الفصل 4 :

في التعذيب والاعتقال وصنع التّطرّف

غالباً ما تـ·يحظى المتّهمون·ـات بالإرهاب بـ"معاملة خاصّة" لا تخلو من إيقافات وحشيّة واعتقالات تلقائيّة في ظروف مهينة، دون اعتبار لدرجة خطورة الجناية المرتكبة. وعندما يتمّ الإلقاء بهم·ـنّ في السّجن ودمجهم·ـنّ دون تمييز مع معتقلي ومعتقلات الحقّ العامّ، تشرع مكنة زرع التّطرف في العمل داخل الزّنازين.
بقلم
| 30 أكتوبر 2020 | 20 دقيقة | متوفر باللغة الفرنسيةالإنجليزية
بعد عبور حي الملّاسين وتقاطعات طريق سريعة لم تكتمل أشغالها بعدُ، لا يستغرق الأمر سوى بضع دقائق من السّير عبر منطقة ريفيّة للوصول إلى سجن المرناقية، الأكبر في البلاد والواقع على بعد حوالي خمسة عشر كيلومترًا غربي العاصمة. هذا السّجن هو عبارة عن مركز إيقاف عادي يتوسّط الحقول ويتّسم بأسوار خارجيّة شاهقة وأسلاك شائكة وبرج مراقبة.

كلّ يوم منذ مطلع الفجر، تصطفّ العشرات من العائلات محمّلة بسلال من الطّعام في انتظار لقاء أحد أقاربها من المعتقلين، بعد أن تكون في أغلب الأحيان قد قطعت المئات من الكيلومترات على متن قطار ليلي أو سيّارة أجرة. وبعد دخولها السّجن، عليها الانتظار لعدّة ساعات. عندما يأتي دورها، يرتفع صوت مذكّرا بأنّ مدّة الزيارة محدّدة بخمس دقائق فحسب. زيارة لمدّة خمس دقائق تليها، مرّة ​​أخرى، شهور طويلة من الانتظار العصيب. ويأوي مركز الإيقاف هذا 10٪ من نزلاء السّجون التونسية* من بينهم عدد كبير من المتّهمين رهن المحاكمة أو مدانون بالإرهاب.  

سجون مكتظّة

العديد من الأسباب، بما فيها السّرقات الصّغيرة الخاضعة للحق العام، يمكنها أن تجعلك تتذوّق ملذّات الاعتقال في تونس: مجرّد استهلاك القنب الهندي أو إصدار شيك بدون رصيد أو القذف والزّنا والعلاقات الجنسيّة المثليّة المفترضة... تداعيات هذا الوضع ملموسة للغاية، وتتمثّل في اكتظاظ داخل السّجون يحول دون توفير تأطير ملائم للمعتقلين·ـات وفي اختلاط سجناء وسجينات الحق العام بأولئك المتّهمين·ـات بالإرهاب، دون أيّ فصل بينهم·ـن. كان بدر الدين الراجحي شاهدا على تكثّف هذه الضّغوطات منذ سنة 2011.  

" بالإضافة إلى تعرضّنا إلى هذا، فإننا نجد أنفسنا حيال موقوفين يشكّلون خطورة. ولا يمكننا معاملتهم مثل الآخرين حيث نحتاج إلى المزيد من الأمن واليقظة والإمكانيّات".

بدر الدين الرّاجحي هو الكاتب العام للنّقابة العامّة للسّجون والإصلاح .  

وبالتّالي، فإنّ من شأن هذا الاكتظاظ أن يولّد محضنة لإرهابيين محتملين. " إنّنا نضاعف عدد مراكز التجنيد" كما يلاحظ معز علي، رئيس جمعيّة اتّحاد التّونسيين المستقلّين من أجل الحرّية، والتي تعمل على التّوقّي من التّطرف العنيف وعلى مرافقة العائلات: " تسجن من أجل سيجارة حشيش، تخرج إرهابيّا". فمرحبا في مدرسة العود إلى الإجرام. والتّطرّف ...  

لقد شكّلت المؤسّسات السّجنية التّونسية على مدى عقدين على الأقلّ المدرسة المثالية والفعّالة لتفريخ جهاديّين·ـات مستقبلين·ـات. ورغم أنها قد سنحت، في العقد الماضي، لمعتقلين سابقين من الشباب الاستفادة من تعاليم قدامى المقاتلين في أفغانستان والعراق على مدى سنوات طويلة من الاعتقال، فلا شيء يدلّ على إيلاء هذه المعضلة اهتماما جدّيا في الوقت الرّاهن.  

ورغم الحديث عن التّوجّه نحو إنشاء سجن مشدّد الحراسة خاصّ بـ"المتطرّفين"، فإنّ هذا المشروع لم ير النّور، حيث أنّه يُعتبر خطرا لاستحالة ضمان أمنه. وفي الأثناء، لا تزال مراكز الاعتقال المكتظّة والمجرّدة من أبسط القواعد الصحية مرتعا سانحا للدّعوة الدينية التي تؤثّر بشكل فعّال على موقوفين·ـات يعيشون ويعشن وضعيّة نفسيّة هشّة تسهّل تطويعهم·ـن وتقبّلهم·ـن للتّطرف العنيف.  

إنّ آلة طحن المعتقلين·ـات المبتدئين·ـات وزرع التطرّف داخلهم·ـن تشرع في الدّوران حتى قبل الزجّ بهم·ـن في السجن، منذ إيقافهم·ـن والاحتفاظ بهم·ـن في مراكز الإيقاف. وليس كل ذوي وذوات الشبهة مجرمين·ـات خطرين·ـات، بل تُفترض براءتهم·ـن إلى غاية صدور حكم نهائي بشأنهم·ـن. ومع ذلك، تشير العديد من الشهادات والتقارير إلى انتهاج قوّات الأمن لسلوك وحشيّ غير ملائم فور الإيقاف.  

عنف أمني

الموقفون·ـات في قضايا إرهابية على دراية بهذه " المعاملة التفضيليّة" التي لا تخلو من إيقاف وحشي واعتقال تلقائي في ظروف مهينة، دون اعتبار لدرجة خطورة الجناية المرتكبة، ومن أعمال تعذيب.
سياسة أمنيّة أباحها إلى يومنا هذا المرسوم المتعلّق بتنظيم حالة الطوارئ والجاري به العمل منذ 1978* والذي يروّج لعكس ما يفترض احتواءه مفضيا إلى تزايد خطورة التّطرف العنيف.  

ريم بن إسماعيل هي من بين الإخصائيّين·ـات النّفسيين·ـات القلائل الذين أو اللّواتي يتدخّلون ويتدخّلن في السّجون لصالح المعتقلين·ـات المتورّطين·ـات في قضايا إرهابية. والدّكتورة بن إسماعيل، التي كانت كذلك طرفا في الإحاطة بالمعتقلين·ـات السّابقين·ـات في غوانتانامو، شاهدة على التّبعات النفسية الضّارّة لمثل هذه الممارسات.  

" إن التّجريد من الإنسانيّة الذي يمارسه أعوان الأمن أو الذي يهدفون إليه، يمرّ عبر المبالغة في الإهانة إلى حدّ الحطّ من الإنسان إلى حالته الحيوانية."

ريم بن إسماعيل هي من بين الأخصائيين·ـات النفسيين·ـات القلائل الذين أو اللّواتي يتدخلون ويتدخّلن في السجون لصالح المعتقلين·ـات المتورطين·ـات في قضايا إرهابية.  

كما يندّد العديد من المحامين·ـات، إلى جانب المنظّمات غير الحكوميّة، بالإيقافات التحفّظية العشوائيّة التي تطول الأقارب والعائلات والأصدقاء، لمدّة تصل إلى 14 شهرًا أو أكثر. كما يحتجّون ويحتججن بشدّة على قيام قاضي التحقيق بسجن الموقوفين·ـات على إثر تحقيقات متسرّعة، مبنيّة على قرائن لا تتعدّى اعترافات منتزعة تحت التعذيب.  

وأحيانًا، بل وغالبا، ما يتمّ اعتقال موقوفين·ـات غير متورّطين·ـات في الأفعال المنسوبة إليهم·ـن، كما يتجلّى ذلك من خلال شهادة ب، المتّهم في قضيّة هجوميْ باردو وسوسة* (انظر الحلقة الأولى). فقد تمّ إقحام هذا الرّجل المندمج اجتماعيّا والذي ليس له سوابق عدليّة، بمعيّة زوجته، في دوّامة قضاء مكافحة الإرهاب بعد أن تبيّن تواطؤ شقيقه مع منفّذ هجوم سوسة وذلك لمجرّد الاشتباه في كون ب. أخفى هاتفًا.  

" خلال الأيّام التي قضّيناها هناك أنا وزوجتي، كانوا يحضرون أخي ويضربونه ويجرّدونه من ثيابه ثمّ يخرجوننا لرؤيته".

كان ب. أحد المتهمين·ـات في قضية هجوميْ باردو وسوسة.  

في نهاية المطاف، حُكم على ب. بالسّجن لمدّة 3 أشهر ... لكن بعد أن أمضى 13 شهرا رهن الإيقاف في انتظار محاكمته ...  

مضاعفات نفسيّة

يتّضح من خلال هذه الشّهادة والعديد من الشّهادات الأخرى، أنّ السّلطات القضائيّة لا تعمد إلى احترام قرينة افتراض البراءة. وفي الكواليس، أكّد أحد وكلاء الجمهوريّة التّونسيين والذي كان مكلّفا بقضايا إرهابيّة، قبل أن يتمّ نقله، بثبات أنّه من وجهة نظره، لا وجود لأشخاص تُفترض براءتهم، بل جُناة فحسب. وهو ما يتمّ أخذه بعين الاعتبار.

ولذا، فإنّه يصعب عدم ربط هذا النّوع من الممارسات بالشّعور بالظّلم الذي يخالج العديد من المعتقلين·ـات لفترة طويلة بعد إيقافهم·ـن واعتقالهم·ـن. ذلك ما يدفعنا إلى التّساؤل حول دور المعاملة التعسّفية التي يحظى بها المرء، والاعتقال ظلما، في زرع التّطرف تجاه الدّولة. وستسمح لنا بعض العناصر باستجلاء هذه المسألة.

وفقًا لدراسة للمعهد التّونسي للدّراسات الاستراتيجيّة، أعرب 90٪ من الجهاديين·ـات السابقين·ـات المسجونين·ـات عن رغبتهم·ـن في الانتقام من دولة تونسيّة تُعتبر غير منصفة. غير أنّه يجب أخذ هذه الأرقام باحتراز وإن كانت تؤكّد رأي الإخصائيّة في علم النفس ريم بن إسماعيل.  

" إنّ المضاعفات المترتّبة عن التّعذيب وسوء المعاملة  تولّد عنفا داخليّا هامّا وشديدا للغاية".

ريم بن إسماعيل هي من بين الأخصائيين·ـات النفسيين·ـات القلائل الذين واللّواتي يتدخلون ويتدخّلن في السجون لصالح المعتقلين·ـات المتورطين·ـات في قضايا إرهابية.  

فرضيّة تشاطرها أيضا، مثل العديد من زملائها وزميلاتها، الأستاذة إيمان الطريقي، وهي إحدى المحاميات الرّئيسيات المدافعات عن الجهاديين·ـات التونسيين·ـات.  

" إنّ الجهاديّين الذين اختاروا الالتحاق بصفوف داعش كانوا في أغلب الحالات ضحايا للهرسلة والتعذيب وسوء المعاملة والإهانة داخل السّجون التونسية".

إيمان الطريقي هي إحدى المحاميات الرئيسيات المدافعات عن الجهاديين·ـات وأسرهم·ـن في تونس. وهي ناشطة حقوقية رأست جمعية حرية وإنصاف بين عامي 2011 و 2014.  

ولا يعتبر ذلك تشكيكا في وظيفة السّجن كمكان اعتقال، ولا في جدوى العقوبة المقضّاة داخله مقابل اقتراف جناية. بل يقع اللّوم على موقف السّلطات الذي يعزّز شعور المعتقل·ـة بأنّه·ـا ليس·ـت ملك نفسه·ـا وبأنه·ـا فريسة لمعاملة تعسّفية لا يمكنه·ـا السّيطرة عليها.  

" إنّهم يجدون صعوبة في الإحساس بالانفعال  كمن ذي قبل، سيصفون حدادا أو  وفاة لم يقدروا على تجاوزهما و لم يبكوا بسببهما ولم يستطيعوا التعبير عن أي انفعال."

ريم بن إسماعيل هي من بين الأخصائيين·ـات النفسيين·ـات القلائل الذين واللّواتي يتدخلون ويتدخّلن في السجون لصالح المعتقلين·ـات المتورطين·ـات في قضايا إرهابية.    

تأسّست منظّمة "ريبريف Reprieve"، التي تعاملت معها ريم بن إسماعيل، والتي عُرفت بتحاليلهاللمارسات المُشرّعة للتّعذيب، من قبل كلايف ستافورد سميث سنة 1999. تعمل المنظّمة على الدّفاع مجانا على أولئك الذين واللّواتي لا يستطيعون أو يستطعن تحمّل تكاليف ذلك. وقد مكّنت المنظّمة الكثيرين·ـات من المحكوم عليهم·ـن بالإعدام في الولايات المتحدة الأمريكية بإثبات براءتهم·ـن، إذ تمّت تبرئة 300 شخص محكوم عليهم·ـن بالإعدام مع وقف التنفيذ وإخراجهم·ـن من دهاليز الموت. ثمّ رفعت ريبريف دعوى قضائيّة ضدّ الدّولة الاتحاديّة الأمريكيّة لإجبارها على السّماح للمحامين·ـات بالدّفاع عن المساجين والسجينات القابعين·ـات  في غوانتانامو في غياب كلّي لإطار تشريعي يحميهم·ـن.  

" كان يسأل: ماذا تختار؟ بين شفرة الحلاقة على الأعضاء التناسليّة أو الموسيقى المستمّرة الصّاخبة؟ "سيختار معظم الناس الموسيقى الصّاخبة.إلا هو. لأنه إذا كان التّعذيب جسديًا، فإنك تعلم يقينا أنّ له بداية ونهاية."

كلايف ستافورد سميث هو محامٍ ومؤسس ريبريف، تميز خاصة بمكافحة عقوبة الإعدام في الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك بصياغة لائحة دفاع عن صدام حسين. وهو حاليًا محامي الجهاديين السابقين المسجونين في روجافا. وقام في جانفي 2019 ، بمساعدة روجر ووترز  مؤسس فرقة الروك بينك فلويد، بإجلاء يتيمين بريطانيين على متن طائرة خاصة دون إذن مسبق، مما أثار جدلا حول مسألة استرجاع البريطانيين·ـات.  

وتقارن ريم بن إسماعيل، من جانبها، آليات التّعذيب في غوانتانامو بتلك المستخدمة في تونس مثيرة المضاعفات التي عاينتها على صحّة المعتقلين·ـات العقليّة.  

" يقول بعضهم 'لقد أصبحت آلة، وعلى أيّ حال، فإنك تحاولين التّعامل مع شخص لم يعد بشراً بل آلة'".

ريم بن إسماعيل هي من بين الأخصائيين·ـات النفسيين·ـات القلائل الذين واللّواتي يتدخلون ويتدخّلن في السجون لصالح المعتقلين·ـات المتورطين·ـات في قضايا إرهابية.      

وعلى الرّغم من إدانته صراحة في الدستور الجديد*، ومن تراجع اللّجوء إليه بصفة تلقائية منذ الثّورة، لايزال سوء المعاملة الشّبيه بالتّعذيب يُوظّف كأسلوب للتّحقيق من قبل قوّات الأمن، وكردّ فعل عقابي من طرف الدّولة إثر ذلك. وإن كان الإطار التشريعي يخوّل رفع شكوى ضدّ المسؤولين·ـات عن هذه المعاملة السيئة، فإنّه لا وجود لإجراءات أتت أكلها إلى حدّ الآن، كما يؤكّد ذلك المحامي بسام الطريفي، نائب رئيس الرّابطة التونسية للدّفاع عن حقوق الإنسان.  

" ظلّت هذه الثقافة راسخة حتى بعد الثورة. وما زالت سائدة داخل وزارة الداخليّة لدى أعوان الأمن الذين يقومون بالاستجواب".

بسّام الطريفي هو محام ونائب رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان.  

وكما ورد في توصيات التّقرير المقدّم إلى مجلس الأمن القومي في أوت 2015، تتمثّل أحد الحلول الرئيسية لمنع التّطرف العنيف داخل السّجون في إطلاق برنامج إعادة تأهيل المشتبه فيهم·ـن والمحكوم عليهم·ـن في قضايا إرهابية.  

يجب استغلال مدّة العقوبة السجنية لإعادة تأهيل الفرد. غير أنه، كما يلاحظ مختار بن نصر، إذا كانت تونس قد عملت بشكل كبير على إعادة إدماج المساجين والسجينات المتورطين·ـات في قضايا إرهابية بغرض الحدّ من استفحال التّطرف العنيف، فلمَ يقتصر ذلك على هذا الصّنف من الجنايات؟ كما يحقّ لجميع المعتقلين·ـات التّساؤل " هل يجب أن أمرّ بخانة الإرهاب لأحظى بعناية الدّولة؟".  

" إذا منحنا  إرهابيا سابقا، قد يكون قتّل ناسا، مشروعا بغرض إعادة تأهيله، فماذا بإمكاننا تقديمه إلى لصّ أو مجرم 'عادي' عند مغادرته السجن؟".

مختار بن نصر ناطق رسمي سابق باسم وزارة الدفاع الوطني. رأس المركز التونسي لدراسات الأمن الشامل في 2014 ثمّ اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب في 2018-2019.  

من جانب آخر، فإن ذلك يقود القضاء إلى التساؤل بشكل فعّال حول طبيعة الاعتقال ومسار المعتقلين·ـات، أي التساؤل حول مفهوم التّطرف نفسه ودرجات خطورة المعتقلين·ـات والتداعيات المترتّبة عن اعتقالهم·ـن على أنفسهم·ـن وعلى نظراهم·ـن وحول برامج إعادة التّأهيل الممكنة.  

في أوروبا، بادرت تقارير مختلفة، منذ سنة 2015، بإعادة تعريف المفاهيم تباعا، حيث تمّ الانتقال من مفهوم استئصال التطرف "déradicalisation" إلى مفهوم مكافحة التلقين العقائدي "désendoctrinement" وصولا إلى مفهوم مكافحة التجنيد "désembrigadement". وسرعان ما تمّ التّخلي عن مصطلح استئصال التّطرف، حيث أنه يمكن للمعتقل·ـة أن تـ·يبدي تطرّفا فكريًا دون أن تـ·يشكّل خطرًا. كما أنّ التلقين العقائدي ليس في حدّ ذاته عاملا خطرا ولا يفضي بالضرورة إلى انتقال تلقائي إلى العنف.  

ويفضّل عليه اليوم مصطلح "مكافحة التّجنيد" بمعنى الانسحاب من العنف أو القطع معه. ولا يعني ذلك تخلّي المدان·ـة عن بنائه·ـا الأيديولوجي الشخصي، بل التخلّي عن استعمال العنف. وقد اهتمّ هشام تيفلاتي المقيم في مونتريال، بدراسة المصادر المختلفة للتّطرف من خلال مقابلات مباشرة مع أعضاء تنظيم داعش.  

" عندما 'نشرّع' للعنصريّة، فإن ذلك سينعكس على الأقليات والمجموعات الأقلية الأخرى في المجتمع".

هشام تيفلاتي هو باحث مشارك سابق لدى مركز الوقاية من التطرف في كيبيك (كندا).  

آلة لتجذير التطرّف

ما هو شكل الاعتقال الذي يتعين تخصيصه لمعتقلي·ـات الإرهاب؟ يطرح السؤال نفسه بشكل أكثر إلحاحًا في تونس منه في أيّ مكان آخر نظرا إلى أن المعتقلين·ـات في قضايا إرهابية يمثّلن·ـون قرابة عُشر عدد نزلاء السّجون، مقابل حوالي 1٪ في أوروبا. وبحكم تقاربهم·ـن، فإنّ هؤلاء المساجين والسّجينات يلتقون ويلتقين ببعضهم·ـن البعض ويتواصلون ويتواصلن وينظّمون أو ينظّمن أنفسهم·ـن. باختصار، يصبحن·ـون أكثر خطورة جماعيًا. وإذا تمّ دمجهم·ـن بسجناء الحق العام، فإن استفحال الدعوة الدينية كما سبق وذكرنا هو الذي سيخلق إشكالا. وتلك وضعيّة واجهتها، على سبيل المثال، السّجون الفرنسية سنة 2014.  

حيث تمّ التّعرض إلى المشاكل التي يطرحها الاعتقال في سجن "فران Fresnes" وهو ثاني أكبر سجن فرنسي والأوّل من حيث عدد المعتقلين المتطرّفين. وتجاه تلكّؤ وزارة الإشراف في اتّخاذ إجراءات ملائمة واستفحال التّبشير الدّيني داخل المؤسّسة، قرّر مدير السّجن عزل المساجين المتطرّفين في ظروف متردّية للغاية لقلّة الإمكانيات. هذا الوضع أجبر الإدارة العامة على التّفاعل. كما تفاعلت وزارة العدل الفرنسيّة بعد بضعة أشهر من خلال إنشاء أوّل جناح متخصّص، كما سيعاد تعريفه لاحقًا تحت تسمية " جناح تقييم درجة التّطرف" داخل سجن فران.  

ويتمّ التّمييز داخل أجنحة تقييم درجة التّطرف بين ثلاث فئات من المساجين المدانين بالإرهاب: أولئك الذين انضمّوا إلى داعش " عن طريق الخطأ" من صغار الجانحين والأتباع وذوي الأزمات الوجوديّة وما إلى ذلك والذين يمثلون حوالي 80٪ من معتقلي الإرهاب. وبعد خضوعهم إلى تقييم على مدى عدّة أشهر، يعود هؤلاء إلى الاعتقال الطبيعي مع سجناء الحق العام. ويتمّ إيواء الـ20 ٪ المتبقّين في أجنحة العزل أو في أجنحة التّوقّي من الراديكالية.  

ويُعتبر حوالي نصفهم من الأيديولوجيين ذوي المعتقدات المتجذّرة ومن الدّعاة الدينيين، مما يقضي بعدم دمجهم مع سجناء الحق العام. وترى إدارة السّجن أنه لا ينبغي " مكافحة تلقين الأيدلوجيين" حيث أنّ ذلك يتطلّب وقتا طويلا ونجاحه غير مضمون، والاكتفاء بالقطع مع لجوئهم إلى العنف لبلوغ غايتهم. ولا تحرز البرامج الموضوعة للغرض نجاحا إلا بالنسبة لجزء صغير منهم. الحالات الأكثر تعقيدًا والتي تشكل الـ 10٪ المتبقّية هي صنف المعتقلين " شديدي العنف" والذين تُعتبر أصوليّتهم بحثا عن العنف بحدّ ذاته.

في تونس، فئات المعتقلين المرتبطين بالإرهاب مشابهة تقريبًا. ويشير معز عليّ، عضو اتّحاد التّونسيين المستقلّين من أجل الحرّية إلى أنه، وفقًا لمواصفات المعتقلين الذين تمكنت جمعيّته من التعامل معهم، فإنّ حوالي 80٪ منهم تعترضهم " صعوبات اجتماعية"، في حين أن الـ20٪ المتبقّين من الأيديولوجيين. وبالتّالي، هل يمكن للقضاء التونسي الاستئناس بالمناهج التي تمّ اختبارها في فرنسا وفي بلدان أخرى؟ يبقى السّؤال دون إجابة في الوقت الحالي. وفي انتظار وضع برامج واضحة، يجد أعوان السّجن أنفسهم مضطرّين إلى البحث عن حلول إنقاذ بأنفسهم والتّدخّل كوسطاء اجتماعيين.  

" هل سنقوم بحرقهم أو برميهم؟ إنهم بشر قبل  كلّ شيء، فلنكن واقعيين. لذا وبما أنّه يجب التعامل مع هؤلاء الأشخاص، فإنه من واجبنا إعادتهم إلى الطريق السّوي."

بدر الدين الراجحي هو الكاتب العام للنقابة العامة للسجون والإصلاح .  

لقد طال انتظار وضع البرامج. وعلى صعيد آخر، تنادي ريم بن إسماعيل بتعزيز التّشاور مع المجتمع المدني في مجال الوقاية.  

" هناك بُعد غير أمني للتّوقّي من 'التطرف العنيف' وهو مصطلح دارج حاليا. غير أنه في الحقيقة لا يعدو أن يكون استجابة لمطالب بعض الجهات المانحة وبعض الهيئات ولست على يقين من أنّ الدولة مقتنعة بذلك حقًا".

ريم بن إسماعيل هي من بين الأخصائيين·ـات النفسيين·ـات القلائل الذين واللّواتي يتدخلون ويتدخّلن في السجون لصالح المعتقلين·ـات المتورطين·ـات في قضايا إرهابية.        

ومع أنّ الإحاطة الأمنية قد أثبتت نجاعتها في احتواء التطرف العنيف على المدى القصير، فإنّ ذلك لن يُعفي تونس من إرساء مشروع طويل المدى لكبح " مكنة التطرف". تفكير لا يقتصر على الاعتقال في حد ّ ذاته، بل يمتدّ كذلك إلى ما تـ·يندّد به المعتقلون·ـات بعد الإفراج عنهم·ـن والمحامون·ـيات: السّجن بسماء مفتوحة.