"لا ضمان ضد الحكم السلطوي" في ظل غياب محكمة دستورية

يوم 25 جويلية 2021، فعّل الرئيس قيس سعيد الفصل 80 من الدستور لإعلان حالة الاستثناء. وفي صورة الالتجاء إليها، فإن المحكمة الدستورية هي المخولة دون سواها للبت في استمرار هذه الحالة من عدمه. غير أن هذه الهيئة التي من المفترض أن تحكم في النزاعات المؤسساتية لم تر النور إلى يومنا هذا.
بقلم | 29 جويلية 2021 | reading-duration 7 دقائق

متوفر باللغة الفرنسيةالإنجليزية
بعد أكثر من عامين من التأخير وساعات طويلة من المداولات الدؤوبة، تمت أخيرا المصادقة على الدستور التونسي في 26 جانفي 2014. "كنا واعين بالنواقص التي تشوبه، لكنه يُعد انتصارًا عظيما رغم كل شيء"، مثلما تتذكر أستاذة القانون العام سناء بن عاشور. ينص هذا القانون الأساسي الذي نال مصادقة المجلس الوطني التأسيسي على إرساء محكمة دستورية وانتخاب أعضائها الـ12 في أجل أقصاه سنة واحدة من إجراء الانتخابات التشريعية، أي إلى حدود أكتوبر 2015.

غير أنه بعد مضي ست سنوات، لا تزال المحكمة الدستورية غائبة عن الحياة التشريعية بينما زادت الحاجة الماسة إلى إرساء هذه الهيئة منذ 25 جويلية 2021.

دق سناء بن عاشور جرس الإنذار مصرحة بأنه "لا وجود لأي ضمانات ضد الحكم السلطوي".

وبالفعل، لا توجد أية سلطة مضادة من شأنها الحد من السلطة المطلقة لرئيس الجمهورية في ظل غياب قضاة وقاضيات دستوريين·ـات يمكن اللجوء إليهم·ـن من قبل رئيس مجلس نواب الشعب أو مجموعة متكونة من 30 نائبا·ـة للبت في آجال حالة الاستثناء.

تأجيلات متكررة

تمثّل المحكمة الدستورية إحدى ركائز النظام الجمهوري وتضطلع بمهمة مراقبة دستورية القوانين والمعاهدات إلى جانب الحكم بعزل رئيس·ـة الجمهورية في صورة خرق جسيم للدستور بعد الموافقة على لائحة الإعفاء بأغلبية الثلثين من أعضاء مجلس نواب الشعب، علاوة على البت في الإبقاء على الحالة الاستثنائية من عدمه والتحكيم في تنازع الاختصاص بين كل من رئيس·ـة الجمهورية ورئيس·ـة الحكومة.

وفي انتظار تشكيل هذه الهيئة، أُحدثت هيئة وقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين. بيد أنه ومثلما تُوحي تسميتها، لا تتعهد هذه الهيئة سوى بمراقبة دستورية مشاريع القوانين. وبالتالي، فإنها غير مخولة لتنظيم السلطات في حالة نشوب أزمة ما أو القضاء بدستورية القوانين المختومة من عدمها.

ترى سناء بن عاشور التي تابعت هذا الموضوع منذ نشأته أن عوائق إرساء المحكمة الدستورية تعود إلى فترة المجلس الوطني التأسيسي وصياغة الدستور. إذ أن معظم الأحزاب المكونة لهذا المجلس المنتخب في أكتوبر 2011 كانت قد تعهدت بإتمام صياغة الدستور في غضون سنة واحدة غير أن "أشغاله شهدت تأخرا كبيرا بسبب تتالي الأزمات". ولم تقع المصادقة على القانون الأساسي إلا بعد مضي سنتين من ذلك أي في جانفي 2014.

في شهر جانفي 2015، كُلفت لجنة بصياغة مشروع قانون يضبط طرق تسيير المحكمة الدستورية. وحسب ما جاء في تعليق المراقب البرلماني مهدي العش حول هذه النقطة "لقد تأخرت أشغالها كثيرا رغم أنه كان لديها متسع من الوقت لإنجاز أعمالها". وتمت أخيرا المصادقة على القانون الأساسي في ديسمبر 2015 أي بعد انقضاء الأجل الدستوري المحدد.

خلافات على مستوى الأغلبية البرلمانية

ينتخب مجلس نواب الشعب 4 أعضاء من بين الـ12 عضوا المكونين·ـات للمحكمة الدستورية. ثم يأتي دور المجلس الأعلى للقضاء لتعيين أربعة آخرين أو أخريات، قبل أن يتولى الرئيس تعيين الأربعة الباقين.

هذا ويتم انتخاب المرشح·ـة من قبل مجلس نواب الشعب بأغلبية ثلثي الأصوات، أي ما يعادل 145 صوتًا. غير أن إرساء المحكمة الدستورية لم يتعد أبدا المرحلة البرلمانية بسبب التجاذبات السياسية، مع تمحور الخلاف حول اختيار المرشحين·ـات لعضوية المحكمة. تؤكد ذلك سناء بن عاشور مثيرة أن "التوترات دارت أساسا حول هذه النقطة بالذات".

لم تُقدم قائمة المرشحين·ـات الأولى إلى النواب والنائبات سوى في سنة 2017. حيث تمكنت الكتل النيابية من التوصل إلى توافق حول أربعة أعضاء من المختصين·ـات في القانون. يتذكر مهدي العش أنه حينها "تم الكشف عن الأسماء في وسائل الإعلام حتى قبل التصويت عليها". ويستطرد قائلا: "لكن في اللحظة الأخيرة، تراجعت حركة نداء تونس وربما حزب النهضة كذلك". في العام الموالي، انتُخبت مرشحة واحدة وهي روضة الورسيغني من بين الأعضاء الأربعة وهي الوحيدة التي حظيت بأغلبية الأصوات البرلمانية. ووفقا للحقوقي، تُمثل هذه القاضية المحافظة المرشحة عن حركة نداء تونس كذلك المرشحة "المثالية" لحزب حركة النهضة.

يعد مهدي العش "هذا الحدث دليلا قاطعا على أن مسؤولية فشل إرساء المحكمة تقع بدرجة أولى على عاتق كل من حزب النهضة وحركة نداء تونس [الحزبان المتحالفان صاحبا الأغلبية البرلمانية، ملاحظة المحررة]. ذلك أن الأغلبية البرلمانية كانت حينها واسعة بما فيه الكفاية لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية بمفردها، ولم يكن هناك أي سبب يُذكر يحول دون ذلك. إلا أن هذه الأغلبية كانت ترفض في الواقع تركيز المحكمة الدستورية خشية أن تنقلب هذه الهيئة ضدها يومًا ما". وبحسبه، استغلت هذه الكتل سرية الاقتراع للتملص من مسؤولياتها إثر ذلك.

منذ ذلك الحين، عُدلت قائمة المرشحين·ـات ثلاث مرات دون أن يتمكن البرلمان من التوصل إلى حل توافقي.

يتابع الحقوقي قائلا: "كانت الطبقة السياسية برمتها على قناعة بأنه لن يتم إرساء محكمة دستورية".

ويضيف: "خلال المداولات حول القانون الأساسي، كانت هناك محاولات عديدة للتقليص من صلاحيات المحكمة إلى أدنى حد. ويترجم ذلك مرة أخرى توجس الائتلاف الحاكم من هذه الهيئة".

إرجاء تركيز المحكمة الدستورية إلى ما لا نهاية

حسب مقتضيات القانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية، "لكل كتلة نيابية داخل مجلس نواب الشعب (...) الحق في ترشيح أربعة أسماء على الجلسة العامة". كما ينص القانون بشكل واضح على أنه يُشترط في عضو المحكمة الدستورية "ألا يكون قد تحمل مسؤولية حزبية مركزية أو جهوية أو محلية أو كان مرشّح حزب أو ائتلاف لانتخابات رئاسية أو تشريعية أو محلية خلال عشر سنوات قبل تعيينه في المحكمة الدستورية".

في هذا السياق، شددت سناء بن عاشور على أنه: "تم التعسف في تأويل القانون الأساسي لسنة 2015 المتعلق بالمحكمة الدستورية والذي يخول للكتل النيابية الحق في تقديم مرشحيها". فمن وجهة نظرها، من شأن هذه القراءة القانونية تعريض المحكمة إلى تجاذبات إيديولوجية يسعى فيها كل طرف إلى تركيز أنصاره ضاربا بمبدأ حياد الأعضاء عرض الحائط.

كما يوضح مهدي العش أنه "بينما كان النواب في انتظار مشروع القانون الأساسي المتعلق بالمحكمة الدستورية، كان الائتلاف يسعى جاهدا إلى سن قوانين على مقاس مرشحيه. كان ذلك هو الشأن، على سبيل المثال، عندما أعرب عن نية ترشيح الحبيب خضر، المحامي التابع إلى حزب النهضة وابن شقيقة راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة، كلفه ذلك ما كلفه. لقد اقترحوا قانونا على غاية من الخطورة يخول تسمية مرشحين تابعين إلى أحزاب سياسية ولا يستوفون أي شرط من شروط الحياد أو الاستقلالية".

من جهة أخرى، اعتبر·ت العديد من النواب والنائبات أن اشتراط أغلبية الثلثين لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية يشكل عائقا رئيسيا. ذلك ما يدحضه المراقب البرلماني، مبينا أن "الإشكال الحقيقي لا يكمن في ذلك، إذ توجد العديد من الأمثلة تتعارض مع هذا الادعاء". فعلى سبيل المثال، في سنة 2017، كان على البرلمان انتخاب ثلاثة مرشحين لعضوية مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات (ISIE) بأغلبية معززة بثلثي الأصوات (145 صوتًا) وكذلك رئيس نفس هذه الهيئة بالأغلبية المطلقة (109 أصوات). "انتُخب المرشحون الثلاثة للمجلس بسهولة بالغة، في حين كان انتخاب الرئيس محفوفا بعدة عراقيل، والحال أن انتخابه يتطلب الحصول على عدد أقل من الأصوات. تبقى المسألة في نهاية المطاف مسألة إرادة سياسية ".

علاوة على ذلك، لم يشكل تركيز المحكمة الدستورية أولى أولويات العمل البرلماني. فوفقًا لمهدي العش وجمعية البوصلة، عقد مجلس نواب الشعب، على مدى ست سنوات، أقل من عشر جلسات مخصصة لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية.

فضلا عن ذلك، اُلغيت عدة جلسات دون تأجيلها. فعلى سبيل المثال، انتهت الدورة البرلمانية الخامسة بحلول شهر جويلية 2019 دون تنظيم الدورة الثالثة والأخيرة لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية ولم يُعد فتح باب الترشيحات لعضويتها إلا بعد مضي ستة أشهر. كذلك، أُلغيت جلسة أخرى كان من المقرر عقدها في غضون شهر جويلية 2020 والتي عُطلت نتيجة لاعتصام كتلة الحزب الدستوري الحر دون أن يُعاد إدراجها في جدول أعمال المجلس. وبذلك لم تُعقد أية جلسة انتخابية خلال المدة النيابية الثانية.

تجدر الإشارة أيضا إلى أن الكتل النيابية اعتادت تقديم مرشحيها ومرشحاتها بعد انقضاء الآجال المحددة، ما أسهم في تأخير فرز الترشيحات والنظر فيها وحال دون عقد المزيد من الجلسات الانتخابية.

بهدف تجاوز العراقيل التي تعيق تركيز المحكمة الدستورية، صادق مجلس نواب الشعب في مارس 2021 على مشروع قانون تعديلي اقترحه حزب التيار الديمقراطي يهدف إلى تيسير انتخاب أعضاء المحكمة. ومن جملة التعديلات المقترحة، تخفيض عتبة الأغلبية المطلوبة إلى ثلاثة أخماس النواب والنائبات أي 131 صوتاً بدلا من 145. غير أنه رغم التوافق البرلماني، رفض الرئيس قيس سعيد لاحقًا ختم القانون بدعوى عدم احترام الآجال الدستورية لتنصيب المحكمة الدستورية.

من جانبه، يعتبر مهدي العش “هذا التأويل خال من كل معنى. عندما ينتهك المرء الدستور مرة واحدة، يجب ألا يستمر في ذلك مرارًا وتكرارًا". ذلك أن هذه التعلة تقتضي حتما تعديل الدستور وهو أمر يُعتبر مستحيلا في غياب المحكمة الدستورية. "إننا ندور في حلقة مفرغة".

ويخلص إلى أنه "حتى لو صادق الرئيس على مشروع القانون، فذلك لا يعني أن تركيز المحكمة الدستورية كان سيتم في رمشة عين، إذ تبقى مراحل تركيزها متعددة ومعقدة".