صبيحة يوم الخميس 12 ماي 1881، وجه القنصل العام الفرنسي في تونس، تيودور روسطان إشعارا للباي بوصول الجيش الفرنسي إلى باردو بغية إيجاد ترتيب معه بشأن بعض الاضطرابات على الحدود الجزائرية. ونظرا إلى أن الجزائر مستعمرة فرنسية منذ عام 1830، اشتكت السلطات الفرنسية من الهجمات التي يُزعم ضلوع قبيلة خمير في ارتكابها على الجانب التونسي.
حوالي الساعة الرابعة مساء في جو بارد وممطر، طوقت فرقة عسكرية من حرس الخيالة محيط القصر. صعد الباي إلى شرفته برفقة مستشاريه حسب ما أوردته وثيقة من الأرشيف*، ماسكا في يده "منظارا" يتابع من خلاله تحرك القوات وقد "شوهد يمسح من وقت إلى آخر دمعه". بينما كانت العاطفة جياشة بنفس القدر في حريم الباي.
سرعان ما اقتحم الجنرال بريار، قائد القوات، القصر المحاط بالخيالة الفرنسيين وبحوزته أداة هاتفية للتواصل مع قواته المعسكرة في منوبة، ونص المعاهدة في نسختين. قُرئت المعاهدة على مسامع الباي في حين اضطلع مترجمه الشفهي، إلياس موصلي، بالترجمة الحينية. ونصت المعاهدة من جملة ما نصت عليه على تجريد الباي من مهام إدارة الشؤون الخارجية والدفاع.
ثم منح الجنرال الباي أربع ساعات للموافقة على توقيع المعاهدة، وإلا سيحتل باردو ويزحف نحو تونس. طلب الباي وقتا للتمعن، فأتاح له الجنرال ساعتين إضافيتين رافضا تأجيل القرار إلى يوم الغد، ثم انسحب الأخير إلى غرفة في الطابق الأرضي.
كان هذا الحصار غير المنتظر من الجيش الفرنسي ثمرة سيرورة طويلة تتشابك فيها عوامل داخلية وخارجية على إيالة تونس.
"خذوا تونس لو شئتم"
في عام 1881، كانت إيالة تونس المنضوية تحت جناح الدولة العثمانية منذ عام 1574 قد بلغت مرحلة ضعف شديد، تدهورت فيها العلاقات مع الإمبراطورية العثمانية إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق. هدفت السياسة المتبعة منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى تعزيز استقلالية تونس عن الوصاية العثمانية، ولكنها ساهمت بدلا من ذلك في إضعاف الإيالة. ومع حلول سبعينات القرن التاسع عشر، كان كاهل الدولة مثقلا بالديون للبنوك الأوروبية. وأُفقر السكان تحت وطأة الضرائب المرتفعة والقمع الدموي الذي أعقب ثورة عام 1864* والجفاف والأوبئة وغزو الجراد.
راقبت الدول الأوروبية التي أصبح لمواطنيها الحق في امتلاك الأراضي في تونس منذ صياغة وثيقة عهد الأمان الأساسية لعام 1857، التطور السياسي والاقتصادي لإيالة تونس. ورحبت فرنسا أيما ترحيب بتدهور العلاقات بين الإيالة التونسية والإمبراطورية العثمانية بل وغذّته عن قصد.
شكلت فرنسا وبريطانيا العظمى وإيطاليا منذ عام 1869 لجنة دولية لمراقبة الشؤون المالية التونسية. وكان الهدف قبل كل شيء حماية مصالح دائني الباي من مواطنيها. مارس القناصل الأوروبيون زيادة على ذلك ضغوطا متواصلة على الصادق باي لانتزاع امتيازات تفضيلية لفائدة شركات مواطنيهم. فكانت القوى الأوروبية في واقع الأمر توغل في البحث عن مجالات استثمارية توظف فيها رؤوس أموالها الفائضة من أسواقها الوطنية.
"عند بلوغه مستوى معينا من النمو، يخالج الاقتصاد الرأسمالي شعور بالضيق داخل الحدود الأوروبية الغربية".
علي المحجوبي، هاشمي القروي، عندما أشرقت الشمس من الغرب. تونس 1881 - الإمبريالية والمقاومة، دار سيراس للنشر، 1983، ص 28.
تواجد استعمار اقتصادي فعلي قبل حتى بداية الحماية. وشهدت دواخل هذه البيئة الإمبريالية منافسة ملحوظة بين مختلف القوى، خصوصا منها فرنسا وإيطاليا. شجعت بريطانيا وألمانيا في مؤتمر برلين لعام 1878 فرنسا على الاستحواذ على تونس. ذلك أن بريطانيا كانت تخشى أن تبسط إيطاليا يدها على مركز البحر الأبيض المتوسط وتمنع الوصول إلى قناة السويس إذا ما سيطرت على المضيق الفاصل بين صقلية وتونس.
ألمانيا، من جانبها، رأت في سيطرة فرنسا على تونس تعويضا للفرنسيين بعد خسارتهم الألزاس واللورين. ويُذكر أن المستشار بسمارك أعلن خلال هذا المؤتمر أن "الإجاصة التونسية قد نضجت وآن لكم وقت قطافها".
ورد أن وزير الخارجية البريطاني قال لنظيره الفرنسي: "خذوا تونس لو شئتم، ولكم ألا تعارضكم إنقلترا فيها" وورد أيضا قوله: "لا يمكنكم ترك قرطاج في أيادي البرابرة".
"أعداء غير مرئيين لا يمكن تعقبهم"
تميزت السنوات السابقة لبداية الحماية إذن بتوسع اقتصادي أوروبي داخل تونس. احتدمت حرب النفوذ التي شنها القنصل الإيطالي ماتشو ونظيره الفرنسي روسطان لدى الباي ووزرائه بغية الحصول منهم على مزيد من التنازلات. بينما تعاظمت المخاوف الفرنسية إزاء مراكمة الشركات الإيطالية لرؤوس الأموال في تونس.
وهكذا، حين واجهت شركة مرسيليا الائتمانية بعض المصاعب أثناء شراء أرض في النفيضة مملوكة للوزير الأكبر المخلوع خير الدين باشا، رأى القنصل روسطان في ذلك الأمر إهانة من جانب الباي وتهديدا للمصالح المالية الفرنسية. فما كان من السلطات الفرنسية في سبيل فرض سيطرتها على الإيالة سوى اللجوء إلى استخدام ذريعة أمنية تمثلت في وجود قبيلة خمير على الحدود التونسية الجزائرية. وسمحت هذه الذريعة للجيش الفرنسي لاحقا بعبور الحدود الجزائرية واحتلال الأراضي التونسية.
منذ مطلع 1881، اتهمت الصحف الفرنسية الموالية للحكومة الصادق باي بالإخفاق في حماية المصالح الفرنسية وجيّشت الرأي العام استعدادا لهجوم عسكري. ثم ومن أجل إضفاء الشرعية على الحملة، صُوّرت قبيلة خمير على أنهم "قطاع طرق" على غاية من الخطورة و"لصوص" و"متوحشون" و"متعصبون".
أُطلقت الحملة العسكرية بالرغم من الخلافات الناشبة بين مختلف الوزراء، واستهلّت في شمال غرب تونس ثم امتدت من هناك إلى بنزرت. لم تلق العملية استقبالا حسنا لدى القوى السياسية الفرنسية المعارضة إذ خيّر بعضها أن يتراجع الجيش الفرنسي بعد الهزيمة النكراء التي تكبدها على يد بروسيا عام 1870. وندد هؤلاء بالرغبة الصريحة في "التضحية بأمن فرنسا" (صحيفة La comédie politique [الكوميديا السياسية]، بتاريخ 5 جوان 1881).
وجهت صحف المعارضة انتقاداتها إلى التذرع بتعلّة قبائل خمير واعتبرتها مهزلة. وذهبت صحيفة La Comédie politique الساخرة البونابارتية إلى وصف هؤلاء الخمير كـ"أعداء غير مرئيين ولا يمكن تعقبهم" (5 جوان 1881). ووفقا لعدة مصادر، ليست "الاضطرابات" على الحدود التونسية الجزائرية أمرا حديث العهد، فمن المريب إذن أن تشن فرنسا حملة عسكرية بهذا الحجم لمواجهة وضع جارٍ على نفس المنوال منذ عدة سنوات.
"لم يكن للخمير وجود أبدا. نحن لم نذهب إلى تونس حتى نعاقب الخمير [...] بل ذهبنا إلى تونس لتحقيق ربح مالي".
الكوميديا السياسية، 22 ماي، 1881
وتصر الصحيفة نفسها على الطبيعة الانتهازية للعملية الفرنسية منددةً بتوظيف أموال دافعي ودافعات الضرائب لفائدة المصالح الخاصة:
"تعطي المعاهدة الحق ضمنيا للشركة المرسيلية [...] في قضية النفيضة" ؛ "أرسل الوزراء جنودنا إلى هناك [...] خدمةً لمصالح المؤسسات الصناعية المرتبطين بعائداتها أشد الارتباط".
"قضية تونس هي عملية سرقة موصوفة"، صحيفة L'Intransigeant اليسارية (27 سبتمبر 1881).
هجوم منظم
توالت الأحداث على أرض الواقع تباعا. تلقى الجيش الفرنسي في الجزائر يوم 15 أفريل 1881 إشارة الزحف على الكاف وسوق الأربعاء [جندوبة حاليا] وبلغها في اليوم السابع والعشرين من نفس الشهر. وتمثل هدفه في إخضاع السكان واحتلال المدن عسكريا.
أرسل الصادق باي شقيقه ووريث عرشه علي باي على رأس 3000 رجل إلى منطقة الشمال الغربي. تتباين المصادر حول طبيعة السبب الكامن وراء هذه العملية، إذ ربما كان يُفترض بها أن تظهر لقوات الجيش الفرنسي إرادة الباي في تهدئة الحدود وحماية المصالح الفرنسية، أو ربما كانت بالأحرى مناورة لمواجهة القوات الفرنسية إذا اقتضى الأمر ذلك، أو لتسليط عين رقيبة عليها على أقل تقدير. ولكن أمام حشد من 30.000 رجل على الجانب الفرنسي، لم يكن من الممكن للمواجهة أن تكون متوازنة في حال اندلعت بالفعل.
تعرضت طبرقة يوم 29 أفريل لقصف وحدات الأسطول الفرنسي. ووصلت ثلاث سفن من مرسيليا وتولون إلى بنزرت يوم 1 ماي، بينما وصلت ثلاثٌ أُخر من بون [عنابة الحالية]. وكان الجنرال بريار على رأس الحملة المكونة من 35.000 رجل. تم الاستيلاء على بنزرت، ثم بادر الجيش ببسط سيطرته على الطريق المؤدية إلى باردو. ثم في يوم 11 ماي، تلقى الجنرال في معسكره بمنوبة نص المعاهدة في شكل برقية مشفّرة من باريس. وفي 12 ماي، حاصر خيالته قصر السعيد في إطار احتلال عسكري فعلي، عنيف، وقاهر.
"إنما نمضيها تحت ضغط القوة"
في قلب القصر المحاصر، كان النقاش محتدما بين الباي والوزراء والأعيان الحاضرين. وجاءت الروايات حول التوقيع في مصادر الأرشيفات المتروبوليتانية أو الاستعمارية لتسلط الضوء على الطابع العاطفي و"الحساس" للباي من أجل تصويره كحاكم عاجز ومستضعف. ومما يُذكر أنه احتج مستنكرا الطابع أحادي الجانب للمعاهدة، كما ورد أنه استشاط غضبا على وزيره الأكبر مصطفى بن إسماعيل، الذي كان وفقا لعدة مصادر أثيره وعشيقه.
"ومما رُوي إنه وقع مشهد عنيف في هذه الأثناء بين الباي ومصطفى [بن إسماعيل] المفضل لديه، حيث وبخه أشد التوبيخ على خداعه وبهتانه لما وعده به بدعم الأسطول والجيش الإيطاليين"
لوفيغارو، 15 ماي 1881
"كانت مناقشة المعاهدة التي جرت بين مستشاري الباي عاصفة. وعارض العربي زروق الأمر معارضة قاطعة مؤكدا أن الإيالة ملك تركي، بل وذهب إلى حد اتهام الباي بالخيانة".
توقيع معاهدة باردو وفق رواية شاهد عيان
أمام تصاعد الخلافات داخل المجلس، ورد أن الصادق باي قرر إرسال كاتبه بشير بلخوجة إلى شيخ الإسلام طلبا لرأيه، وورد أيضا إنه بحث عن طريقة لإخراج الجنرال حميدة بن عياد من القصر لاستجداء المساعدة من القنصل الإنجليزي. ولكن الجيش تصدى لهذه المحاولة في حين سُمح للوزير بلخوجة السفر إلى تونس العاصمة تحت المرافقة.
أيدت عدة شخصيات الإمضاء على المعاهدة، واختلفت أسباب كل منها. داخل المجلس، دافع مترجم الباي نفسه، الجنرال الياس موصلي (يوناني أو ماروني أو قبطي، يختلف أصله باختلاف المصادر) الموالي والوفي للقنصل روسطان، بحماس عن الوجود الفرنسي في تونس. وكان المترجم قد استأنف منصبه في المجلس بفضل تدخل القنصل لفائدته رغم أنه طرد منه في وقت سابق بتهمة السرقة.
وتؤكد عدة مصادر أيضا أن القنصل كان على علاقة علنية مع زوجة إلياس موصلي، جوليا ترافيرسو، وهي إيطالية مولودة في تونس. انقضّت الصحافة على هذه القصة وخاضت فيها أيما خوض لا لطابعها الشهواني فحسب وإنما أيضا لأنها سمحت باتهام امرأة بكل الشرور. ولكن هذه العلاقة فتحت المجال كذلك لإلقاء نظرة داخل الكواليس السياسية الأكثر تعقيدا إذ يبدو أن جوليا ترافيرسو قد ساهمت بشكل استراتيجي في إضرام الخصومة بين القنصل الإيطالي ماتشيو ونظيره الفرنسي روسطان.
وبالعودة إلى القصر، أعلن الوزير بلخوجة أن:
"شيخ الإسلام وكذلك الباش مفتي وقاضيا تونس أشاروا عليه بإخبار جلالته أنه يجب اختيار أهون الشرّيْن [...] وإذا كانت عواقب رفض إمضاء المعاهدة أشد من عواقب الرضوخ لها، فلا ينبغي لجلالته التردد في قبول الوضع الجديد". (توقيع معاهدة باردو وفق رواية شاهد عيان)
رضوخا لوطأة الإكراه العسكري وآراء مستشاريه، وقع الصادق باي على المعاهدة مع حوالي الساعة السابعة مساءً. وقد حملت المعاهدة أربعة إمضاءات أولها للباي وثانيها لوزيره الأكبر مصطفى بن إسماعيل والثالث للقنصل روسطان وإمضاء رابع للجنرال بريار. ولعل الرسم أسفله الذي أنجزه الرسام التونسي أحمد عصمان قد خلّد بحق هذه اللحظة.
"على يمين الباي يقف أكبر أعيان الدولة. نتعرف (من اليسار إلى اليمين) على محمد البكوش ومحمد العربي زروق وعزيز بوعتور والوزير الأكبر مصطفى بن إسماعيل، ومحمد خزندار، وجميعهم يرتدون معطفا وسترة وشاشية تقليدية. بين الباي والجنرال بريار يقف الجنرال إلياس موصلي، المترجم الأول، وقنصل فرنسا تيودور روسطان. وبحركة من يده اليمنى، نرى الأخير بصدد تقديم الجنرال بريار الذي يتخذ وضعية انحناءة طفيفة كعلامة على الاحترام تجاه للباي. على يمين الضابط الفرنسي نجد الجنرال موران، والمترجم الشفوي آمار، والجنرال الطاهر بن حسن قائد حرس الباي. يضع الصادق باي [...] يده اليمنى على وثيقة يصعب تحديد ماهيتها. في المقدمة نلحظ إسكمْلة تغطيها ألواح رخامية تم توقيع المعاهدة فوقها". (المصدر: كتالوغ معرض صحوة أمة)
في رسالة موجهة إلى السلطان العثماني بتاريخ 15 ماي، شرح الصادق باي أسباب اتخاذه هذا الخيار:
"وحيث وجدتُ نفسي تحت ضغط القوّة لوجود جيش أجنبي بالقرب من قصري، كنت مضطرّا للمحافظة على الشرف ولاجتناب إهراق الدّماء إلى إمضاء المعاهدة بدون أن أتأمّل منها أو أناقش فيها، وصرّحت بأنّي أمضيتها تحت ضغط القوّة." (عندما أشرقت الشمس في الغرب، ص.42)
حماية فرنسية
من المحتمل أن حقيقة إبقاء المعاهدة على الصادق باي في السلطة قد شجعته على توقيعها. بيد أن نص المعاهدة أزال عنه كل سيادة خارجية وأعلن، فيما أعلن، الإبقاء على الاحتلال العسكري للحدود*.
في اليوم التالي للتوقيع، أدلى رئيس مجلس الوزراء جول فيري، ببيان إلى الحكومة الفرنسية دفاعا عن هذا العدوان، لم يتحدث فيه بعد عن حماية بل عن "معاهدة ضمان" أو "معاهدة سلام". ووفقا له، "يجب على تونس أن تكون تحت تبعيتنا طالما أنها لا تستحق بعدُ ثقتنا وصداقتنا". ولكن خطابه هذا سرعان ما أصبح يحمل تلاميح مصالح أكثر واقعية:
"لأكثر من عشر سنوات، هددت تونس دون محاسبة هدوء مستعمرتنا الأفريقية. كان من الضروري وضع حد لها، وكان من الضروري الحصول على ضمانات جدية [...] [من الضروري] ببساطة ضمان حماية المصالح الفرنسية في تونس [...] إذا عجز الباي عن القيام بدور الشرطي في عقر داره، سنفعل نحن ذلك [...] دعونا نحتل بنزرت، هذا الميناء هو مفتاح تونس". ( صحيفة لوفيغارو، 14 ماي 1881)
لاحقا استُخدم مفهوم الحماية* لتحديد السياسة الفرنسية المنفذة في تونس.
*"مفهوم اكتشفته فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر أثناء انتصابها في تونس، ولكن هذا المفهوم كان موضع تنفيذ لفترة طويلة من قبل إنقلترا في إطار الحكم غير المباشر [...] وليس معناه أن تحتل أمة حامية بلدا، وأقل من ذلك أن تستوعبه وتضمه ؛ ولكن باعتماد "السلطة الحامية" على هياكلها الخاصة ونخبها المحلية وممارستها السلطات السيادية باسمها، تسيطر بذلك على إدارة البلاد وتعزز موقع السلطة المركزية القائمة: وهذا ما يسمى بالإدارة غير المباشرة التي تبقي على الجهاز الإداري والقضائي المحلي كما هو على جميع المستويات، لكنها تفرض عليه ممثليها الذين يعوّلون على ما تتيحه لهم الإقامة العامة من خدمات".
كلود، فرانك. "التاريخ العسكري - مفهوم الحماية"، مجلة الدفاع الوطني، المجلد.823 ، رقم 8، 2019، ص 115-120.
يختلف النموذج المطبق في تونس إذن عن النهج المتبع في الجزائر. إذ كان السياق الفرنسي آنذاك يتناسب بشكل أفضل مع نظام الإدارة غير المباشرة وخيار إنشاء مستعمرة للاستغلال بدلا من مستعمرة استيطانية:
"إن الظروف الاقتصادية والديمغرافية لفرنسا التي تتميز بفائض رأس المال وانخفاض معدل النمو، تتماشى أكثر مع نظام الحماية [...] ولو أرادت حكومة الجمهورية أن تجعل من الإيالة مستعمرة استيطانية لما استطاعت".
عندما أشرقت الشمس في الغرب، ص 44 .
وفقا لمؤلفي الكتاب، فإن النظام الذي كان يتماشى بشكل أفضل مع الجمهورية الثالثة ذات النظام البرلماني كان نظام الوصاية التي لا تقع تحت المراقبة البرلمانية، وهو نظام يسمح "بالاختباء وراء السيادة الوهمية [...] للأمير المحلي والإفلات من رقابة البرلمان".
للنظام الذي فرضته الدولة الفرنسية على تونس منافع عديدة منها طمأنة الرأي العام، وإعطاء ضمانات للقوى الأوروبية الأخرى بشأن مصالحها في شمال أفريقيا، والاقتصاد في استخدام الجيش والخزانة العامة. وبالتالي تضمن المعاهدة المصممة على القياس أقصى قدر من المكاسب مع حد أدنى من الخسائر لفرنسا.
ولكن بالنسبة للسكان التونسيين، لم تبلغ القضية منتهاها بعد. اندلع تمرد في أعقاب التوقيع على المعاهدة وفرض مساهمة حربية على القبائل التي شاركت في حركات المقاومة. قاومت عدة مدن الاحتلال الفرنسي خلال الأشهر التالية، وقُصفت صفاقس في جويلية، ثم حوصرت القيروان في أكتوبر، وتعرضت قابس وقفصة للهجوم في نوفمبر. واصلت عدة مناطق أخرى مقاومة الاستعمار الفرنسي حتى اتخذت الأضرار البشرية والمادية التي سببها الجيش الفرنسي حجما مأساويا. ولكن الكتب المدرسية الفرنسية للجمهورية الثالثة لم تحتفظ من كل ذلك سوى بـ "المآثر المسلحة البهية مثل [...] قصف صفاقس والاستيلاء على [...] القيروان، المدينة المقدسة للتونسيين". (لوران موران، تاريخ فرنسا في المدرسة، ميتيف، 2018).
12 ماي، تاريخ إكمال التاريخ
لاحقا تم تنقيح معاهدة 1881 في عامي 1882 و 1883 على التوالي، كل نص جديد يأتي ليمنح فرنسا مزيدا من الامتيازات السياسية والإدارية والدبلوماسية، راسما المسرب نحو إدارة أكثر مباشرة.
الحماية ولو ادعت الدفاع عن مصالح الأسرة الحاكمة، هي تحمي قبل كل شيء القوة الاستعمارية. وقد أتت لتُضاف إلى النصوص التونسية الصادرة في منتصف القرن 19 من قبيل إلغاء أحمد باي للرق في 1846 أو عهد الأمان لمحمد باي (1857) التي، على الرغم من طابعها القومي البدائي، دافعت بشكل خاص عن المصالح الأوروبية. إذ تم إلغاء الرق كسبيل لتحرير الرقيق المسيحيين من شمال البحر الأبيض المتوسط، وأتاح عهد الأمان للأجانب امتلاك الأراضي في الإيالة.*
كانت معاهدة 12 ماي 1881 والنصوص اللاحقة لها تعني مزيد إخضاع الباي، ومن خلاله، الرغبة في إخضاع البلاد برمتها.
هذا الرسم المنشور في صحيفة "ليبوكا" الإيطالية والذي يظهر القنصل روسطان ماسكا عِقال جسدين مصغّرين للصادق باي (على اليسار) ووزيره مصطفى بن إسماعيل (على اليمين)، يعكس بشكل واضح جوانب القهر والتقزيم وحَيْوَنَة الإنسان في المشروع الاستعماري.
نرى خلف روسطان إسكمْلة هي على الأرجح التي وُقّعت فوقها معاهدة 12 ماي 1881. ولاحقا، سيستخدم هذه الطاولة نفسها الرئيس الحبيب بورقيبة للمصادقة على تأميم الأراضي في يوم 12 ماي آخر من عام 1964.
مع تاريخ الاستقلال الرسمي يوم 20 مارس 1956، تضع الرواية الوطنية تاريخين إضافيين موضع التمجيد بغية "استكمال" هذا الاستقلال، وهما 15 أكتوبر 1963 و 12 ماي 1964 أي يوم جلاء الجيش الفرنسي من بنزرت ويوم تأميم الأراضي المستعمرة.
في نفس الموضوع
وهكذا صاغت الدولة المستقلة حديثا استجابة مزدوجة إزاء الماضي الاستعماري تتجلى من خلال اختيار نفس المصطلح العربي ( جلاء) في موضعين، الجلاء العسكري و الجلاء الزراعي. أجلت الدولة مدينة بنزرت الساحلية التي كانت مطمع القوى الإمبريالية في القرن التاسع عشر ثم استرجعت الأراضي الزراعية، ربما كردّ على خطيئة المستعمر الأصلية: بيع أرض النفيضة.