقائية لتوعية التونسيين·ـات بأنماط التلوث غير الرئوية. ويؤكد البيطري أن «حالات التلوث غير المباشرة تحدث من خلال استهلاك الحليب غير المبستر أو منتجات الألبان»، مشيرًا إلى أن «بعض المنتجات المحبوبة شعبيا مثل اللبن أو الرايب غير المبستريْن أو الزبدة العربي» يمكن أن تشكل مخاطر في بعض الحالات.

ويحذر رجب من أن «معدل الإصابة في الماشية التونسية اليوم مرتفع حيث أن حوالي 4% من الماشية المصابة تطرح الجرثومات الفطرية في حليبها دون أن تظهر عليها دائمًا أعراض الإصابة بالمرض» مما يجعل من اكتشاف المرض أمرا صعبًا.

نقص الشفافية

تقوم تونس بإحالة بياناتها الوبائية إلى منظمة الصحة العالمية بشكل سنوي بناء على إحصائيات إدارة الرعاية الصحية الأساسية. ولم يكشف بحثنا عن أي برنامج لإبلاغ هذه الأرقام على المستوى الوطني. إذ لا ينشر المعهد الوطني للإحصاء مثلا أية معطيات عن مرض السل. وبالرغم من أن منظمة الصحة العالمية وضعت برنامجا لإبلاغ الأرقام الوبائية على أساس شهري إلا أنه يتعلق فقط بصنف «البلدان ذات الأولوية» الأكثر تضررًا من المرض وتونس ليست من بينها.

ورغم توجيه أسئلتنا في إطار الإعداد لهذا المقال حول آخر تطورات المرض، لم نتلق ردا من وزارة الصحة أو إدارة مستشفى فرحات حشاد أو إدارة الرعاية الحصة الأساسية أو معهد باستور بتونس أو الإدارة الجهوية للصحة بسوسة. ونتيجة لذلك، كان من المستحيل التحدث إلى المرضى الذين يتلقون حاليا العلاج من السل وسؤالهم عن الظروف التي تتم فيها رعايتهم، إذ أن تدخّل السلطات ضروري للتعرف عليهم والحصول على موافقتهم.

في أريانة، يوضح الأطباء الذين التقيناهم في مخبر الأحياء المجهرية أنهم لا يرغبون في التعليق على الملف الوبائي في تونس «دون تصريح من الوزارة». وأمام مركز الصحة الأساسية في سوسة، أسرّ لنا أحد الممرضين بينما هو يوصد أبواب المستوصف خلفه في نهاية فترة ما بعد الظهيرة، أن «لا أحد يرغب في التحدث إلى وسائل الإعلام. وإذا رآنا طبيب نتحدث إلى صحفي يمكنه إبلاغ المسؤولين في المندوبية الجهوية للصحة». 

في هذا السياق، لا يتجرأ سوى قلة من الأشخاص على تسليط الضوء علنًا على الأوجه الممكن تحسينها في برنامج مقاومة السل. إذ يوضح الممرض في مركز الصحة الأساسية بسوسة أن ضمان «الوقاية من جميع أشكال السل أو التعريف بالممارسات الجيدة» هو أمر معقد.

يضيف الممرض: «نحن نقوم بعمل جيد في مجال التوعية بانتقال الأشكال الرئوية للمرض، عن طريق تجنب مشاركة الشيشة أو توخي الحذر من البلغم على سبيل المثال. ولكن يجب أيضا تحذير الناس من الحليب غير المبستر والمخاطر التي قد ينطوي عليها».

في نهاية شهر سبتمبر، دق أحمد رجب ناقوس الخطر في حوار على موجات إذاعة جوهرة أف أم حول نقص عدد البياطرة في تونس وانتشار مرض السل وداء الكلب في البلاد. وقبل ذلك ببضعة أشهر، في فيفري تحديدا، كانت عميد البياطرة قد أدلى بتصريحات مماثلة في مقابلة على إذاعة موزاييك إف إم دعا فيها إلى الترفيع في أجور الأطباء البياطرة، مما أدى إلى إيقافه على خلفية شكاية قدمها ضده وزير الفلاحة. وتم إطلاق سراح أحمد رجب بعد بضعة أيام، لكن القضية لا تزال مفتوحة.