متوفر باللغة الفرنسية

مروى، 32 سنة، قاضية شابة، 3500 دينار في الشهر



متوفر باللغة الفرنسية

09 ديسمبر 2022 |
لطالما حلمت مروى بإحداث تغيير، وكان ذلك دافعها الأساسي منذ بدأت دراستها في كلية الحقوق أين تولّد لديها شغف بالقانون الإداري، وأملٌ بأن تترك أثراً على حياة الناس التي قد تصيبها الإدارة بالضرّ أحيانا. لكن الوتيرة اليومية المتراوحة بين عملها في محكمة المهدية وذهابها وإيابها على تونس العاصمة يرهقها.

لا تأتي نهاية الأسبوع إلا وقد بلغ الإنهاك من مروى مبلغه، وتأخذ التساؤلات تراودها عمّا إذا كانت ستقدر على العودة إلى تونس العاصمة. لكن رغبتها في رؤية ذويها وأصدقائها وصديقاتها تكون لها الغلبة دائما، فتتشجع الشابة وتنطلق في طريقها. 

تتواجد مروى في المهدية من يوم الإثنين إلى الجمعة، أين تتابع المداولات مع زملائها الواحدة تلو الأخرى ثم تُلحقها بمراجعة الملفات التي تنتظرها في أكداسٍ على مكتبها. لا يهم الوقت الذي يستغرقه ذلك، إذ يجب عليها إتمام العمل وإن تواصل إلى أواخر الليل. مداولات، جلسات سماع، تلاخيص ملفات، إنجاز تقارير، مسودّات أحكام، قضايا استعجالية… تمضي الأسابيع متشابهة يؤثثها قدر لا يطاق من العمل.

في سنوات الجامعة، كان يُشهد لمروى جِدّها في العمل وبفضل نتائجها الجيدة نجحت في مناظرة الدخول للمدرسة الوطنية للإدارة. خاضت إثر ذلك تجربة مقتضبة في المجتمع المدني قبل أن ينتهي بها المطاف على سبيل القضاء بعد نجاحها في الانضمام للمحكمة الإدارية.

"عملت جاهدة كمراقِبةٍ في صفوف المجتمع المدني، ولكن استقر رأيي على القضاء الإداري لأنني كنت شغوفة به. إنه يمس كل جوانب الحياة، الإدارة تمس حياة المواطنين من يوم ميلادهم إلى مماتهم. يا له من شغف !"

البدايات لم تكن هيّنة، بل "فوضية" على حد تعبيرها. تم تعيينها في الدائرة الابتدائية بالمهدية* حيث تفطنت مروى إلى أن تكوينها -على متانته- لم يكن كافيا لتفهم حقيقة الميدان اليومية. ووجدت أن الجوانب النظرية التي تلقّتها في كلية الحقوق ومدرسة الإدارة يصعب تطبيقها بشكل عملي في الملفات التي يُفترض بها الحكم فيها والمتعلقة بشؤون "أناس من لحم ودم" كما تقول.

"حياة الناس مبسوطة بين يديك في صفحات التقارير ومحاضر المداولات. أثقلني هم المسؤولية وبلغ بي الأمر في بداياتي أن لاحقتني ملفّات النهار في كوابيس الليل".

طمأنها زملاؤها آنذاك قائلين أنها سوف تتعلّم شيئا فشيئا، "قالوا لي إن الخبرة تأتي بالممارسة" تروي القاضية. لكن المخاوف لم تنته عند هذا الحد، فمروى تخشى ألا تكون كتابتها باللغة العربية الفصحى عند المستوى المطلوب في المحكمة. كما ينبغي عليها وبسرعة إيجاد طريقة للاضطلاع بعدة مهام في نفس الوقت نظرا لكمية الملفات وتعقيدها، وما زاد من قلقها فوق ذلك هو شعورها بأنه لا يحق لها ارتكاب الأخطاء: "كنت ألتزم شديد الحذر لأنني لم أعهد هذا العمل بعدُ ومصائر الناس بين يديّ".

رويدا رويدا، أخذت مروى تتأقلم وتتقن مختلف المهام الموكولة لها بينما بدأت وتيرة حياتها تثقل كاهلها يوما عن يوم. حاولت الشابة منذ تعيينها التوفيق بين تواجدها في المهدية وتواجدها في تونس العاصمة. في المهدية يلتهم عملُها كاملَ الأسبوع، وفي العاصمة يتسنى لها لقاء أقاربها ونيل نصيبٍ من الحياة الاجتماعية.

"بصراحة أنا منهكة" تعترف مروى قبل أن تضيف "لذا قررت مؤخرا عدم العودة إلى تونس في كل نهاية أسبوع. لم أعد أذهب إلى هناك بنفس النسق كمن ذي قبل، حتى سيارتي لم تعد تطيق الطريق. الحفاظ على حياتيْن أمر على غاية من الصعوبة ماديا وجسديا".

ما بين أيامها المطوّلة والتي قد تزيدها ليالي العمل طولاً، وبين نهايات الأسبوع حيث تحاول رؤية أسرتها وأصحابها، وجدت مروى نفسها تقضي معظم وقتها على الطريق دون أن يسعها التوفيق بين كافة جوانب حياتها. "ليس لي الكثير من الوقت لنفسي، أحاول فعلا بذل قصارى جهدي لأكون مع أسرتي وأصدقائي والقيام بأنشطة تسعدني. في تونس هناك أحبابي، ولكنني أستحق أيضا نصيبا من الراحة".

بهذه الوتيرة المحمومة والممزقة بين المهدية وتونس، وتكاليف منزليْن، والمال الذي تخصّصه لأسرتها وغيرها من المصاريف الطارئة والمتكررة، تنفق مروى كل راتبها ولا تقدر على الادّخار بالرغم من أن مدخولها يُعتبر أكثر من كافٍ لشخص وحيد.

في ما يلي لمحة عن مدخولها ومصاريفها الشهرية:

وحتى يتسنى لها عيش حياتيْن، الأولى في تونس والثانية في المهدية، تكتري مروى مسكنيْن في كلتا المدينتين، مما يمثّل مصاريف شهرية كبيرة وقارّة، مع ما يقتضيه ذلك من فواتير مضاعفة ونفقات أسبوعية مختلفة. وسواءً في المهدية أو في تونس، تقوم القاضية الشابة بشراء حاجياتها بنفسها من مواد تنظيف وبعض المشتريات من السوق البلدية أو من أقرب متجر إذا ما تمكّنت من استراق وقت للطّهي. لكن بصفة عامة، تأكل مروى خارج المنزل نظرا لضيق الوقت وقلّة الجهد.

تخصص القاضية المبتدئة ميزانيةً بشكل عرضي لصيانة سيارتها التي تستعملها لرحلاتها بين تونس والمهدية، والآخذةِ تكلفتها في الارتفاع بلا هوادة. أعطاب السيارة وما تتطلبه من تصليح، وأسعار الوقود وما تشهده من زيادات، كلّها تمثّل مصدر قلق لا ينزاح، فإذا أصلحت يوماً قطعةً أصابها التّلف عطِبت البطارية، وإن أصلحت البطارية انفلقت إحدى العجلات، وهلمّ جرّاً…

لهذه النفقات غير المتوقعة تأثير كبير على ميزانيتها، ولكن على الرغم من ذلك تتمكن القاضية الشابة من توفير بعض الوقت والمال للترفيه عن نفسها والخروج عادةً مع أصدقائها وصديقاتها خلال نهايات الأسبوع. 

في ما يلي تفاصيل مداخيلها ومصاريفها الشهرية:

إلى جانب حياتها اليومية، تولي مروى اهتماما وعناية كبيرين برفاهية والديها وأقربائها ويكلّفها ذلك في المجمل 1000 دينار في الشهر. ليس لوالديها دخل قار ويعاني كلاهما من بعض المشاكل الصحية، فتنفق مروى جزءا مهما من راتبها لتضمن لهما مستوى معيشيا مريحا وحتى تلبّي احتياجات أمها الطبية. ثم هناك قريبتها، وهي أمّ تعاني من ضيق ذات اليد وتعيل طفلاً، فتتكفّل مروى بنفقات دراسته.

"حاليا، لا أستطيع التفكير في قرض لشراء سيارة جديدة مثلا، ولا يمكنني إزاحة مكانٍ في ميزانيّتي  لسداد أقساطٍ مع كل التزاماتي لعائلتي"

المنطقة الرمادية 

حين كانت أصغر سنا، كانت مروى تتطلع إلى استقلاليتها المالية، وتحلم بعيش حياة الرفاه من عرق جبينها. ولكن واقع الحال مخالف، واحتياجات عائلتها المتعاظمة والخيار الذي اتخذته بكراء مسكنين في مدينتين مختلفتين لا يسمح لها بإدارةٍ فضلى لمواردها المالية.

هذه الوضعية تدفعها أحيانا للتشكيك في خيارها المهني، خصوصا أن عائلتها لطالما كانت تشجّعها على النظر إلى أبعد من ذلك والتفكير في مهنة على الصعيد الدولي واستكشاف فرص مغايرة. حتى معظم أقاربها يرونها قادرة على الحصول على أجرٍ أفضل بمسؤوليات أقلّ، خصوصا بالنظر لِما لها من تجارب وقدرةٍ على بذل قصارى جهدها في عملها.

"لا يخفى أن عملي هذا يمثّل نوعا من الاستقرار بالنسبة لي. تشعر بحمايةٍ أكبر عندما تتمتع بهذه الصفة التي تمثّل سلطةً، كما يجعلك ذلك تحظى بقدر كبير من الاحترام. لكنه نصل ذو حدّين، وهي مسؤولية عظمى تثقل كاهلي كل يوم".

مع وتيرة العمل وبعض المشاكل الصحية، لم يسنح لمروى أخذ إجازة حقيقية منذ زمن، لكنها تأمل في أن الحال سيتغير قريبا:

"مع كل المصاريف القارة والمساعدات التي أقدّمها بكل سرور لعائلتي، لم تُتح لي الفرصة لأخذ إجازة والسفر مثلا. لأن السفر قد يكلفني 3000 أو 4000 دينار وأنا، بطبيعة الحال، لا أمتلك هذا المبلغ في ميزانيتي".

إلى جانب مسألة الميزانية، يُخيّل لمروى أن مهنتها وما تحمله من صورةٍ لدى الناس، تُؤثر لا محالة على علاقاتها الاجتماعية. فمنذ أصبحت قاضية، لاحظت الشابة تغييرا في سلوكات البعض من معارفها "وكأنهم يمارسون ضبط النفس في حضوري. هناك من لا يتوقفون عن مناداتي سيّدتي القاضية من باب المزاح، لكن ذلك يخلق مسافة بيننا".

المستقبل

رغم المصاعب، تعتبر مروى نفسها محظوظة كونها نفذت إلى مركز اجتماعي محترم من خلال عمل شغوفة به منذ زمن وإن كانت الوتيرة اليومية عسيرة. تأمل الشابة في غضون السنوات القليلة القادمة أن يأتي اليوم الذي يتم فيه قبول مطلبها في النقلة حتى تكون حذو أقربائها وصديقاتها وأصدقائها. هذا التغيير سيسمح لها أخيرا بتخفيف وطأة الوتيرة المتسارعة وعقلنة مصاريفها.

"أنا فخورة بقدرتي على مدّ يد العون لعائلتي وإخراجهم من الحاجة كلما تطلب الأمر ذلك. وأنا سعيدة لأنني أستطيع مساندتهما في مواجهة وضعيتهما الهشّة بفضل عملي المستقرّ".

تثق مروى أن وضعية والديها ستتحسن قريبا وسيستطيعان ضمان مزيد من الاستقرار بفضل حلحلة مشكلة تتعلق بإرث عائلي. وسيتيح لها ذلك التركيز على حاجياتها الشخصية والاقتصار على مساعدتهما بشكل عرضيّ دون أن يمثّل ذلك ضغطا شهريا. "أنا متفائلة. أشعر بأن 2023 ستكون سنة جيدة" تقول القاضية الشابة.