الخطوط الجوية التونسية و بن علي: منظومة كانت في خدمة دكتاتور وظلت دون محاسبة

في ظل ديكتاتورية زين العابدين بن علي كانت كل الوسائل متاحة لكسب رضا الرئيس والمقربين·ـات منه. بين سنتي 2008 و 2009، انخرطت الخطوط الجوية التونسية في صلب مُعاملتين كانت العائلة الرئاسية المستفيدة الوحيدة منهما. إذ تمّ تسخير النّظام برمّته للاستجابة لأقلّ طلب لرئيس الدّولة. سواء أكان ذلك من خلال بيع الأسهم التي تملكها الشركة لأقاربه أو من خلال الحصول على طائرة رئاسية جديدة  بأمر منه. ومنذ ذلك الحين، لم تشهد شركة الخطوط الجوية التونسية غير الصعوبات والخسائر المتتالية ليُساهم قانون المصالحة لاحقا في طمر هذا الملف.
بقلم | 26 أكتوبر 2020 | reading-duration 20 دقيقة

متوفر باللغة الفرنسيةالإنجليزية
في ذلك الوقت، كان نبيل الشتاوي مديرا للخطوط التونسية. وهو الآن عضو في مجلس إدارة مجموعة ديليس التي تعدّ واحدة من أكبر الشركات الصناعية في قطاع الألبان، بالإضافة إلى منصبه كمدير عام لشركة EXIS التابعة لمجموعة "مبروك". من الواضح أن مساره المهني لم يتأثر بتبعات المُعاملات المتعلّقة بشركة الطيران الوطنية.

من موقعه في منطقة ضفاف البحيرة، يُجري مراد بن شعبان الاتّصالات ويحدد المواعيد الواحد تلو الآخر. في غضون بضع سنوات، أصبح المدير العامّ لشركة Mac SA -و هي وسيط في البورصة- أحد أعلام بورصة تونس للأوراق المالية (BVMT) ليصير بداية من سنة 2017 رئيسا لها.

لهذين الرّجلين نقطة مشتركة، وهي اضطلاعهما في مُعاملتين تتعلقان بالخطوط الجوية التونسية وبالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي بين سنتي 2008 و2009، وقد قدّما شهادتهما فيما يخصّ العمليّة برمتها. بفضل هذه العمليات تمكّنت عائلة الرئيس الأسبق من شراء طائرة جديدة لا تملك الخطوط الجويّة ثمنها والانتفاع من فائض قيمة يقارب 7 مليون دينار عن طريق بيع مجموعة من أسهم الاتّحاد الدّولي للبنوك كانت على ملكية "تونيسار".

أظهرت هاتان العمليّتان اللّتان كانتا تحت إشراف المنجي صفرة، المستشار الاقتصادي السّابق للرئيس المخلوع، كيف تمّ إرساء نظام كامل في خدمة الرّئيس الأسبق و أقاربه. وفي سنة 2011، إثر هروب بن علي وجزء من عائلته، واعتماد قانون المصالحة الإدارية -الذي ساهم في تبرئة موظفي·ـات الإدارة السابقين·ـات من أعمال الفساد التي يمكن أن تنسب إليهم·ـنّ- لم تتمّ معاقبة أي مسؤول·ـة.  

هذا الخطّ الزّمني يلخّص العمليّات التي تمّ تفصيلها أسفله. من الممكن الإطّلاع على الخطّ الزّمني خلال القراءة بالضّغط على الزّر الذي يظهر في الرّكن الأعلى على اليمين.

الخطوط الجوّيّة التّونسيّة وثقل أسهم الإتّحاد الدّولي للبنوك

في سنة 2007، بلغ  العجز في الاتحاد الدولي للبنوك 181 مليون دينارا. صلب الخطوط التّونسيّة، كان الرئيس المدير العام نبيل الشتاوي قلقا بشأن ذلك، إذ أنّه يريد بيع الأسهم التي تمتلكها شركة الطّيران في رأسمال البنك. كلما انخفض سعر سهم الاتحاد الدولي للبنوك، كلما تفاقم احتمال تأثير نتائجه السّلبية على شركة الخطوط الجويّة التونسية.

ولكي يتمكن الشتاوي من البيع كان يتعيّن عليه أن يحصل على إذن رسمي بذلك من قبل لجنة تطهير و إعادة هيكلة المنشآت ذات المساهمات العمومية CAREPP.

خلال الفترة الممتدة بين أوت وأكتوبر 2007، ضاعف الرئيس المدير العام عدد المراسلات إلى وزارة النقل لتلبية طلبه. في إحدى مراسلاته، قدم الشتاوي شرحا فصّل خلاله كيف يمثل الوضع المالي للاتحاد الدولي للبنوك خطرا على شركة الطيران، ويقول هنا: " إن انخفاض سعر السّهم بمقدار دينار واحد تحت مستوى 10,6 دينار (وهو متوسط سعر الأسهم التي اشترتها تونيسار) سينجرّ عنه تعويض من الشركة بحوالي 1,5 مليون دينار".

ولكن وعلى الرغم من هذه المخاطر، فإن الـCAREPP امتنعت عن إعطاء إذن البيع لتكون شركة الخطوط الجوية ملزمة بالاحتفاظ بأسهمها، رغم تواصل انحدار قيمة أسهم البنك. نظرا لهذا الوضع، فضّل نبيل الشّتّاوي تعليق الأمر وقتيّا.  

نزوة رئاسية 

بعد بضعة أشهر، كان نبيل الشتاوي ضمن لجنة استقبال بن علي لدى عودته من قمة جامعة الدول العربية، في 29 مارس 2008. يروي المدير العامّ لتونيسار أنّه عند نزول بن علي من طائرته البوينغ 737 كانت تظهر عليه علامات الانزعاج. ولم يلبث أن أفصح له قائلا: " أصبحت الطّائرة صغيرة للغاية". بجانبه، يضيف مرافق* له: " مقارنة بالطّائرات اللّيبيّة و الجزائريّة و المصريّة -وكلّها من طراز A340-، تبدو طائرتنا قزمة".

غير أنّ الطائرة بوينغ 737 التي تمّ شراؤها سنة 1999 لازالت في حالة جيّدة. علاوة على ذلك، تمّ التخطيط لإضافة تحسينات عليها (نظام جديد لاستقبال الأقمار الصناعية وإضافة شاشة تلفاز كبيرة الحجم وشبكة الانترنت…) في المستقبل القريب بقيمة تناهز  600.000 دولار. كل ذلك لم يحل دون أن يطالب بن علي بطائرة جديدة من الخطوط الجوية التونسية.  

" سألني بن علي ما إذا كان من الممكن البحث عن طائرة مستعملة أكبر من الطائرة طراز 737 الحالية. طائرة من نوع A330 على سبيل المثال.  آنذاك كان نيكولا ساركوزي [رئيس الجمهورية الفرنسية حينها] قد اشترى لتوّه واحدة مشابهة"، على حد تعبير نبيل الشتّاوي.

انطلق الرئيس المدير العام في رحلة بحثه. ولكن رغم جهوده، لم يجد طائرة مطابقة للمواصفات. ويواصل قائلا: " أفصحت لبن علي عن الصّعوبات التي واجهتها في العثور على النموذج المطلوب فأمرني أن أوسّع نطاق بحثي".  

هنا، اتصل نبيل الشتاوي بنظيره في شركة إيرباص، لمساعدته في العثور على الجوهرة النادرة التي طلبها الرئيس. في نهاية المطاف، اقترح عليه هذا الأخير طائرة ايرباص A340 كانت في الأصل مخصّصة لشركة "كينغفيشر أيرلاينز" الهندية. ولكن جرّاء الصعوبات الاقتصادية الشديدة التي مرّت بها تلك الشّركة، ألغت الطلبيّة. كان من الصعب إيجاد مشتر لطائرة مصمّمة خصيصا لطرف بعينه. وهو ما جعل اهتمام شركة تونيسار بشرائها، يُعتبر فرصة غير متوقعة للشركة المصنّعة. في هذا الصّدد، علّق نبيل الشتاوي قائلا: " لقد زرت الطّائرة، وهي مذهلة".

يبلغ السعر الأساسي لهذه الطائرة مايقارب 240 مليون دولار. بعد المفاوضات وفي ضوء هذه الوضعيّة الخاصّة، اقترحت شركة ايرباص أخيرا تخفيضا بنسبة 44 %  ليكون السّعر الصاّفي 133.5 مليون دولار. هذا دون احتساب مصاريف تهيئتها للشخصيات المهمّة بناءً على طلب الرئيس والتي مثّلت مبلغا إضافيّا بـ58 مليون دولار  (أي ما يعادل 38 مليون يورو).

إجمالا، سيتكلف شراء الطائرة وتهيئتها أكثر من 192 مليون دولار أي نحو 250 مليون دينار.

إيجاد التّمويلات 

بدأت ايرباص والخطوط التّونسيّة المفاوضات. في تقرير حرّره نبيل الشّتّاوي، تمّ تفصيل العرض التّجاريّ كاملا و تمّت الإشارة إلى أنّه يفترض أن تسدّد شركة تونيسار دفعة أولى قدرها 50 مليون دولار بحلول منتصف شهر نوفمبر 2008.

تزامنا مع هذه الصفقة كانت شركة تونيسار مشغولة بالفعل بمعاملة أخرى: فقد كانت الشركة على وشك الحصول على 16 طائرة ايرباص، لذلك لم تكن تمتلك، في ذلك الوقت، الموارد لشراء طائرة رئاسية جديدة.

يقول الرّئيس المدير العام الأسبق معلّلا: " ولكن عندما يطلب بن علي شيئا، فلا يكون بوسعنا إلا قول نعم".

كانت الشركة تحتاج إلى دعم مالي لعملية شراء كهذه ويقول نبيل الشتاوي: " قَبِل بن علي وأرسلني للحصول على قرض دون فائدة من البنك المركزي اللّيبي". غير أن البنك لم يبدِ ارتياحا إزاء الشروط والضمانات المقدّمة. " كان علينا أن نرهن مايصل إلى نصف أسطول الخطوط التّونسيّة!"، حسب تعبيره.

في ذات الوقت، بدأ صبر شركة ايرباص ينفذ. ورغم الصّعوبات التي واجهتها تونيسار، تمّ توقيع عقد الشّراء يوم 9 فيفري 2009. ضمن وثيقة تتناول بالتفصيل مشروع تهيئة الطّائرة A340 للشخصيات المهمة، والمؤرخ بـ22 جويلية 2009، ذُكر أن الشّركة التونسية لم تسدّد الأقساط المستحقّة عليها. كان على نبيل الشّتّاوي الإيفاء بالتزامات الشّركة في حدود 5 أوت من نفس السّنة، وإلاّ فإنّ " ايرباص ستدخل في مفاوضات مع مشتر آخر مهتم".  

عودة أسهم الإتّحاد الدولي للبنوك

كان من الضروري إيجاد بدائل. وبصفته مستشارا اقتصاديا للرئيس بن علي، فإنّ المنجي صفرة كان مهندس الشؤون المالية المتعدّدة للعائلة الرئاسية. ومعه، ناقش نبيل الشتاوي الأساليب والطرق المختلفة لتعبئة خزائن تونيسار.  

يقول الشتاوي أنه، تبعا لرفض البنك اللّيبي، كتب مذكّرة طالب من خلالها تطبيق " بعض التدابير اللازمة لتمويل شراء الطائرة". هذه التّدابير تضمّنت الإعفاء من الضّريبة على القيمة المضافة على بعض المشتريات أو إلغاء عمولات وكالات الأسفار.

يقول الشتاوي: " ماطلبته كان بإمكانه تمويل الطّائرة مرّتين. آنذاك، سألني المنجي صفرة ساخرا ما إذا كنت أنوي شراء أمريكان أيرلاينز!"

كما ذكر الشّتاوي أنه خلال هذه المحادثات حول الوضع الاقتصادي للشركة، ذكر له المنجي صفرة إمكانية بيع أسهم الاتحاد الدولي للبنوك. فشرح له بدوره أنه حاول منذ سنتين وفشل في ذلك، لكن صفرة أصرّ على عملية البيع.

2002
الخطوط الجويّة التونسيّة تدخل في رأسمال الاتحاد الدولي للبنوك
2007
الاتحاد الدولي للبنوك يبلغ عجزا يقدّر بـ181 مليون دينار
2009
الخطوط الجوية التونسيّة تملك 11.56% من رأسمال الاتحاد الدولي للبنوك

في 28 جويلية 2009 اتّبع نبيل الشتاوي تعليمات المنجي صفرة وقدّم طلبا جديدا لبيع الأسهم. هذه المرّة حظي طلبه بموافقة الـCAREPP. في ذلك الوقت كان رضا شلغوم، وزير الماليّة الحالي، رئيسا لمجلس السّوق المالية العضو في الـCAREPP، وقد امتنع عن الاستجابة لطلب إنكفاضة إجراء مقابلة معه في الغرض.  

على الرغم من الشكوك القوية التي أعربت عنها لجنة عبد الفتاح عمر لتقصّي الحقائق حول الرّشوة والفساد التي أنشئت في 2011، نفى نبيل الشتاوي حقيقة أنّ طلب البيع هذا كان بهدف المساهمة في شراء طائرة رئاسية جديدة.  

ومع ذلك، فهو لم يقدّم أي تفسير إضافي يتعلق بالتزامن بين تاريخ المفاوضات مع شركة ايرباص وطلب بيع الأسهم. بالإضافة إلى أنّ سعر أسهم الاتحاد الدولي للبنوك في ذلك الوقت أخذ في الارتفاع مرة أخرى وصار أكثر استقرارا على ما كان عليه في 2007 وبالتّالي لم يعد يشكّل خطرا بالنسبة لشركة الخطوط الجوية التونسية .

لكن ليس هذا كلّ ما في الأمر. فرغم ارتياح الرئيس المدير العام السابق لعملية البيع وتأكيده على أنّها تصبّ في مصلحة تونيسار، إلّا أنّه تبيّن لاحقا أن المستفيدين·ـات الرئيسيين·ـات منها هم·ـنّ جزء من الدّائرة المقربة للرّئيس.

بيع موجّه للمقربين·ـات من بن علي

ما إن تمّت الموافقة حتّى بدأ المنجي صفرة في الإشراف على العمليّة برمّتها. كما اتّصل بمراد بن شعبان مدير شركة الوساطة في البورصة Mac SA حتى يتولّى إتمام عملية البيع.  

على ضوء هذه المعطيات، اتّصلت إنكفاضة ببن شعبان -الذي أكّد أن مستشار الرئيس المخلوع كانت بيده كافّة الأوراق: ليس فقط التفويض من الـCAREPP، وإنّما أيضا أسماء ثلاثة أشخاص على استعداد لشراء أسهم البنك. هؤلاء الثّلاثة هم·ـنّ أفراد من حاشية الرئيس الأسبق.

اثنان منهم·ـنّ هما بلحسن الطرابلسي شقيق ليلى الطرابلسي زوجة بن علي وابنة أختها سلمى محجوب. أما المشتري الثالث فقد كانت شركة تدعى شركة SPI القابضة التي أنشئت في جوان 2009 وكانت على ملك محمد زين العابدين بن علي ابن الرئيس الأسبق وشقيقته حليمة بن علي .

بعث شركة SPI -تحت ملك محمّد و حليمة بن علي- و أوّل جلسة عامّة عُيّنت فيها أسماء محجوب مديرة للشّركة.

تم إنشاء شركة SPI في 24 جوان 2009 خصّيصا لهذه المعاملة وقد أشرف المنجي صفرة على هندستها منذ البداية تحت غطاء القانون كما هو الحال بالنسبة لعديد المعاملات لصالح عائلة الرئيس.  

لم يتمّ فتح مناقصة عمومية لبيع أسهم الاتحاد الدولي للبنوك: كلّ شيء تم بالاتفاق المتبادل مع مشترين·ـات تم اختيارهم·ـنّ مسبقا. وفقا للقوانين المنظّمة للصّفقات العموميّة، فإنّ هذه الإجراء ممكن في ظلّ توفّر شروط معيّنة خاصّة بالمعاملات الكبرى. يؤكّد مراد بن شعبان: " لا تستطيع شركة الخطوط الجوية التونسية إسقاط الأسهم في البورصة على هذا النحو لأنها تفوق طاقة استيعاب السّوق بكثير!".  

في مجملها، تبلغ قيمة الأسهم نحو 33 مليون دينار وقد تمتّع كلّ من بلحسن الطرابلسي وأسماء محجوب وشركة SPI بخط ائتمان من البنك العربي لتونس(ATB) لتمويل عمليّة الشّراء.

الشّروط كانت تصب في مصلحة المشترين·ـات. سعر الفائدة هو 0,1% والضّمانات الوحيدة المطلوبة كانت تتمثل في الأسهم نفسها.

في 17 أوت 2009 تمّت المعاملة. وقد أكد مراد بن شعبان مرة أخرى أنّ المنجي صفرة خطّط لكل شيء. فبالإضافة إلى تعيين المشترين·ـات، كان قد حدّد أيضا السّعر الذي ستباع به الأسهم : 14.5 دينارا، أي أقلّ بنسبة 5.5% من سعر سهم الاتحاد الدولي للبنوك في ذلك الوقت و الذي بلغ 15.3 دينارا.

كما جرت العادة بالنسبة للعديد من الاختلاسات خلال فترة بن علي، كانت العمليّة قانونيّة. فهامش الرّبح المسموح به في معاملات بهذه الأهمّيّة يقدّر بـ10%. لكن ذلك لم يمنع عائلة الرّئيس المخلوع من التّمتّع بزيادة على قيمة هذه الأسهم في الأسابيع الموالية.

من جانبه، دافع نبيل الشتاوي عن نفسه من أي اتّهام بتضارب المصالح مؤكّدا أنه لم يحط علما بهوية المشترين·ـات المقرّبين·ـات من بن علي سوى لاحقا، مضيفا أنه لم يكن يعمل إلا لصالح شركة الطيّران. ورغم ذلك، فإنّه كان في صلب الصفقة، ناهيك أنّه وبصفته رئيسا مديرا عامّا لتونيسار، فإنّه كان عضوا في مجلس إدارة الاتّحاد الدولي للبنوك UIB تزامنا مع وقت اجراء عملية البيع. إذن نظريّا، يجب أن يكون على علم بعملية البيع وبهويّة المشترين·ـات أيضا.  

 زيادة على القيمة بـ7 مليون دينار

بعد أسابيع قليلة من اتمام المعاملة، اتّصل المنجي صفرة مجددا بمراد بن شعبان. يروي هذا الأخير قائلا: " حادثني المنجي صفرة وقال: 'إنّهم [أي بلحسن الطرابلسي و أسماء محجوب وشركة SPI] يريدون البيع'."  

بالكاد تمّ شراء الأسهم، حتّى بدأت عائلة بن علي تفكّر في بيعها ثانية. بالنّسبة لحاشية بن علي، فإنّ الوضع الماليّ مناسب. بالإضافة إلى السعر المتدنّي عند الشّراء، كان للعمليّة وقع إيجابي على سعر أسهم الإتّحاد الدّولي للبنوك.  

ولكن مراد بن شعبان ظلّ حذرا. وفق رأيه، فإنّ البورصة التونسية تعتبر " سوقا صغيرة". وهو يخشى أن يكون من الصعب العثور على مشترين·ـات جدد. ولكن تبيّن أن المستشار الاقتصادي للرئيس -كعادته، كان قد خطّط لكل شيء. " لقد جلب المنجي صفرة العديد من الشركات التي لم تكن حريفة لدى Mac SA. و طبقا لنفس المبدإ ونفس المنطق: أجرينا الصفقة بطريقة مشابهة".  

في الفترة الممتدة بين 27 أوت و11 سبتمبر 2009، اشترت مجموعة تتكوّن من 19 شركة -على ملك رجال أعمال معروفين كالمنصف مزابي و عزيز ميلاد، وكذلك شركة صنع المشروبات SFBT  والشّركات التّابعة لها-، أسهم العائلة الرّئاسيّة.

infographie bules infographie bules

اشترت أسماء محجوب وبلحسن الطرابلسي وشركة SPI الأسهم التّابعة لتونيسار بنحو 33 مليون دينار  وتمكّنّ·ـوا من إضافة قيمة على هذه المعاملة عن طريق إعادة بيعها إلى عدة شركات.    

ظلّ المنجي صفرة يدير الصفقة بعد أن قام بتعبئة مشترين·ـات بسرعة كبيرة. كما قدّم كل التعليمات إلى وسيط البورصة: فيما يخصّ سعر بيع الأسهم وكيف سيتمّ توزيع هذه الأموال بين المشترين·ـات. على الوثائق، كان كلّ شيء في محلّه.

يعلّق بن شعبان قائلا : " العملية في حد ذاتها لا غبار عليها. تشتري الآن لتبيع لاحقا، ذلك أمر طبيعي. ولكن لا شكّ في أنّه كان هنالك إساءة استخدام للنفوذ".

في خضمّ هذه المعاملة، حقّق كل من بلحسن الطرابلسي وأسماء محجوب وشركة SPI مكاسب صافية بلغت نحو 7 ملايين دينار، ثم تمّ تحويل الأموال كلّها إلى حساب ابنة وابن بن علي، الّذيْن استعادا بدورهما كل الأرباح النّاتجة عن بيع الأسهم التّابعة لشركة تونيسار.

يبيّن تطور سعر سهم الاتحاد الدولي للبنوك أنّه في سنة 2007، حينما تقدّم نبيل الشّتّاوي بطلب البيع، كان سعر السّهم في تراجع ممّا يمثّل خطرا على شركة الخطوط التّونسيّة وقد يعرّضها لصعوبات. من الطّبيعي إذن أن يسعى الرّئيس المدير العام إلى التّخلّص منها. ولكن في سنة 2009، تحسّنت الوضعيّة وأصبحت لا تمثّل خطرا على شركة تونيسار. في هذا الوقت بالذّات تدخّل المنجي صفرة ونظّم عمليّة البيع، على مرحلتين. بداية، للمقرّبين·ـات من بن علي، ثمّ في غضون بضعة أسابيع، لمجموعة متكوّنة من 19 شركة. عمليّة البيع الأولى دفعت سعر الأسهم للارتفاع، ما مكّن أقارب بن علي من جني أرباح خلال عمليّة البيع الثّانية.   

ماذا جنت الخطوط التّونسيّة؟

في الجانب الرسمي من شركة الخطوط التّونسيّة، فإن هذا البيع يعود على الشركة بربح قدره 33 مليون دينار ويهدف إلى تمويل طائرات جديدة. وكان نبيل الشتاوي قد علّل هذه العمليّة باستراتيجيّة الشّركة الهادفة إلى زيادة عدد الطّائرات وتوسعة الأسطول.  

يقول الرئيس المدير العام الأسبق: " في اعتقادي تتلخص مهمة تونيسار في إرسال طائرات في الجو وليست في الإبقاء على أسهم في رأس مال أحد البنوك. ذلك لأنّ أي تقلّص في سعر السّهم ما دون قيمة شرائه الأصليّة من شأنه أن يعطّل مخزون الشّركة". وهذا قد يؤدّي، حسب الشّتّاوي، إلى تقليص المبالغ المرصودة لشراء طائرات جديدة.  

ولكن ما حدث فعلا بعد إتمام عمليّة البيع من قبل الشّركة، هو اقتناء الطاّئرة A340 بقيمة 133.5 مليون دولار.  

الرّابط بين عمليّة بيع الأسهم وشراء الطّائرة الرّئاسيّة الجديدة ليس واضحا. يؤكّد نبيل الشّتّاوي أنه سعى ببساطة إلى الدّفاع عن " محيط عمله، أي محيط عمل تونيسار"، وأنّه لا توجد أيّة علاقة بين هذين العمليّتين. من جهته كذلك، يؤكّد مراد بن شعبان جهله إلى أيّ مدى تمّ استغلال هذه الأموال لاقتناء الطّائرة.

ولكن نظرا لوضعيّة تونيسار، إلى جانب شهادة نبيل الشتاوي، فإن شركة الطيران كانت في واقع الأمر بحاجة لهذه الأموال لإتمام عملية الشراء. فضلا عن ذلك، فإن مقترحات الشتاوي في ذلك الوقت لم يُقدّمها إلّا بعد مرور مدّة -كما تبيّنه هذه الوثيقة التي وقّعها المنجي صفرة بتاريخ 28 أكتوبر 2010.

وثيقة موقعة من المنجي صفرة تقدم مقترحات لتحسين الوضع المالي للخطوط التّونسيّة وخاصّة بعد قرار إبقاء الطائرة الرئاسية قيد العمل.

عدالة منقوصة حتّى بعد رحيل بن علي

بعد ثورة 2010 و2011، وبعد رحيل عائلة بن علي في 14 جانفي، أثارت العلاقة بين العمليّتين شكوكا جدّيّة. اعتبرت لجنة عبد الفتاح عمر لتقصي الحقائق عن الفساد والرشوة، أنّ تزامن التاريخين ليس من قبيل الصدفة. وكانت المهمة المناطة بعهدة اللجنة تتلخّص في الكشف عن فساد الرئيس السابق وأقاربه وقريباته.  

جمعت اللّجنة عدة وثائق عن المعاملات التي تمت مع شركة الخطوط التّونسيّة. كما جمعت شهادات كل من الشتّاوي وبن شعبان، وتمكّنت إنكفاضة من الإطّلاع عليها. تضمّنت هذه الشّهادات أمام اللّجنة، الدور المحوري الذي اضطلع به المنجي صفرة في هاتين العمليّتين.  

قرب المنجي صفرة من العائلة الرئاسية يفترض تضاربا في المصالح وإساءة استغلال السلطة من قبل الرّئاسة. كلّ هذا، مكّن عائلة بن علي من تحقيق ربح ماليّ في وقت قياسي، ومكّنها من تحريك كل أدوات الدولة لشراء طائرة رئاسية جديدة.

انخرط أعلى أعضاء مؤسّسة الرّئاسة في كلتا العمليّتين، -أي بيع الأسهم و شراء الطّائرة. ومن خلال التلاعب بحدود القانون، حرص المنجي صفرة، بمعيّة الرئاسة، على جعل شركة الخطوط الجوية التونسية والبنوك التونسية والإدارة العامّة للتخصيص وشركات كثيرة أخرى، تستجيب لرغبات العائلة الرئاسية التي تصبو للإثراء، على حساب الخطوط التّونسيّة والماليّة العمومية.

وبالنسبة لشركة الطيران، فإنّ شراء وصيانة الطائرة قد أدّى إلى تكبّد نفقات كبيرة. علاوة على ذلك، فقد اضطرت الخطوط التّونسيّة إلى دفع رسوم وقوف الطّائرة وصيانتها التي بلغت 112 مليون دينار إلى أن تمّ بيعها للخطوط الجويّة التركية.

رغم أن هاتين العمليّتين لم تكونا السّبب الوحيد، فإنّهما ساهمتا في تدهور الوضع الاقتصادي الذي آلت إليه الخطوط التّونسيّة. حيث كان الوضع مستقرّا إلى حدّ ما، إلى أن بدأت الشّركة تتكبّد خسائر بداية من سنة 2010 لتصبح بعد ذلك وضعيّتها الماليّة في انهيار مستمرّ إلى حدود سنة 2014.

يوضح تقرير كشف البيانات المالية للشركة في سنة 2010، أن استثمارات الشّركة في طائرتيْ الرّئاسة أدّت إلى عجز بلغ 12 مليون دينار لكلّ سداسي.

في 5 سبتمبر 2011، ذكر مدقّق حسابات الخطوط التّونسيّة في تقريره: أنّه نقل لوكيل الجمهورية " وقائع معيّنة يمكن أن تكون ذات صبغة جنائيّة، وقد تم استجلاؤها خلال  أعمال التدقيق المالي". وتتعلق هذه الوقائع على وجه الخصوص بـــ :  

- المكافآت والمزايا الأخرى الممنوحة لأفراد عائلة الرئيس المخلوع،
- وضع طائرتين خارج خطة الطيران والاستراتيجية التجارية على ذمّة الرئاسة.   

حسب مدقّق الحسابات فإنّه: " وفقا للوثائق التي أتاحتها Tunisair SA، فإن القضية تأخذ مسارها الطبيعي ويتابعها مجموعة خبراء بتعيين من المحاكم المختصة".  

في عملية بيع الأسهم، لم يصدر سوى حكم في حق أسماء محجوب بالسجن سنتين. وتم الحكم غيابيّا على بن علي وليلى الطرابلسي وشقيقها بلحسن بالسجن لمدة عشر سنوات. تم القاء القبض على هذا الأخير في فرنسا في 13 مارس 2019 وقد صدرت بحقه بطاقة جلب إلى تونس، من المقرر النّظر فيها في 4 ديسمبر 2019. فيما لم تقدم المحاكم أيّة معلومات عن القضية إلى تاريخ كتابة المقال.  

بالنّسبة لنبيل الشّتّاوي، فقد انتفع بحكم بعدم سماع الدّعوى. من جهته، وفي إطار هذه القضيّة، انتفع المنجي صفرة -أوّليّا- بحكم بعدم سماع الدّعوى، وتمّ نقل القضيّة لدى مصالح محكمة الاستئناف. في الأثناء، تمّ تمرير قانون المصالحة الإداريّة، وهو ما منحه عفوا قبل إصدار الحكم الثّاني. لم يستجب المنجي صفرة لطلب إنكفاضة التّعليق على هاتين القضيّتين.

إنّ الهدف مما سُمّي بقانون المصالحة، -الذي تمّ التّصويت عليه في مجلس نواب الشعب في 13 سبتمبر 2017، يتمثّل في العفو عن المسؤولين·ـات المتورطين·ـات في قضايا اختلاس " لخلق بيئة ملائمة للتشجيع على حرّيّة المبادرة داخل الإدارة والدّفع بالاقتصاد الوطني".  

على الرغم من الاتهامات المتعددة الموجهة ضدّ المنجي صفرة ودوره الجوهري في هاتين القضيتين، فإنّه لم يتم اعتباره مسؤولا عن ارتكاب أعمال مشبوهة لصالح العائلة الرئاسية. ويظلّ الفاعلون·ـات في هذين الملفّين المُجسّديْن لنظام في خدمة بن علي وأقاربه، دون محاسبة.