في الطريق إلى المدرسة: أطفال في خطر وسط غياب للدولة

بالنسبة للعديد من التلاميذ والتلميذات القاطنين بالمناطق الريفية، يعد الذهاب إلى المدرسة أشبه باجتياز مضمار عوائق شاق. منذ المرحلة الابتدائية يضطر هؤلاء إلى السير لكيلومترات على طرقات ومسالك خطرة، ويمس هذا الوضع بما يقدر بـ 25.000 إلى 30.000 تلميذ وتلميذة على المستوى الوطني إلى حدود 2019.
بقلم | 19 فيفري 2019 | 10 دقائق | متوفر باللغة الفرنسية
يقطن عزيز ابن العشر سنوات مع عائلته على بعد بضعة كيلومترات من بوعرادة في منطقة سليانة. إلى غاية سنة 2016، كان على هذا الطفل الصغير السير عبر مسالك وعرة وحتى وسط الغابة أحيانا لبلوغ مدرسته. والآن صار ينتفع من نظام النقل المدرسي الذي توفره إحدى الجمعيّات.

الطريق إلى المدرسة

يفتقر سكان البيوت القليلة المتفرقة في الجبال والمناطق الريفية من الشمال الغربي للبلاد إلى أبسط ضروريات العيش من مياه صالحة للشراب وكهرباء ونظام نقل. ومنذ السنة الأولى من مرحلة التعليم الابتدائي، يضطر آلاف الأطفال إلى قطع عدة كيلومترات سيرًا على الأقدام للتمكن من متابعة تعليمهم.

شكّل التنقل إلى المدرسة على مدى عدة سنوات مصدر قلق لعزيز وأسرته فالإشاعات التي يُروّج لها حول التعرض إلى هجمات حيوانات مفترسة و "إرهابيين" تُثير هلع الأولياء والأطفال على حد السواء. يروي لنا عزيز أن "هنالك ذئاب تعوي وذلك يُخيفنا حقّا، نسقط ونتسخ، نشق النهر ثم يعترضنا منحدر ضخم فننزلق ...".

في معظم الأحيان، يتنقل الأطفال، حتّى أصغرهم سنا، بمفردهم. تشرح حدّة والدة عزيز: "نجتمع مع الجيران حتى يتنقل الأطفال مع بعضهم البعض. نساعدهم على عبور النهر ثم نتركهم يواصلون بمفردهم. بعد انتهاء الدروس، نعيد الكرة من جديد في الاتجاه المعاكس". اضطرت حدة في العديد من المرات إلى ترك ابنتها الصغرى بمفردها في المنزل ريثما ترافق أبناءها وبناتها الأكبر سنا.

تشتد الظروف قسوة في فصل الشتاء، حيث تنخفض درجات الحرارة بشكل ملحوظ وكثيرا ما تكون منطقة سليانة عرضة لتهاطل الأمطار الغزيرة والفيضانات. في إحدى المرات التي كان فيها على طريق العودة من المدرسة، كاد فيضان أحد الأودية أن يجرف التلميذ وائل ابن العشرة أعوام لولا أن أنقذته والدته في آخر لحظة. ويحدث أن ايضطر وائل إلى التغيب عن مقاعد الدراسة لمدة أسبوع كامل عندما تغمر المياه الطريق بالكامل بحيث يستحيل النفاذ إليه.

تؤثر هذه الظروف بطبيعة الحال على المردود الدراسي للتلاميذ، ووفق الصبي، يستغرق الوصول إلى المدرسة ساعتين. في نهاية اليوم يأخذ التعب من الصبي كل مأخذ بعد أن يكون قد استيقظ مع طلوع الفجر ومشى لمدة أربع ساعات يوميا. وفوق كل ذلك تنعدم الكهرباء في بيته، وفي فصل الشتاء برجوع وائل إلى منزله، يكون اللّيل قد أرخى ستاره ويحدث ألا يتمكن من مراجعة دروسه في صورة نفاد الشموع. تتذكّر والدته نجمة معدّل ابنها حين كان "في حدود 15 من 20، لكنه تراجع ليتراوح بين 10 و 11 بسبب هذه الظروف".

كما هو الشأن بالنسبة لنجمة، تُشير حدة إلى انعكاس هذا الوضع على النتائج المدرسية لأطفالها الأربعة واصفة إياها بـ"الضعيفة" كما تشعر بالعجز عن مساعدتهم على حل واجباتهم المدرسية. "لم يسعفني الحظ بدخول المدرسة وكذلك زوجي. تقول المعلّمة إن الأطفال يواجهون صعوبات في دراستهم...ولذا، آخذهم إلى جارتي أو ابنة أخي لمساعدتهم قليلاً ".

يستدعي المدرّسون والمدرسات والديْ عزيز بانتظام لإطلاعهما على مدى ضعف مستوى أبنائهما الدراسي، "لكن ما باليد حيلة" تتنهد حدة بحسرة، "إنّهم على درجة من الإنهاك تحول دون إنجاز واجباتهم المدرسية. بعد انتهاء الدروس يخلدون إلى النوم مباشرة".

في ظل هذه الظروف، يواجه بعض التلاميذ والتلميذات فشلا دراسيا أو ينقطعون حتى عن التعليم منذ المرحلة الابتدائية.

تُشير الإحصائيات إلى أنه خلال السنة الدراسية 2016/2017، تجاوز عدد المنقطعين والمنقطعات عن الدراسة قبل سن الثانية عشرة 10.000 تلميذ.ة أي ما يمثل 5.8٪ على الصعيد الوطني في حين أن التعليم إجباري إلى حد سن السادسة عشر.

وحتى وإن لم يكن طول المسافة هو العامل الوحيد للتسرب المدرسي، فإنه قد يفسر إلى حد كبير سبب انقطاع الأطفال القاطنين بالمناطق الريفية عن الدراسة.

الدعم الجمعياتي

إزاء تفشي هذه الإشكاليات وغياب سياسة عمومية ناجعة، بادرت جمعية تُدعى "المدنيّة" بتوفير نظام نقل مدرسي في جميع أنحاء البلاد "وعلى وجه الخصوص في كل من سليانة والقيروان وجندوبة والقصرين، وهي الولايات الأربع الأكثر تضرّرًا من هذه المعضلة"، حسب ما جاء على لسان دلال المحرزي الكاتبة العامة للجمعية.

تتابع المحرزي قائلة أن "الانطلاقة الفعلية للبرنامج كانت في غضون شهر مارس 2011 من خلال إرساء مشروع ريادي شمل 200 تلميذ.ة من منطقة سليانة والكاف". حاليّا، تساهم الجمعية التي تحظى بدعم مالي من كل من شركة اتصالات تونس والبنك الوطني الفلاحي في مساعدة 12.000 تلميذ.ة ومن بينهم عزيز ووائل.

"تحسّنت الأمور الآن. هنالك سيارات تقلنا إلى المدرسة"، يقول عزيز مبتهجا بعد أن تقلص الوقت الذي يقضّيه على الأقدام إلى نصف ساعة لا أكثر لبلوغ نقطة التجمع.

وبغرض تنفيذ هذا المشروع، قامت الجمعية بتوظيف سائقي سيارات نقل جماعي (لواج) من أصيلي المنطقة. تؤكد دلال المحرزي عن جمعية المدنية على التداعيات الإيجابية لهذا المشروع على الناقلين فهم "يتلقّون راتبا شهريا يتراوح بين 450 و 500 دينار مقابل عملهم كأجراء. ومن شأن هذا المشروع إدماجهم في الدورة الاقتصادية الرسمية".

ويُقلّ هؤلاء السّاقة التلاميذ والتلميذات انطلاقا من نقاط تجمع لا تبعد أكثر من خمسة كيلومترات عن منازلهم. وتُشغّل الجمعية حاليا 350 ناقلا موزعين على جميع أرجاء البلاد ويؤمّنون النقل إلى 250 مدرسة.

رغم أن تكفّل هذه الجمعية بنقل التلاميذ والتلميذات خطوة كبيرة إلى الأمام، إلا أن بعض الأولياء يعبّرون عن رغبتهم في أن يقع تجميع الأطفال من نقاط أكثر قربا من أماكن السكن. عزيز مثلا يتعين عليه، لبلوغ نقطة التجمع في قريته، سلك طريق تعتبره حدة محفوفا بالمخاطر بسبب وجود الكلاب السائبة.

"لا يزال الأطفال مرهقين نسبيا وإن أصبح الوضع أفضل بكثير من ذي قبل"، تقول الأم.

لا تتعهد جمعية المدنية سوى بنقل التلاميذ والتلميذات الذين تقع منازلهم على بعد أكثر من ثلاثة كيلومترات من المدرسة. وتشرح دلال المحرزي أن هذا الحد الأدنى "فُرض بسبب نقص الإمكانيات المتاحة وإلا فإنه سيتعين علينا نقل الجميع ...".

تشدد الجمعية على تحسن نتائج المنتفعين الدراسية وتقلص نسبة الغيابات منذ إرساء هذا النظام.

تقول المحرزي أنه "في فصل الشتاء، كان بعض الأطفال مضطرين إلى الانقطاع عن الدراسة حوالي الشهرين بسبب تهاطل الأمطار، مع ما يترتب عن ذلك من معدلات ضعيفة وارتفاع نسبة التسرب المدرسي".

ترى الكاتبة العامة للجمعية كذلك أن التحسن المُحرَز يتجلّى أيضا من خلال الرفاهية التي يتمتع بها الأطفال الذين أصبحوا يحظون بمتسع من الوقت "للمطالعة واللعب والترفيه عن النفس". ومن جهته، لمس الطاقم المدرسي التداعيات الإيجابية لمبادرة جمعية المدنية، تقول الكاتبة العامة أن "بعض التلاميذ تمكّنوا من تحسين أعدادهم بأكثر من خمس نقاط وتراجعت نسبة الغيابات بشكل ملحوظ". في مدرسة عزيز مثلا، عُلّقت هذه النتائج الجديدة بفخر على جدران مكتب المدير.

في مدرسة عزيز، يُبرز المدير مزهوّا ارتفاع نسبة حضور التلاميذ منذ إرساء نظام النقل الجمعياتي.

أين الدولة من كل ذلك؟

انطلاقا من سنة 2002، وضعت الدولة بدورها نظام نقل مدرسي موجها للمناطق الريفية. غير أن هذا النظام العمومي لا يشمل سوى المدارس الإعدادية والثانوية مع استثناء الابتدائية منها. ترى دلال المحرزي أنه بالمقارنة مع المشروع الذي أرسته المدنيّة، فإنه "حتى وإن كانت الميزانية المرصودة من قبل الدولة تفوق ميزانية الجمعية، فإن عدد التلاميذ والتلميذات (المنتفعين) أقل".

في سنة 2015، عقدت الجمعية اجتماعا مع وزارة النقل بغية تقاسم المشاريع مع الدولة على أفضل وجه. تعتبر المحرزي من جهتها أن نقطة قوة المدنيّة تكمن في العمل الميداني الذي تقوم به، تقول: "اعتدنا على إجراء عمليات مراقبة ميدانية وعلى تتبع الناقلين وما إلى ذلك. على سبيل المثال، نتثبت من طول المسافات الفاصلة بين نقاط التجمع والمدارس". ومن خلال التحقق من هذه المعلومات، تتأكد الجمعيّة من مدى صحة أقوال السائقين فيما يتعلق بالمسافة المقطوعة بهدف سداد أجورهم على هذا الأساس.

على ضوء خبرة المدنيّة في هذا المجال والنتائج المحقّقة، أعربت الدولة عن رغبتها في التعاون معها: بالنسبة لبعض المشاريع العمومية، تتعهد الجمعية بنقل التّلاميذ والتلميذات القاطنين على بعد ثلاثة إلى خمسة كيلومترات من المدارس. أما إذا تجاوزت المسافة هذا الحد، فإن الدولة هي التي تتكفل بذلك من خلال استئجار ناقلين للغرض. إلى جانب ذلك، تُدير المدنية مشاريعها الخاصة وفي المجمل تقود مشاريع نقل في 12 ولاية، "بعضها بالشراكة مع الدولة والبعض الآخر بمفردها".علما أنه إلى حد هذه الساعة، تبقى الجمعية هي الوحيدة التي توفر نقل تلاميذ وتلميذات المدارس الابتدائية.

"تحرص الجمعية على مؤازرة جهود الدولة ولكنه من غير المعقول أن نحل محلّها".

تتضاعف المشاكل مع بلوغ المرحلة الإعدادية إذ يُذكر أن نسبة التسرب المدرسي في الصف السابع ترتفع إلى 13.3٪ على الصعيد الوطني وتهم بشكل خاص تلاميذ الأوساط الريفية. يقول ناجي جلول، وزير التربية الوطنية الأسبق، أن "المدارس الإعدادية تقع بالمدن. وهو ما ينجر عنه مصاريف إضافية متعلقة بالتنقل والمدارس الداخلية وغيرها مما يعجز الآباء عن التّكفّل به في بعض الأحيان"، وهو ما من شأنه تعميق الفجوة بين تلاميذ وتلميذات المناطق الريفية ونظرائهم في المدن الكبرى.