جانفي 2023. في شوارع حلق الوادي، يردد الليل صدى بضع سيارات ونباح بعض الكلاب السائبة. تتخذ ثريا مجلسا لها على أدراج قصر البلدية رفقة صديقتها، وهو في نظر ثريا موقع استراتيجي بامتياز "لأنه مراقب بالكاميرات وغير بعيد عن مركز الشرطة". اختيار موقعها هذا إنما هو نابع عن هاجسها المتمث في تفادي التعرض للاعتداء أو على أقل تقدير التقليص من احتمالية وقوعه. لا تملك الرفيقتان شيئا سوى لحافا وبعض الملابس والمنتجات الصحية، كلها مكدَسة في أكياس بلاستيكية عند مدخل المبنى.
تعرّفت المرأتان على بعضهما قبل ثلاثة أيام فقط من تاريخ لقائنا بهما، لكنهما سرعان ما أصبحتا لا تتفارقان. تقول ثريا: "أخذت عهدا على نفسي بألا أدعو الغرباء أبدا إلى حيث أنام لكنها [أي صديقتها] ما فتئت تدعمني". وبالفعل، دأبت الأخيرة على مرافقتها إلى المستشفى ومشاركتها طعامها. "لا يمكنني التخلي عنها بعد الآن فهي تساعدني على المقاومة. أود أن نعيش معًا رفقة جميع أبنائها يوما ما"، تقول ثريا بنظرة حالمة. ومنذ تلك المقابلة، انتقلت الصديقة مع طفلها للعيش في مكان آخر.
زواج قسري
وُلدت ثريا بالوطن القبلي في أواخر السبعينات ونشأت مع شقيقتها وشقيقها. بمجرد بلوغها المرحلة الإعدادية، انقطعت عن الدراسة لتمتهن التنجيد إلى جانب والدتها. تروي لنا: "كانت أحلى أيام حياتي تلك التي قضيتها مع والدتي. كانت حنونة وكريمة على عكس والدي تماما. دائما ما كانت علاقتي به متوترة".
وقع خبر وفاة والدتها على ثريا وقوع الصاعقة، كما سارع والدها إلى التزوج بثانية ولم تزدد علاقة البنت بأبيها إلّا تدهورا. ثم بعد فترة وجيزة وبمجرد بلوغها الثلاثين من العمر، زُوجت ثريا عنوة تحت ضغط الأسرة.
لم تلبث أن تعرضت ثريا لتعنيف زوجها بعد مضي أسبوع واحد على زواجها. كانت حينها تعمل في مصنع مقابل 150 دينارًا شهريًا: "معظم مشاكلنا ككانت بسبب المال. لم يكن لدي أي فكرة فيمَ كان ينفق أمواله". غالبًا ما كان زوجها يطلب منها الاقتراض من عائلتها ولكنها كانت تجابهه بالرفض في أغلب الأحيان.
لم تلقَ الكثير من الدعم من أقاربها كما لم تكن تبوح لهم بتفاصيل وضعيتها: "كنت كلما زرت والدي يطلب مني العودة إلى بيت زوجي. حتى أنني عندما رفعت شكوى ضده، اصطف والدي إلى جانبه"، تروي ثريا.
تحملت المرأة على مدى سنوات طويلة شتى أنواع التعنيف ، إذ كان زوجها يعمد إلى التحرش بها جنسيا فضلا عن تعنيفها لفظيا وجسديا، مما أثّر على نفسيتها أيما تأثير.
"لقد زادوني علة على علة. سبق وأن حاولت الانتحار في العديد من المرات بتناول كل يقع تحت يدي من أدوية".
مرت خمس سنوات على ذلك الحال حتى وافق زوجها أخيرًا على الطلاق بالتراضي فكان على ثريا العودة للعيش مع أسرتها لتجد نفسها منبوذة من ذويها الذين عايروها بطلاقها. وعاشت لعدة أشهر متنقلة بين بيوت أقاربها دون أن تنعم بالراحة في أي منها.
كان والدها يقول لها: "أنت من طلبت الطلاق، فتحملي الآن مسؤوليتك كاملة".
ذهب الأخير إلى حد اتهامها بالرغبة في "اصطحاب رجال إلى منزله" عندما طلبت البقاء معه ومنذ تلك اللحظة، قررت ثريا الانتقال للعيش في مكان آخر. استقرت لبعض الوقت في غرفة جلوس صديقتها فاطمة التي كانت تشتغل معها كعاملة نظافة في إحدى البلديات. لكن حياتها في منزل صديقتها كانت تجري على وقع الخلافات التي تنشب مع عائلة فاطمة طوال السنوات الست التي قضتها هناك. إلى أن حدثت مشاجرة بينها وبين زوج فاطمة السابق، قضت ثريا على إثرها ليلتها الأولى في العراء بالقرب من مسجد الفتح بالباساج وسط العاصمة.
السرية شكل من أشكال البقاء
طلاقها فنبذ الأسرة لها فهشاشة التشغيل ... كل هذه المراحل دفعت بثريا تدريجياً نحو الشارع غير أنها لم تبلغ مرحلة العيش بلا مأوى بين عشية وضحاها، حيث قضت عدة سنوات متنقلة بين مساكن مؤقتة أو غرف وضيعة تحصل عليها مقابل عملها أو مقضية الليالي في العراء.
يجدر بالذكر أنه لا يوجد في تونس أي تعريف رسمي لمن هم بدون مأوى، وليس هنالك تمييز بين من يعيشون في الشوارع على المدى الطويل أو بصفة مؤقتة. فأولئك الذين يعيشون تارة في الشارع وتارة أخرى في سكن مؤقت، كما في حالة ثريا، لا يُحسبون دائما في عداد المشرَدين.
وبالتالي، لا توجد إحصائيات دقيقة للأشخاص المشردين* في تونس وإن كانت معظم الجمعيات المعنية تقدر عددهم بالآلاف عبر جميع أنحاء البلاد وبعدة مئات في العاصمة وحدها. يوضح صفوان الجويلي، المحامي المنتمي لمنظمة محامون بلا حدود (ASF) بتونس أنه "لا تتوفر لدينا إحصاءات دقيقة حول الموضوع نظرا إلى أن هناك أشخاصًا غير مشمولين بمنظومة المساعدة الاجتماعية". وفي ردها على سؤال انكفاضة حول هذه النقطة، أقرت وزارة الشؤون الاجتماعية المكلَفة بمساعدة هؤلاء الأشخاص بعدم وجود أي تعداد رسمي.
تعمل العديد من الجمعيات كلٌ في نطاقها على مساعدة من تقطعت بهم السبل. كل أسبوع، تنتظر ثريا الحافلة الطبية التابعة لجمعية أطباء العالم (Médibus) على درج واقع في حلق الوادي للحصول على بعض المؤونة وقضاء البعض من يومها مع الفريق.
منذ سنة 2020، دأبت منظمة أطباء العالم على انتظار حلول الليل وعودة المشردين إلى مواقعهم المعتادة كي يبدأ الفريق تجواله الليلي عبر أحياء العاصمة بحثا عنهم. تتوفر بالعيادة المتنقلة المعدات الأساسية لتوفير الرعاية لكن طاقمها يولي اهتماما خاصا بالإحاطة الاجتماعية والتواصل مع المعوَزين.
وفقًا لإحصائيات Médibus التابعة لجمعية أطباء العالم لسنة 2022، يُقدَر عدد المشرَدين في تونس العاصمة وضواحيها بـ466 شخصًا وإن كانت هذه البيانات غير شاملة. تقول زينب التركي، نائبة المنسق العام للمنظمة في تونس العاصمة: "ننشط في بعض الأحياء دون غيرها ولذا فإننا لا نغطي سوى 20 إلى 30٪ من منطقة تونس الكبرى".
إذا بدا أن أغلب المشرَدين هم من الذكور (بنسبة ثلاثة أرباع، وفقًا للجمعيات المستجوَبة*)، فإن توزيع الجنسين أكثر توازناً في الواقع باعتبار أن النساء لا يبرزن على مستوى الإحصائيات سواء كان ذلك بصفة متعمدة أو لا. "العيش في كنف التكتم ضرب من ضروب التوقي" كما تشرح مواهب زبير عن جمعية بيتي الناشطة ضد التمييز والعنف القائم على النوع الاجتماعي والهشاشة الاقتصادية والاجتماعية للمرأة. ويُعتبر التستّر شكلا من أشكال البقاء على قيد الحياة بالنسبة للمشردات لكونهن غالبا ما يشكّلن فريسة للاعتداء والعنف.
البقاء على قيد الحياة
تستيقظ ثريا مع أشعة الشمس الأولى حوالي الرابعة صباحًا. "أشعر براحة لا مثيل لها عندما أستيقظ وأتنفس الهواء النقي المفعم برائحة البحر، ويخالجني انطباع بأن كل شيء من حولي جميل، خاصة إذا ما تراءت لي النجوم متلألئة في كبد السماء وسمعت صوت الأذان يرتفع" تصف لنا والابتسامة تعلو محياها. ذلك الوقت المبكّر هو أحلى أوقات يومها الذي يكاد ينسيها العقبات والصدمات.
لدى استيقاظها، تكون الشوارع هادئة والمدينة لا تزال تغط في سبات عميق. وكل صباح يتأكد صاحب المقهى المجاور من استيقاظها ويحضر لها قهوتها، وهي لفتة صغيرة تقدرها أيما تقدير. شيئا فشيئا تُفتح النوافذ على مصراعيها وتمتلئ الشوارع بالناس. حينها تشرع ثريا في التفكير في كيفية قضاء يومها. ترتب أغراضها في أكياس ثم تقصد المحطة حيث تنتظر ركوب أول قطار متجه إلى وسط العاصمة.
لا تأنف ثريا من قبول جميع أنواع الوظائف المؤقتة المعروضة عليها، من معينة منزلية ونادلة بمقهى إلى مساعدة في مرآب للسيارات، طالما أنها تدر عليها أجرا مقبولا. غير أنها تجد صعوبة شأنها شأن العديد من المشردين في العثور على وظيفة قارة على المدى المتوسط أو الطويل. وهو ما يؤكده ألكسندر ميتي المكلَف بالاتصال صلب منظمة أطباء العالم: "عندما تنقلب حياتك رأسا على عقب على هذا النحو، يصبح شغلك الشاغل كسب بعض الملاليم لتأمين لقمة عيشك اليومية ".
تتردد ثريا على مركز بيتي حوالي مرتين أو ثلاث في الأسبوع بغرض الاستحمام وغسل ملابسها، كما أنها تتلقى 10 دنانير تضمن لها تمويل نشاطها الحالي المتمثل في بيع المناديل الورقية. وهي تخصص هذا المبلغ لاقتناء علب المناديل وإعادة بيعها لتغطية حاجياتها. كما تحلم ثريا ببيع مواد غذائية (الكاكي والبسباس وما إلى ذلك) يوما ما.
تقضي ثريا نهارها في مكانها المفضل بجوار جامع حي الخضراء، حيث "الناس لطفاء معي" كما تقول إذيمن عليها متساكنو.ات الحي أحيانا ببعض الأطعمة. كما تقوم العديد من الجمعيات بتوزيع وجبات غذائية خلال تجوالها عبر أنهج العاصمة، ومن بينها المطعم التضامني UniVersElle، و يجوب متطوعون شبان منطقة تونس الكبرى عدة مرات في الأسبوع لتقديم حوالي خمسين طبقا غذائيا للمشردين. وتُسهم كل هذه المبادرات في سد رمق ثريا.
عندما يرخي الليل ستاره، تذرع ثريا الشوارع المؤدية إلى الحانات. تقول "أعرف تماما ما سأجيبهم إذا سخروا مني [...] لكنني لا أتسكع إلى وقت متأخر من الليل فلا أتجاوز التاسعة أو العاشرة. لم أعد أثق بأحد". تعود إذن مع حلول الليل إلى مكانها قبالة الكاميرات في حلق الوادي وتحاول الترفيه عن نفسها بلعب التتريس (Tetris) على هاتفها الجوال.
"الشرطة دائما في صف الأغنياء"
تمكنت ثريا من إقامة علاقات طيبة مع أعوان الأمن في حلق الوادي، وإن كانت تستنكر موقف بقية رجال الأمن الذين "يصطفون دائما وراء الأغنياء ويستولون على أموال المعوَزين". وتقول أن مثيليها ومثيلاتها من بائعي.ات المناديل الورقية تُفتك بضاعتهم إذا ما رفضوا إرشاء أعوان الأمن. كما تذكر حادثة أخرى أثارت غضبها حيث كانت ثريا وقتها تنام في الكنيسة مع ثلة من الشباب. وخلال مشادة مع أعوان الأمن، اتُهمت بتزعم عصابة وتعرضت لاعتدائهم. "كان اثنان منهم يكيلون لي الضربات على كلا الجانبين في حين كان آخر يخنقني".
تم حجز ورمي جميع وثائقها الشخصية بما في ذلك بطاقة تعريفها ووثيقة إدارية تخول لها تلقي العلاج مجانا لمدة ستة أشهر.
"عندما عدت لطلب وثائقي، شتمني الشرطي ودفعني بطرف حذائه".
لا تخلو العلاقة بين السلطات والمشردين من اضطراب وتغير. ومع ذلك، يذكر حسان الحاج مسعود عن محامون بلا حدود بعض الحالات التي يسّر فيها أعوان الأمن عمل الجمعية إدراكًا منهم للتعقيد الإداري الذي يشوب التعامل مع المشردين. لكنه يشير في نفس الوقت إلى أن أعوان الشرطة يعمدون أحيانا إلى استغلال ضعف هؤلاء الأشخاص وافتقارهم إلى الدعم الأسري: "سبق وأن اعتُقل العديد من المشردين أو وُرطوا في قضايا هم منها براء: إنهم كباش فداء".
من جانبها، تؤكد زينب التركي أنه "من السهل أن يتعرض الأشخاص بدون مأوى للعنف." وترى منظمة أطباء العالم أن أعوان الأمن يتعاملون مع المستضعَفين حالةً بحالة ًوغالبا ما يتسم تعاملهم بالقسوة "خصوصا تجاه الشباب من واضعي اليد ومدمني المخدرات عن طريق الحقن.".
تضيف زينب التركي: "هنالك بعض التفهم إزاء الهشاشة ولكن ليس بالضرورة فيما يتعلق بالإقصاء".
حياة يومية حافلة بالعنف
تعرضت ثريا إلى عدة اعتداءات عنيفة بلغت حد إصابتها بصدمة شديدة على إثر تعرضها إلى عملية سطو في نوفمبر 2021. كانت عائدةً في ذلك اليوم صحبة رفيقها في ساعة متأخرة من الليل حين هجم عليهما رجل بقضيب معدني. أُصيبت ثريا بجروح بليغة على مستوى الساق والفك. تروي "من ألطاف الله أن الإصابة كانت سطحية ولم تبلغ العظم وإلا لكنت فقدت القدرة على استخدام ساقي".
نُقلت ثريا على جناح السرعة إلى مستشفى الرابطة أين تم تغريز جروحها دون تخدير. "طلبت منهم الكف عن ذلك عدة مرات قائلة إن ذلك يؤلمني كثيرًا". لم تتعاف ساقها تمامًا حتى بعد مضي عدة أشهر، وهي تعتقد أن الأطباء لم يلأموا الجرح كما ينبغي. "جميعهم محتالون، حتى الأطباء. عندما أسألهم لماذا لم أتعاف بعدُ يجيبونني أنه حصل خطأ طبي. لم أتلقَ حتى لقاح الكزاز " تقول محتجّةً.
منذ تلك الحادثة، أصبحت ثريا لا تستطيع الوقوف لأوقات طويلة أو حتى حمل أشياء ثقيلة. "ما زالت ساقي تؤلمني وأحيانًا أضطر للتوقف عن العمل لعدة أسابيع لعجزي عن الوقوف لمدة طويلة ".
رفعت ثريا شكوى مدعومة بشهادة طبية أولية ضد المعتدي عليها. كما وكلت لها جمعية بيتي محامية. لكن القضيّة لم تتقدم القضية قيد أنملة حتى بعد مضي سنة ونصف عن ذلك. ومع الاستيلاء على مدخراتها الزهيدة خلال عملية السطو المذكورة، تجد ثريا نفسها مرغمة على التكفل بمصاريف المستشفى التي لا تقدر على تحملها. وبذلك ظلت تجد صعوبة في العمل لعدة أشهر ووجدت نفسها مضطرة إلى التنقل مستندة إلى عكازين في الوقت الذي تتراكم فيه المصاريف لعلاج ساقها الملتهبة وفكها وأسنانها...
مسيرة ثريا حافلة بالاعتداءات التي كان لها أثر بالغ على حالتها النفسية. يوم قابلتنا، كانت قد غادرت لتوها مستشفى الأمراض النفسية. "أريد النوم مطمئنة البال دون أن تراودني الهلاوس. أصبحت شديدة الهذيان. ينتابني الرعب حتى عندما أسمع مواء قط أو أشعر بشخص ما يقتفي خطاي". لا تنعم المرأة بالنوم إلا بضع ساعات ليلا، وقد برزت أعراض الأرق والهلوسة التي تنتابها هذه على إثر تعرضها إلى عملية اغتصاب.
"لقد اغتُصبت في الصيف الماضي، وهو ما زادني علة. كلما أحسست بتحسن، تعود إلى هذه الصدمة لتؤرّقني".
رفعت ثريا شكاية بشأن هذا الاعتداء. وكما في المرة السابقة، وكلت لها بيتي محاميا. لكنها ما زالت تنتظر إنصاف العدالة إلى يومنا هذا دون أي جديد يُذكر من طرف محاميها. لا يزال المعتدي عليها رهن الإيقاف التحفظي وما يزال محامي ثريا ينتظر تحديد موعد الجلسة المقرر في غضون سنة 2023. "أريد أن تتم إدانته حتى لا يكرر نفس الشيء مع فتيات أخريات. سأقتله بنفسي إذا تمت تبرئته".
ومنذ تلك الحادثة، جربت العديد من الأدوية المنومة بلا جدوى، فتلجأ للترفيه عن نفسها في ساعات الليل المتأخرة باللعب على هاتفها الجوال.
تلقي العلاج مسار محفوف بالمطبات
نظريا يحق لثريا وللأشخاص الذين يعيشون وضعية هشة للغاية الانتفاع بنظام العلاج الاجتماعي المجاني من الصنف الأول (AMG1) والذي لا يقتضي دفع أي تسبقة مقابل تلقي العلاج. غير أنه يجب الاستظهار بشهادة إقامة للحصول على مثل هذه الوثيقة وهو تفصيل يقف حجر عثرة في وجه السواد الأعظم من المشردين والمشردات.
تقول المرأة مستنكرة: "عندما يقال لي إن العلاج يكلف 10 دنانير، تراودني رغبة في الصراخ بأعلى صوتي في المستشفى. لا أطلب سوى الحصول على دفتر علاج!"
يوضح توماس كالفوت، منسق مشاريع صلب منظمة أطباء العالم أن "المسائل الإدارية هي إحدى أولى العقبات التي تحول دون النفاذ إلى العلاج". وينطبق الشيء نفسه على البرنامج الوطني لإعانة العائلات المعوزة (PNAFN) والذي يتمثل في منحة مالية شهرية وأحيانًا وقتية لفائدة الأسر التي تعيش تحت خط الفقر في تونس *.
"أحيانا، لا يملكون حتى وثائق رسمية. عليهم الإدلاء بعنوان سكن لطلب شهادة إقامة. وندور هكذا في حلقة مفرغة: يستحيل استخراج بطاقة تعريف في غياب سكن قار...وبالتالي، يستحيل الحصول على دفتر علاج."
وعلاوة على ذلك، فإنه يكاد يكون من المستحيل الاحتفاظ بوثائق مهمة بالنسبة للأشخاص بدون مأوى: "إنهم أشخاص لا يملكون حتى بطاقة تعريف. سواء كانت ضائعة أو محتجزة، فذلك لا يغير من الوضع شيئا. لا يمكنهم فعل أي شيء بدون بطاقة تعريف" يخبرنا حسان الحاج مسعود عن جمعية محامون بلا حدود.
في عام 2020، تم التوصل إلى حل مؤقت لتلقي العلاج. كانت وزارة الشؤون الاجتماعية حينها تمد فريق Médibus برسائل ربط تثبت هشاشة الظروف المعيشية للمشردين "في انتظار إيجاد حلول كي يستعيد المعنيّ أوراق هويته"، بحسب زينب التركي. غير أن كل تغيير طارئ على تركيبة طقم Médibus، كان يملي تجديد العملية الإدارية لتوزيع رسائل الربط، علما وأن منظمة أطباء العالم بصدد التفاوض حاليا مع وزارة الشؤون الاجتماعية من أجل الحصول على هذه الرسائل من جديد، وهو ما يعطّل توزيع الإعانات.
كما يبدو تلقي مساعدة طبية طويلة الأمد أمرًا معقدًا. ففي غياب دفتر علاج، تظل ثريا معتمدة أساسا على العمل الجمعياتي. وقد تمكنت بفضل بيتي من تلقي علاج مجاني في مستشفى الأمراض النفسية لبضعة أسابيع، وإن كانت ترفض الإقامة في المستشفى رفضا باتا لانعدام ثقتها في الأطباء المباشرين وخوفها من استغلالهم لضعفها.
يُعتبر انعدام ثقة ثريا في بعض المؤسسات كالمستشفيات شعورا شائعا بين المستضعفين والمستضعفات الذين يعيشون أوضاعا هشة. تثير زينب التركي حالات بعض المشردين الذين حُرموا من تلقي العلاج رغم توفر التراخيص اللازمة لا لشيء سوى لأنهم كانوا يبدون مهملي أو متسخي الهيئة أو حتى في حالة سكر. وبالنسبة لبعض الجمعيات كأطباء العالم التي تسعى جاهدة إلى توطيد روابط الثقة، فإن شعور النفور من السلطة هذا يمكن أن يعرقل أو يصد عملية الإحاطة وأن يعمق من مظاهر الإقصاء الاجتماعي. يؤكد حسان الحاج مسعود عنمحامون بلا حدود أن "الواقع الصادم الذي عاشه هؤلاء الأشخاص يولّد لديهم شعورا بالحذر والارتياب إزاء الجميع".
السكن: غيض من فيض
تؤثر التعقيدات الإدارية ذات الصلة بالمشردين على حقوقهم كما تحرمهم من بعض الروابط. يقول حسان الحاج مسعود "إن حق التقاضي المجاني مضمون بموجب القانون ولكن الأمر أكثر تعقيدا على أرض الواقع. إلى حد الآن، يعد الاستظهار بشهادة فقر من بين الشروط اللازمة للانتفاع بخدمات مكاتب المساعدة القانونية لإثبات الوضعية الهشة للشخص المعني".
كما أن الحصول على عنوان سكن لا يُعد بالأمر الهين بالنسبة للأشخاص بدون مأوى. وسعيا منها إلى الحصول على عنوان سكن رسمي، طلبت ثريا من صديقتها فاطمة إبرام عقد إيجار مزور لكن الأخيرة جابهتها بالرفض، كما أن خيار المنزل العائلي ليس مطروحا.
"لا أريد العيش عند عائلتي. لم أعد أطيقهم [...]. بالإضافة إلى ذلك، ليس لدي ما يكفي من المال للذهاب إلى هناك. كل ما أكسبه يُسرق مني".
تعود آخر زيارة أدتها إلى عائلتها إلى ما قبل ست سنوات ولم تدم سوى عدة أيام. وبذلك وجدت ثريا نفسها تدور في حلقة تداين مفرغة، فبدون المال، لا يمكنها تأجير مسكن وبدون إيجار، لا يمكنها تلقي العلاج المجاني.
تأوي جمعية بيتي النساء اللواتي يلجأن إليها في مبيت خاص تابع لها يقع بالعاصمة. غير أن طاقة استيعاب هذا المركز لا تتجاوز 15 سريراً. ووفقاً لثريا، لم يسبق لها وأن وجدت ما يكفي من الأماكن الشاغرة لقضاء الليلة هناك. وتتولى بيتي في بعض الحالات تأجير غرفة فندقية كحل مؤقت، وهو ما مكن ثريا من الإقامة في فندق وسط العاصمة لمدة أسبوعين. لكن هذا الحل لم يكن سوى هدنةً مؤقتة وسرعان ما وجدت نفسها مرمية في الشارع من جديد.
في تونس العاصمة، تُعتبر الخيارات المطروحة لإيواء الأشخاص المستضعفين محدودة للغاية. تؤكد زينب التريكي على أن "هناك بعض الحلول ولكنها ليست دائما ناجعة أو معروفة لدى العموم".
ولا توجد سوى ثلاثة مراكز حكومية لإيواء المشردين من البالغين عبر كامل تراب الجمهورية، وهي منتصبة في ولايات تونس وصفاقس وسوسة. ويُدعى المركز التابع لولاية تونس مركز الإحاطة والتوجيه الاجتماعي بالزهروني- أو ما يُعرف بـ "مركز الزهروني". وقد أرادت ثريا التوجه إلى هناك غير أنها لم تستطع العثور عليه. "سيري إلى الأمام ثم انعطفي يسرة فيمنة... لم أتمكن من العثور على المكان فاستسلمت "، تروي لنا بضجر.
تبلغ طاقة استيعاب مركز الزهروني 45 سريراً ولا يمكن للأشخاص المكوث فيه لأكثر من حوالي 20 يومًا، وهي فترة تُعتبر قصيرة للغاية للحصول على شهادة سكنى. في بعض الحالات، يؤمن المركز بالشراكة مع مكونات المجتمع المدني، استئجار غرفةٍ خارجية لبضعة أشهر، وهي مدة تُعتبر كافية للحصول على الوثائق اللازمة لاستخراج شهادة إقامة. غير أن ذلك يتم بدرس الحالات حالة بحالة وفقط في صورة توفر ميزانية كافية، علما وأن وزارة الشؤون الاجتماعية ترصد للمبيت مبلغ 300.000 دينار سنويا.
يقول هشام بن عبدة مدير مركز الزهروني متنهدا "إمكانياتنا ضعيفة للغاية ونحن نبذل كل ما في وسعنا من جهد لكن نجد أنفسنا عاجزين عن حل مشاكل كل هؤلاء الناس".
في أكتوبر 2021، أُغلق المبيت على إثر الوقوف على جملة من "الإخلالات والنقائص" ولم يُعد فتحه إلا في مطلع سنة 2023. ويعزى هذا الإغلاق وفقًا لهشام بن عبدة إلى نشوب نزاعات داخلية بين الموظفين والمقيمين.ات وإن كانت طبيعتها لا تزال مجهولة. كماوجه المجتمع المدني اتهامات إلى المركز بعدم الاستجابة إلى حاجيات المشردين. من جهتها، ترى مواهب زبير عن جمعية بيتي أن "المركز يفتقر إلى الحد الأدنى الضامن لحقوق الإنسان" وإن أدى هذا الإغلاق المؤقت إلى تعقيد أنشطتها نظرا إلى أن بيتي كانت تعتمد على المركز لتأمين الحالات التي تستوجب توفير إقامة طارئة.
"المشكل لا يكمن في مركز الزهروني في حد ذاته بل في إخفاقات الدولة. لا وجود لأي سياسة أو استراتيجية واضحة، ناهيك عن توفير خدمات مختصة ..."، توضّح مواهب زبير.
المركز مفتوح لاستقبال أي كان من المعوَزين مهما كان مساره. ووفقًا لبيتي، من شأن الخلط بين أنماط مختلفة من الفئات الهشة في نفس الفضاء تعريض المقيمين.ات للخطر. "إنه مزيج وخليط من الناس الذين يعانون مشاكل اجتماعية ونفسية واقتصادية"، مثلما يؤكد هشام بن عبدة عن مركز الزهروني الذي يرى كذلك أن افتتاح مراكز مختصة أخرى أضحى أمرا ضروريا. "يحتاج هؤلاء الناس إلى برامج مخصصة سواء نفسية أو اجتماعية أو تربوية فضلا عن التواصل معهم ومرافقتهم".
يؤكد صفوان الجويلي: "من الوهم إيجاد هيكل مثالي يلبي حاجيات الجميع لكن ذلك لا يخفي حقيقة عدم وجود مؤسسة تتماشى ومتطلبات هذه الفئة الاجتماعية في الوقت الحاضر ".
وقد يجد المشردون، الذين غالبًا ما يعانون من الإقصاء الاجتماعي، صعوبة في التأقلم مع القواعد الداخلية لمركز الزهروني والتي يعتبرها بعضهم شديدة الصرامة. يتابع المحامي أن "الكثير من المشردين يرفضون فكرة إيوائهم في مركز. وقد يختلف ذلك من شخص لآخر، لكن مركز الإيواء خاضع لجملة من القواعد الخاصة فيما يتعلق بنظام الدخول والخروج والعيش داخله وما إلى ذلك. لذا، يعجز هؤلاء عمومًا على الانصياع لهذه القواعد باعتبار أنهم يعملون ويعيشون في الشوارع. إنهم بلا شك أشخاص مستضعفون، لكن ذلك لا ينفي أنهم بشر يحتاجون إلى العيش في بيئة ملائمة... هذا ليس مركز احتجاز".
ومع ذلك، فإن تطبيق القواعد أمر ضروري من وجهة نظر مدير مركز الزهروني هشام بن عبدة: " النظام الداخلي يسمح بتحقيق التوازن بين واجبات وحقوق المقيمين.ات والإدارة لضمان الأمن في المركز". ويخضع أعوان المركز إلى تدريب خاص لمدة أسبوع قبل مباشرة عملهم، كما أنهم يتلقون تدريبًا مستمرًا على مدار السنة. يبلغ عددهم 47 عونا وإن كان هذا العدد غير كاف بحسب هشام بن عبدة الذي يأسف كذلك لنقص الإمكانيات الكفيلة بمساعدتهم على التعامل مع الحالات المعقدة: "يتطلب الأمر الكثير من المثابرة والصبر... ذلك هو عملنا".
وفيما يتعلق بالنساء المشردات، تُعتبر خيارات الإيواء المتوفرة غير كافية، كما يؤكد ذلك حسان الحاج مسعود: "عدد مراكز الإيواء الخاصة بالنساء ضحايا العنف محدود جدًا مقارنة بضخامة الاحتياجات".
في نفس الموضوع
تبلغ طاقة استيعاب المبيتات العشرة المخصصة للنساء، بما في ذلك مركز بيتي الواقع بالعاصمة، 186 امرأة وطفلا. ووفقًا لتقرير صادر عن هيومن رايتس ووتش، فإن طاقة الاستيعاب اللازمة حسب المعايير الدولية تقدّر بـ1090 امرأة – أي بحساب مكان واحد لكل 10.000 نسمة. هذا ولن تغطي المراكز الجديدة التي يُنوى افتتاحها عبر كامل ولايات الجمهورية في أفق سنة 2024 سوى نصف الاحتياجات.
هذا وينص القانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة على وجوب الإيواء الفوري للنساء ضحايا العنف في حالة تعرضهن إلى خطر وشيك، غير أنه "وبسبب نقص الإمكانيات واستحالة إيجاد مكان لاستيعاب النساء، عادة ما تكون العواقب مأساوية " كما يقول الأستاذ صفوان الجويلي. وبحسب منظمة أصوات نساء، بلغت حصيلة قتل النساء 10 جرائم منذ مستهل سنة 2023
في نفس الموضوع
لسائل أن يسأل أمام محدودية الأماكن الشاغرة، لماذا لا تُفتتح مراكز جديدة لاستيعاب المشردين؟ توصي جمعية محامون بلا حدود حول هذه النقطة بتخصيص مبانٍ أو عقارات لإيواء النساء مع تكليف عناصر المجتمع المدني بإدارتها. غير أن الأمر ليس بهذه السهولة من وجهة نظر جمعية بيتي التي تعتبر أن نقص المساكن المؤقتة ليس سوى الجزء الظاهر من المشكل.
"الإيواء في المراكز ما هو إلا نقطة انطلاق ولا يمكن أن يشكل حلاً دائمًا" تقول مواهب زبير متنهدة، وتضيف"إيواء فوري لمدة خمسة عشر يومًا أو حتى شهر كامل، ثم ماذا بعد ذلك؟ تظل المرأة على نفس الوضع تعاني الهشاشة والبطالة وما إلى ذلك. هذا ليس حلّا بل مجرد انتقال من مؤسسة إلى أخرى لا غير".
ونظرًا لتنوع مشارب المشردين وحالات الهشاشة والعنف التي تعترضهم والاضطرابات التي قد تصيبهم، يتحتم أن يكون كل تدخل من جانب الدولة أو مكونات المجتمع المدني ملائما لاحتياجات كل فرد، دون إصدار أي حكم مسبق. وتؤكد زينب عن منظمة أطباء العالم: "في الواقع، تكمن معضلة الهشاشة في الحاجة إلى رعاية ملائمة ومتعددة التخصصات، اللجوء إلى مساعدة موحدة حل فاشل لا محالة".
"في حالة وجود مدمن للمخدرات عن طريق الحقن، وجب أخذ ذلك في الاعتبار. كذلك الشأن عندما يتعلق الأمر بعاملة في الجنس. في واقع الأمر، يستحيل إعادة إدماجها إذا لم تكن في بيئة لا تحكم على عملها".
وبعض الحالات الهشة لا تتكفل بها الدولة التونسية، وبحسب محامون بلا حدود، يعزى ذلك جزئياً إلى تقليص ميزانية وزارة الشؤون الاجتماعية. إذ لا تحظى هياكل الدولة دائمًا بالإمكانيات أو الخبرة اللازمة للاستجابة للاحتياجات المختلفة للفئات الضعيفة، كما أنها تعتمد بشكل كبير على الموارد المالية والبشرية التي يحظى بها المجتمع المدني. ويوضح الأستاذ صفوان الجويلي من ناحيته: "بعض المنتفعين ليس لديهم حتى إمكانية النفاذ إلى المعلومة القانونية حيث تعلمهم الهياكل الاجتماعية بأنها عاجزة عن إرشادهم".
على سبيل الذكر، لا توجد مصحات عمومية لاستقبال مدمني ومدمنات المخدرات الراغبين في الإقلاع عنها. وتقوم بعض الجمعيات بتقديم دعم مؤقت لكنها ليست قادرة على سد هذه الثغرة بمفردها. في الآونة الأخيرة، أصبحت بيتي ترفض قبول النساء الراغبات في الإقلاع عن تعاطي المخدرات في مركزها وتبرّر مواهب زبير ذلك قائلة: "لسنا مجهزين لذلك. (...) نحن نبذل قصارى جهدنا، لكن هذا ليس دورنا بل دور الدولة".
أي مستقبل للأشخاص بلا مأوى؟
ما هو الاندماج الذي يأمله المشردون؟ يؤكد بعض المهنيين من النسيج الجمعياتي أن الشارع أصبح ملاذًا لهؤلاء الأشخاص، وبالتالي فإن الانتقال من هذا الوضع لا يدخل ضمن أولوياتهم. ويوضح حسان الحاج مسعود "إنهم يعيشون في كنف التكتم ويجدون راحتهم في ذلك، لذا من الصعب جدًا إخراجهم من هذا الوضع".
تركز بعض الجمعيات جام جهودها على إعادة إدماج الفئات المستضعفة. وتوفر بيتي فرصة تكوين النساء الراغبات في إرساء مشروع في أحد مركزيْها المخصصّيْن لهذا الغرض. هناك، بإمكانهن مثلا تعلم الخياطة أو الحلاقة أو التجميل، مع إمكانية توجيههن إلى هياكل أخرى إذا ما رغبن في تلقي تكوين معين. وتخلص مواهب زبير بقولها:
"نلاحظ للأسف أنه رغم كل الجهود المبذولة فإن نجاح عملية الإدماج يبقى محلّ شك، فحتى مع تنفيذها برمتها، يمكن أن تفشل العملية بسهولة نظرا لتفشي الفقر وللسياق السياسي والاقتصادي ولاستمرار التمييز والعنف...".
تعيش ثريا كل يوم بيومه دون أي خطة مستقبلية. وهي حاليا تتعلق آمالها بوجود مكان تأوي إليه هي وصديقاتها. "لا أريد سوى أن يمنحني أحدهم ما يكفي لاستئجار مسكن لمدة ثلاثة أشهر فقط"، وهي فترة تعتبرها كافية لتتعافى ساقها ولتعود إلى سالف عملها.
ورغم الصعوبات، فهي ما زالت قادرة على الاستمتاع ببعض اللحظات، حيث احتفلت بعيد رأس السنة في بيت رفيقها وسط عائلته، ولهذا الأخير ولدان تعتبرهما كأولادها.
يراود ثريا حلم تعلم الطبخ، وهي مهنة أُغرمت بها منذ أن اشتغلت في عدة مطاعم. كما أن أكبر أحلامها في حالة كسب ما يكفي من المال هو تشييد مسكن جماعي لإيواء المشردين في الشوارع.