المشتبه به رقم 2 : أحمد المشرڤي. مؤذّن معتقل بسبب "نشر الكراهية ضدّ المسيحيّين"

في يوم 10 أوت 1913، ورد في مقال في صحيفة لاديباش سفاكسيان أنّ "عائلة فرنسيّة ربّتُها امرأة من أصول مالطيّة، أي أنّها تجيد اللّغة العربيّة، تقطن حذو الجامع الكبير… ومنذ الأيّام الأخيرة من شهر جويليّة، لاحظت السّيّدة ب. أنّ المؤذّن لم يعد ينهي الأذان بالكلمات المعهودة."
بقلم | 20 جانفي 2021 | 10 دقائق | متوفر باللغة الفرنسية

متوفر باللغة الفرنسية
"في اللّيلة الفاصلة بين غرّة و 2 أوت، استمعت المرأة بتمعّن للأذان وأدركت أنّ المؤذّن كان يضيف إلى العبارات المقدّسة الكلمات التّالية : "الرّومي 1 هو العدو، الرّومي هو العدو، لا تنسوا ذلك!' 2

هكذا روت الصّحيفة الوقائع التي أثارت قلق مفوّض الشّرطة والمراقب المدني لمدينة صفاقس منذ بداية الشّهر. بدأت الشّكوك في 2 أوت 1913، عندما أبلغ بالحادثة إميل بيلين، وهو "فرنسي، يبلغ من العمر 49 سنة، يعمل في شركة صفاقس-قفصة 3 ويقطن في عدد 11 شارع الجامع الكبير" عن طريق رسالة إشعار (لم يبق لها أثر في ملفّات الأرشيف) موجّهة إلى المراقب المدني بخصوص المؤذّن. عقب ذلك، شرع مركز الشّرطة في التّحقيق في الموضوع في اللّيالي التّالية.

"ردّوا بالكم من الرّومي العدو، الحلّوف"

سُجّلت بعض آثار هذه التّحقيقات في تقريريْن يعودان إلى 3 و8 أوت، في شكل إفادات لضبّاط شرطة وأشخاص من أصول أوروبيّة أو يهوديّة يعيشون ويعشن قرب الجامع الكبير. في طيّات التّقرير الأوّل، تؤكّد "السيّدة ماري بيلين، 26 سنة" ("السيّدة ب…" المذكورة في مقال صحيفة لايديباش سفاكسيان) تصريح زوجها إيميل بيلين الذي أكّد بدوره الإتّهامات التي وجّهها عبر رسالته ضدّ المؤذّن.

تتضمّن الوثائق كذلك شهادة سكرتير الشّرطة أنطوان ألبرتيني :

بعد الاستماع للسيّد بيلين، توجّهت إلى منزله مع السّاعة الثّانية صباحا بصحبة العميد بوزانكيه والمدعوّين ترافيرسو وبيزانو وخيّاط. انتصبنا في الشّرفة، وفي السّاعة الثّانية والنّصف بالضّبط، سمعنا المؤذّن يردّد من أعلى مئذنة الجامع الكبير الأذان المعهود ثمّ أضاف إليه، مرّتين، بصوت جهوريّ وقويّ : 'ردّوا بالكم من الرّومي العدو، الحلّوف'، أي بمعنى 'خذوا حذركم من الأوروبّي العدوّ، الخنزير' [...]. من حيث كنّا، أمكننا رؤية المؤذّن بشكل واضح، خاصّة وأنّ المئذنة كانت مضاءة احتفالا برمضان [...]. منزل السيّد بيلين لا يبعد عن المئذنة أكثر من أربعين مترا تقريبا. الزّوجان بيلين كانا حاضريْن وشهدا هما أيضا ما شهدناه.

ينقل التقرير بعد ذلك كلمات رقيب الشرطة (الذي أكّد رغم ذلك أنّه لا يفهم اللغة العربية)، وجارة تدعى هالة زانا "وُلدت ڤاز، تونسيّة يهوديّة، تبلغ من العمر 22 عامًا" وثلاثة شهود انتقاهم سكرتير الشرطة أثناء جولته اللّيليّة : سيزار ترافيرسو، "إيطالي، 36 عامًا، تاجر" (يدّعي إتقان اللغة العربية)؛ جوزيف خياط "تونسيّ يهوديّ، 17 سنة، محاسب" وأنطوان بيزاني، "إنجليزي مالطي، 25 سنة، تاجر". تُجمع كلّ الشهادات على الصيغة التي نقلها سكرتير الشرطة. كما تـ·يجسد الشهود والشّاهدات إفادات تبدو في الظّاهر مشروعة وصادرة عن أعضاء المجتمع غير المسلم ذوي وذوات "السّمعة الشّريفة" (على حد تعبير لاديباش سفاكسيان في 10 أوت) : الشّهود الرّجال أصحاب مهن معترف بها (موظفون أو تجار) والشّاهدات النساء زوجات مصونات.

بعد هذا التحقيق الأول، انطلق تحقيق ثان في الليلة الفاصلة بين 7 و 8 أوت من قبل نفس سكرتير الشرطة وهذه المرة بصحبة شهود جدد. يتكرّر نفس المشهد : تـ·يقف الحاضرون والحاضرات على شرفة الطابق الثاني في شقّة عائلة بيلين قبالة المئذنة في انتظار الآذان.

على الساعة 2:30 صباحًا، "شرع المؤذن في أداء الأذان حسب الطّقوس المعهودة ثم أضاف كلمة 'الرومي' متبوعة بكلمة أخرى لم أدركها تمامًا، ولكن الشهود الحاضرين والحاضرات أكدوا وأكّدن أنّه أضاف كلمة 'العدو'، أي بما معناه 'المسيحي هو العدو'"، حسب تصريح سكرتير الشرطة.

وبالتّالي، تبعا للتحقيق الأول بتاريخ 2 أوت، احتاج سكرتير الشّرطة إلى مساعدة لغويّة وإفادات أخرى تعاضد تصريحه الشّخصيّ. أوّلها شهادة كليمون ناحمياس "26 سنة، تاجر تونسي يهوديّ" وثانيها شهادة فرانسوا سارلات "فرنسيّ، 28 سنة موظّف بمكتب البريد" وثالثها شهادة رقيب الشّرطة لوي بوزانكيه الحاضر أيضا في ليلة التّحقيق الأوّل والذي أفاد أنّه يفهم ما تعنيه عبارة "الرّومي العدو" ولكنّه "لا يفهم اللّغة العربيّة". وأخيرا شهادتا الزّوجين بيلين خاصّة ماري بيلين التي أصرّت أنّها تتحدّث "العربيّة بسهولة مطلقة".

ليس هنالك ما يفيد عن الطّريقة المتّبعة لانتقاء هؤلاء الشّهود والشّاهدات ولكن، بحصيلة عشر إفادات ضدّه، وجد "مؤذّن صفاقس" نفسه مذنب لا محالة في أعين الشّرطة.

"الدّرس النّازل من المئذنة"

على إثر هذا التحقيق المثمر الثاني، اكتسبت هذه القضية أبعادًا أكبر بكثير، ذلك أن الأخبار بلغت في اليوم الموالي مسامع مدير الأمن العام في تونس الذي قرأ في رسالة من طرف المراقب المدني في صفاقس أنّه قد "تم تجديد الحقائق [...]". وبعد يومين، نشرت لاديباش سفاكسيان في أعمدتها : "لقد تعالى صوت المؤذّن مرّة أخرى بدعوات الكراهية ضدنا"، حسب التعبير المتأسف للصحفي الذي لم يتوانَ عن إطلاق العنان لخياله السّاخر متبعا : "الآلاف من المسلمين الذين سمعوا هذا الأذان [...] تجرّعوا كلمات الحب هذه بتلذّذ وكرّروا في أنفسهم الدّرس النّازل من المئذنة".

تأطير الحدث من خلال الوثائق الرسمية ومن ثم من خلال الصحف يشهد على وجود نوع من التواطؤ بين السلطات والصحافة. حيث تنقل هذه الأخيرة الحقائق وفقًا للمعلومات المُخمّنة التي تنقلها الشرطة، كما يتجلّى من هذا المقتطف من مراسلة إداريّة متبوعة بمقتطف من مقال:

"يتبيّن من المعلومات الخاصة التي جمّعتها أن تأدية الأذان في الجامع الكبير يتناوب عليها 29 مؤذنًا" (رسالة بتاريخ 8 أوت من المراقب المدني بصفاقس إلى المندوب في مقرّ المقيم العامّ بتونس).

"ونظرًا لوجود تسعة وعشرين مؤذنًا في الجامع الكبير وفي محاولة لمعرفة ما إذا كانوا كلّهم قد تلقوا تعليمات أو على العكس من ذلك، أحدهم فقط هو المذنب، فقد واصلنا المراقبة السرية [...]" (لاديبيش سفاكسيان، 10 أوت 1913). 

وهكذا يبدو أن صحيفة لاديباش سفاكسيان لديها إمكانية الوصول إلى تفاصيل دقيقة إلى حد ما ("تم إعداد تقرير على الفور ووقع عليه الشهود الثمانية وتم تسليمه إلى المراقب المدني")، تقرير ينقل نفس النّسخة الرّسميّة. لكن هذا لم يمنع الصّحيفة من إضافة بعض العناصر ("الرومي هو العدو، لا تنسوا ذلك" بينما لم يذكر التقرير هذه العبارة الأخيرة) أو حتى من تحريف الحقائق عندما أكّدت نفس الصّحيفة أن كلّ الشّهود والشّاهدات "يتقنون اللغة العربية جيدا".

عنصر رئيسي آخر استُعمل في تأطير القضية هو التكرار السردي: كل الروايات تستحضر حقيقة أن المؤذن يكرّر الصّيغة الدّينيّة المعتادة ثم يضيف إليها العبارات المُستنكرة. في شهادته، كان إميل بيلين هو أول من عبّر عن هذه النقطة في محضر 3 أوت حيث استخدم عبارة "حسب الصيغة الدينية". على إثر ذلك، في التقارير الرسمية كما في الصحافة، أصبح هذا التّسلسل هو القاعدة المتّبعة، مع بعض المتغيرات المعجمية :

"سمعنا المؤذن يعلن [...] وقت الصلاة حسب صيغة الطقوس ثم ..." (محضر 3 أوت)

"أضاف المؤذن [...] إلى الصيغة التي يوقظ بها رفقاءه في الدّين..." (رسالة بتاريخ 8 أوت من المراقب المدني بصفاقس إلى المندوب في مقرّ الإقامة العامّة بتونس)

"بدأ المؤذن بالصلاة حسب الصّيغة الطّقسيّة ثم ..." (محضر 8 أوت)

"زاد المؤذن للكلمات المقدسة ..." (لاديباش سفاكسيان، 10 أوت 1913)

وسرعان ما أثبت هذا التّأثير التّراكمي فعاليّته، حيث تمّ القبض على المؤذّن المعنيّ وإرساله إلى تونس العاصمة على الفور.

"تم إيداعه في القطار المتّجه إلى تونس كسجين"

في رسالته إلى مندوب الإقامة العامة بتونس العاصمة بتاريخ 8 أوت، أوضح المراقب المدني بصفاقس أنّه "عاين مفوض الشرطة المخالفة، ولقد رفع الأذان المسمّى محمد بن محمد المشرقي". هذا الأخير، رغم كونه غير معروف من قبل مصالح الشرطة - لدرجة أن اسمه كثيرًا ما يتم تشويهه أو الخلط بينه وبين أسماء أخرى في التقارير - وجد نفسه فجأة معروفا للغاية : "هذا الشخص البالغ من العمر 28 عامًا، لا يمتلك شيئا وله سلوك مُستنكر على جميع الأصعدة [...]. كونه ضُبط متلبّسا بالجريمة، أدع لكم العناية لتقرير عقوبة له" (رسالة بتاريخ 8 أوت من المراقب المدني في صفاقس إلى المندوب في مقرّ الإقامة العامّة).

حسب مقال نشرته صحيفة لاديباش سفاكسيان،اعتُقل المؤذن المتهم في 12 أوت في منزله وعَبَر صباح اليوم التالي "بلدة صفاقس برمّتها مكبّلا بالأصفاد" قبل أن يتمّ إيداعه في قطار تونس كسجين. في هذا القطار الذي يستغرق عشر ساعات، نقلت الصّحيفة أنّ المؤذن كان برفقته المراقب المدني والقايد وشيخ الحبوس (أي مدير الأوقاف) في صفاقس كما أكدت ذلك برقية المراقب المدني التي يُبلغ فيها المقيمَ العام بزيارته 4:

في 14 أوت 1913، تم سجن أحمد المشرقي"إداريًا" بانتظار قرار المحكمة. في غضون ذلك، يتواصل التحقيق :

"مؤذن صفاقس المتطرّف مسجون في السجن المدني بتونس العاصمة حيث سيبقى هناك حتى إشعار آخر [...]. تفترض الحكومة التونسية أن الحادث له أصول مثيرة للاهتمام وجب استجلاؤها، لذا قررت المضيّ قدمًا في تحقيق دقيق ولن يتم فرض عقوبة على المؤذن إلا بعد إجراء هذا التحقيق" (تلغرام موجّه إلى باريس بتاريخ 19 أوت 1913).

على الرغم من أنه من الناحية النظرية تتمتع المحاكم الإسلامية بنوع من الاستقلاليّة 5، إلا أن وثيقة صادرة عن قسم الدولة تحتوي على توصيتين من ضابطين استعماريين، الأوّل هو أوربان بلان (الأمين العام) الذي طالب "بسماع هذا السّاكن الأصليّ وتقديم الاقتراحات اللّازمة" ليضيف بعد ذلك : "يجب أن نكون صارمين. عاجل للغاية". أمّا التّوصية الثّانية، الأكثر إبداعاً، فقد صدرت عن فرانسوا مانسيرون (نائب الأمين العام ومدير الدّيوان) :" أنا أؤيد إيداع هذا السّاكن الأصليّ في منطقة عسكرية". ونتيجة لذلك غادر المعتقل السجن للمثول أمام المحكمة كما تبيّنه وثيقة الاستخراج :

على الرغم من هذا التوقيف السريع وتدخّل الشّرطة التّعسّفيّ لدى مصالح القضاء، ظلّت الصحافة الاستعمارية تتخبّط وتحث السلطات على مزيد من القسوة :

لقد حكمت الحكومة التونسية في قضية المؤذن. هذا الشّخص ليس مجنونًا على الإطلاق، إنّه في كامل مداركه العقليّة. إنه متطرّف يقبع في السّجن حاليّا [...]. هذا المؤذن الذي نطق، عن علم، بكلمات الكراهية والبغضاء ضدنا ستحاكمه وزارة تونس ونحن نأمل في أن تكون العقوبة مساوية للجرم". ("هل المؤذن مجنون؟ هل أطلق سراحه؟"، لاديباش سفاكسيان، 16 أوت 1913).

"الأطفال الذين نريد تربيتهم جيّدا، يجب معاقبتهم جيّدا"

برهنت صحيفية لاديباش سفاكسيان عن إسهاب مذهل فيما يتعلّق بهذه القضيّة. في زخم يذكرنا ببعض الكتابات الحالية، انتفضت الصحف الاستعمارية ضد تساهل الدولة المفترض تجاه "السكان الأصليين". حيث انتقد كاتب مقال ذو طابع انتقاميّ نُشر في 17 أوت سذاجة الحكومة الاستعمارية التي لم تستطع التحكّم في "سكّانها الأصلييّن" بسبب "الخوف المبالغ فيه من الإساءة إليهم" و "رهانها للدعم اللّامشروط لتصرّفات رعايانا".

يواصل الصحفي كاشفا اللّثام عن إيمانه الجمهوري قائلا : "نحن نكشف الحقيقة تامّة. هذه السّيرورة الجمهورية للغاية، المشبعة بأعلى مشاعر العدالة، تسمح لنا بمحاسبة المسؤوليات بشكل كامل". لكن هذا الإيمان سرعان ما ينقلب إلى رغبة في الانتقام : "نقول ببساطة : هذا المؤذن غنّى بعوج، وأهاننا، فلنعاقبه بشدة ونضع حدّا لهذا الأمر [...]. الأطفال الذين نريد تربيتهم جيدًا، يجب علينا أن نعاقبهم جيدًا [...] لَعمري، لقد سُمّينا بالخنازير [...]، وقيل عنّا أعداء والآن يريدون منا ابتلاع السّكّين بدمه".

" العرب هم رعايانا، هذا محتّم. حين تحمّلنا العبء الحضاريّ في 1881، كنّا على يقين أنّ هؤلاء السّكّان الأصليّين والأصليّات بعيدون كلّ البعد عن الكمال، ذلك أنّهم كانوا بحاجة إلى توجيه. من بين هؤلاء السكان الأصليين من هم حسنو السّيرة ومن هم سيّئون. لكن، في فرنسا، حينما نجد بعض الأفراد المجانين، لا يكيدنا أن نعلن ذلك بصوت عال، وأن نكتب ذلك في كلّ صحفنا. إذا تعدّى أحدنا على النّظام العامّ، على الأخلاق، نحن نضربه بدون هوادة ولا يخطر على بالنا للحظة أن نخفي ذلك وأن نستره وأن نطمسه.
إذا كانت بيننا بعض الشّياه المجربة، أَمِن المعقول ألّا يكون كذلك هو الحال بين من هم أقلّ منّا درجة؟ أن نتّهم أحدهم ونعلن حقيقته دون إخفائها لا يعني إهانة الجميع. هذا السّلوك الصّريح يثبت أنّ الشّعب الحامي قويّ وواثق من نفسه، وأنّه لا يخشى إقامة العقاب إذا ما ثبتت التّهمة.
مؤذّن شتمنا من أعلى مئذنة الجامع الكبير. إذا ما قام هذا الشّبيه بالقسّ بنفس الشّيء المُستنكر في إحدى كنائسنا، لما كان هناك مجال للنقاش ولتمّت معاقبته فورا. ولكن هذه الكلمات لم تتّشح بنفس الطّابع المتميّز، حين تمّ إلقاؤها بأعلى صوت، في ظلام اللّيل الهادئ، كدعوة مدوّيّة للكراهيّة ضدّ فاعل الخير.
"

في نهاية المطاف، لم يأت التحقيق بنتيجة. في 26 أوت، حُكم على أحمد المشرقي بالسجن لمدة شهر "انطلاقا من تاريخ سجنه" لأنه "أدلى بتصريحات من شأنها أن تزعزع الأمن". وفي الثامن والعشرين من الشهر نفسه، أضاف المكتب الإداري في رسالة موجهة إلى قايد صفاقس : "لقد تمسّك هذا المتساكن الأصليّ طوال الوقت ببراءته ولم يثبت التحقيق أنه مذنب حتماً، فرأينا من الكافي حبسه شهرا من تاريخ القبض عليه". في 30 أوت، أيّد الباي الحكم الصّادر بالسجن لمدة شهر.

بالتالي، لم يسجن أحمد المشرقي بدون أدلة كافية فقط وفقًا للسلطات نفسها، بل فقد وظيفته أيضًا، كما هو موضح في الرسالة الموجهة إلى قاضي صفاقس "يُطلب إعفاء المذكور أعلاه من وظيفة مؤذن".

مؤذّن متطرّف رغما عنه

بعد إغلاق القضيّة، بدأت تتعالى بعض الأصوات المعارضة. ففي 1 سبتمبر، نشرت لوكورييه دو تونيزي (Le Courrier de Tunisie) رأيًا ناقدا يدعو إلى "فحص [هذه القصة الغريبة] في ضوئها الحقيقي" لأنه "ما لم يكن مجنونًا أو فاقدا لعقله، لا يمكن للمؤذن تغيير النص المقدّس للأذان". كما يبدو أن كاتب المقال قد أجرى تحقيقه الخاص بدوره وأكّد أن "أوروبيين·ـات كاثوليك أو أرثوذكس أو يهود من القاطنين والقاطنات في المنطقة المجاورة مباشرة للمسجد، يدّعون ويدّعين أنهم·ـن لم يلاحظوا أو يلاحظن أي شيء خارج عن المعهود"، ويواصل سائلا : "لماذا، في ظل هذه الظروف، واستنادا لهذه البيانات الإشكالية، يُراد إثبات التعصّب الإسلامي والخطر الذي يواجه السّكّان الأوروبيّين·ـات؟" 6

يؤكّد الصّحفيّ كذلك الطّابع غير المتناسق لهذه القضيّة، والذي يمكن استجلاؤه من الحكم الصّادر دون ثبوت للتّهمة : "هذا السّاكن الأصليّ الذي تمسّك ببراءته ولم ينتج عن التّحقيق ما يثبت ذنبه فعليّا، بدى كافيا أن يُحكم عليه بشهر سجن".

تتعدّد التناقضات المتعلّقة بمختلف جوانب القضيّة. أحد العناصر المثيرة للفضول هنا هو انتقاء شهود وشاهدات يصرّحون أو يُصرّحن أحيانا أنّهم·ـن لا يتقنون ولا يتقنّ اللّغة العربيّة، أو يفهمون ويفهمن بعض الكلمات فقط، أو يعترفون ويعترفن بأنهم·ـن غير قادرين·ـات على استحضار تفاصيل معيّنة. مثال على ذلك، شهادة هالة زانا في محضر 3 أوت : "منذ أيّام قليلة، لا أستطيع تحديد التّاريخ بالضّبط، كنت في نافذتي …".

هذه التفاصيل حاسمة وتعقد عمليّة تحديد هوية المؤذن المعني بالأمر نظرًا للعدد الكبير من المؤذنين الذين يتناوبون كل مساء على الأذان. وبالإضافة إلى اعتماد الشرطة على شهادات غير دقيقة، فإن التقارير تكاد تخطئ بشكل منهجي بشأن اسم المُعتقل. إذ لا يهم إذا كان اسمه أحمد أو محمد أو محمود وإذا كان لقبه يُكتب (مشركي Mechirki، أو مشرقي Mechergui، أو مشارقي M'chergui...)

إضافة إلى ذلك، فإنّ أبرز الجوانب يبقى ترجمة كلمة "الرّومي". عند قراءة مختلف الوثائق، تظهر كلمتا "مسيحيّ" و"أوروبّي" كمترادفتين وقابلتين للاستعمال المُتبادل إلّا أنّهما تُستخدمان في وقتيْن مختلفين. إذ يستعمل محضر التّحقيق الأوّل مصطلح "أوروبّي" بينما يستعمل الثّاني "مسيحي" باستمرار. ومع ذلك، لا يمكن التّأكّد مما إذا كان هذا يعني أنّ السّلطات تستخدم الكلمتين كمرادفيْن أو ما إذا كانت هنالك رغبة في تركيز القضيّة في بُعدها الدّيني، هذا البعد الدّيني الذي يغيب مسبقاً عن مصطلح "الرّومي".

حقيقة أن المؤذن يقول أن "الرّوامه" هم "الأعداء" قد يتخفّى وراءها فعلا معنى سياسي ومناهض للاستعمار. لكن هذا الجانب قد تمّ طمسه تمامًا في التقارير التي فضّلت تفسيرًا دينيًا بحتًا، والتي، بمعاضدة الصحافة، اختلقت مشكلة عامة غير مسيّسة وذات طابع ثقافي، قائمة على أساس التعصب الديني والكراهية المفترضة لذوي وذوات الدّيانة المسيحيّة.

يمكن لقراءة سياسية للحقائق أيضًا أن تنتج تفسيرًا مختلفًا لكلمة "حلّوف"، التي تُرجمت بشكل منهجي إلى "خنزير" بينما يحمل هذا المصطلح معاني عدّة في اللغة التونسية منها الخُبث أو الخداع.

الرّابط بين وظيفة المؤذن وكلماته خلق اختصارًا سريعًا وجد وقعاً مدوّيّاً في الصحافة، إذ سريعًا ما تمّ تقديم المشتبه به على أنه "متطرّف تملؤه الكراهية" بينما لا يحتوي ملفّه النّاقص أصلا على ما يثبت ذلك. بالإضافة إلى ذلك، فإنّه يبدو من غير المنطقي أن يحاول المؤذن خلال شهر رمضان تدنيس صيغة الأذان المقدّسة. ومع ذلك، ظلّت الصحافة الاستعمارية مهووسة بحادثة الأذان وتأثيره على حشود المؤمنين·ـات الضّالّة :

"إن هذه الصلاة الليلية هي التي تثير إعجاب الأجانب المارّين عبر بلدان الشّرق، وهي التي تحمل في طيّاتها أكبر تأثير على مخيال السكان المسلمين [...] لذلك فمن المؤكد تمامًا أنه إذا ما احتوى هذا الأذان على عبارات التعصّب والكراهية، سيكون لهذه الكلمات صدىً مدوِِّ وتأثير أخلاقي كبير بين جماهير السكّان الأصليّين، خاصة في وقت رمضان" (لا ديباش سفاكسيان، 10 أوت، 1913).

وبالتالي، فإن المبالغة في الحقائق المزعومة والتعصب الخيالي للمؤذن كافيان لتأجيج الجدل. لكن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد. تأثير هذه القضية الواقعة في صفاقس سيثير ضجة بداية من ذات الشّهر، في تونس العاصمة، تحديدا في جامع الحلفاوين حيث تم اعتقال رجل لأسباب مشابهة مما تسبب بدوره في ضجة في أوساط الصحافة ولدى السلطات. هذه الحادثة الثانية والتي وقعت بعد الأولى بوقت قصير أكثر تميزًا. حيث تنبع خطورتها من كونها حدثت في 'بيئة مواتية للمشاعر المناهضة للفرنسيّين·ـات' حيث الرّقابة صعبة للغاية"، حسب ما جاء في تقرير من المقيم العام إلى وزير الخارجية الفرنسي. هذه ستكون قصة المشتبه به القادم …

1مصطلح عفا عليه الزمن الآن ولكن كان يمكن أن يعني أجنبي أو غربي أو أوروبي أو غير مسلم   

2ر. دو سيكاتي، "من أعلى الجامع الكبير"، لا ديباش سفاكسيان، 10 أوت، 1913. انطلقت هذه الصّحيفة في الظهور في مارس 1895 مع العنوان الفرعي "جهاز الدّفاع عن مصالح الجنوب التونسي". كان ألفونس دي سيكاتي مديرها ومالكها من عام 1903 حتى عام 1923. 

3يُقصد به شركة الفسفاط والسّكك الحديديّة بقفصة، انظر موقع صفاقس 1881-1956 ، المتاح هنا.     

4وقعت عواقب القضية على المسؤولين التونسيين، حيث حملهم الضباط الفرنسيون المسؤولية أو اتهموهم بالإهمال : "أنا مع تحميل نائب الحبوس بصفاقس المسؤوليّة وإلزامه بتوفير أسماء المؤذنين المسؤولين عن إقامة الأذان" (رسالة 8 أوت من المراقب المدني بصفاقس إلى المندوب في الإقامة العامّة)؛ "جلب قايد صفاقس الذي يجب عليه مزيد الحرص مستقبلا" (ملاحظة في مقدمة نفس الرسالة).  

5تمّ عرض المؤذن أمام الوزارة، وهي إحدى المصالح القضائيّة القادرة على الفصل في القضايا القانونية في عهد البايات ومن ثم في عهد الحماية الفرنسيّة. وهي مخصصة للتونسيين·ـات المسلمين·ـات دون اليهود·يّات، المعروفين آنذاك بمصطلح "الإسرائيليين·ـات"، الرّاجعين·ـات بالنّظر للمحاكم الحاخامية. يتم إصدار الأحكام بتفويض من الباي. "أدت الحماية [...] إلى ازدواجية قضائية تميزت بوجود محكمتين متوازيتين على نفس الأرض : عدالة فرنسية تزداد انتشارًا، وعدالة تونسية ذات تشعبات متعددة، شرعيّة وحاخامية وعلمانية"، سناء بن عاشور ، "قضاة وقضاة صلح تونسيون في النظام الاستعماري : 'القضاة المسلمون' في المحكمة العقارية التونسية المختلطة (1886-1956)". في: العدالة والقانون الفرنسي أثناء فترة الحماية في تونس، تونس، معهد الأبحاث حول المغرب العربي المعاصر، 2007 [متوفر هنا]

6"حول مؤذن صفاقس "، لو كورييه دو تونيزي Le courrier de Tunisie ، غرّة سبتمبر 1913. صحيفة اشتراكية جمهورية تأسّست في تونس في فيفري من سنة 1905. انطلاقا من عام 1906 أُطلق عليها اسم لو كورييه دو تونيزي، جمهوري راديكالي. جهاز الدفاع عن الحريات الفرنسية في تونس. "إنها الصحيفة الديمقراطية الكبرى في تونس من حيث مدة إصدارها ومن حيث أهمية عدد الصحفيين·ـات [...] ومن حيث تنوع الاتجاهات التي يمكن التعبير عنها هناك ومن حيث فرادة سياسة 'السكان الأصليين' المقترحة فيها"؛ "كانت الصّحيفة المتحدثة باسم المطالب الديمقراطية والاجتماعية الأوروبية، وكانت [...] الدورية اليسارية الرئيسية، والجريدة اليومية الوحيدة حتى عام 1920، والصلة بين مختلف الاتجاهات الراديكالية والاجتماعية." انظر كلود ليوزو، "نشأة الاشتراكية في تونس. الصحافة الديمقراطية الفرنسية قبل عام 1914 "، حولية شمال إفريقيا، باريس، المركز الوطني للبحث العلمي CNRS، سنة 1972، ص. 943-963 (بالفرنسيّة). 

تستعرض سلسلة 'ناس مشبوهة' عناصر من تجارب بعض الأشخاص المسجّلين·ـات (أو المدانين·ـات) من قبل أجهزة المخابرات الفرنسية في تونس (بين عامي 1910 و 1930). يتمّ في الغالب تتبّع هؤلاء لأغراض سياسية، كما يمكن أيضًا مراقبة 'النّاس المشبوهة' (ومعظمهم من الرجال المسلمين) بناءً على دوافع مختلفة. تحاول سلسلة المقالات هذه استنطاق ملفات الشرطة المكتوبة منذ قرن مضى كمحاولة لفهم التجربة الاستعمارية من خلال المنظور الأمني. تستمد 'ناس مشبوهة' مصادرها من السجّلات المسمّاة بنفس الاسم (أي Gens suspects بالفرنسيّة) والمحفوظة في الأرشيف الوطني.