بحيرة غار الملح الساحلية منظومة بيئية في خطر

تقع بحيرة غار الملح الساحلية شمال شرق البلاد التونسية عند منتصف المسافة بين تونس العاصمة ومدينة بنزرت. وهي بحيرة تجمع بين أبعاد التاريخ والتنوّع البيولوجي وتخطف الأنظار بسحر مشاهدها الطبيعية الخلابة. يدعونا اسكندر خليف من خلال تقريره المصوّر إلى رحلة فوتوغرافية لِنجوب بين السماء والأرض في رُبوع هذا المشهد الاستثنائي.
بقلم | 20 ديسمبر 2023 | reading-duration 20 دقيقة

متوفر باللغة الفرنسية
تقع بحيرة غار الملح الساحلية شمال شرق البلاد التونسية عند منتصف المسافة بين تونس العاصمة ومدينة بنزرت. وهي بحيرة تجمع بين أبعاد التاريخ والتنوّع البيولوجي وتخطف الأنظار بسحر مشاهدها الطبيعية الخلابة. يدعونا اسكندر خليف من خلال تقريره المصوّر إلى رحلة فوتوغرافية لِنجوب بين السماء والأرض في رُبوع هذا المشهد الاستثنائي. ـ

سُمّيت مدينة غار الملح بهذا الإسم لاشتهارها بإنتاج الملح. هي بمثابة مرآة تعكس قروناً من التاريخ فقد كانت فيما مضى وفي وقت الامبراطورية العثمانية مثلاً، مركزا هاما للملاحة البحرية وأضحت اليوم ملاذا للحيوانات والنباتات على اختلاف أنواعها. وعلى الرغم من وطأة التلوث واستفحال التغير المناخي فإنّ عددا من الرجال والنساء قد أجادوا التعايش مع هذه المنظومة البيئية المتداعية والتي تحتّم مراعاتها.

يصف المصور اسكندر خليف : "الحصون العثمانية والمساجد والكنيسة ومزار سيدي علي المكي الشهير هي معالم يتميز بها تاريخ هذه المنطقة الذي يمتعنا بلوحة ثقافية لا تقدر بثمن. كما يساهم كل من الصيد التقليدي والميناء القديم وفنّ الطبخ المحلي في تعزيز هذا التراث الحي."

تسلط كل صورة الضوء على العلاقات التفاعلية بين سكان البحيرة وبيئتهم الطبيعية حتى تكون نافذة على الحياة اليومية في غار الملح. وإضافة إلى جمالية القوارب الّتي تطفو بألوانها الشتى على سطح مياه البحيرة الساكنة بشاطئ سيدي علي المكي حيث تنتهي بنا الطريق قبالة البحر الأبيض المتوسط، فإن هذه السلسلة الفوتوغرافية، التي أنجزها اسكندر خليف بين مارس وأكتوبر 2023، تساهم أيضا في التوعية بحال بحيرة غار الملح ومنظومتها البيئية الهشةوالتي يتعين الحفاظ عليها في وجه تحديات التغير المناخي وتداعيات فعل الإنسان.

"إن الخوض في بقاع غار الملح يجعلك تفهم ذلك الحوار بين الماضي والحاضر وتشارك في المحافظة على منظومة بيئية فريدة من نوعها وجب على كل الأجيال الحفاظ عليها."

الصورة في أعلى المقال : مزارع يراقب بقلق منسوب مياه "القطعاية" وهو منشغل بشأن تواصل قلّة الأمطار لأشهر وعواقب ذلك على محصول هذه السنة، مارس 2023.

تقع بلدة غار الملح عند منتصف المسافة بين تونس العاصمة و مدينة بنزرت وتحيط بها كل من البحيرة و جبال الناظور والدميمة. تحفل الطريق التي تؤدي إلى هذا الفردوس بالمشاهد الخلابة وتمتد حتى البحر الأبيض المتوسط وشاطئ سيدي علي المكي.

تقع بحيرة غار الملح في الشمال التونسي (خليج تونس) وتقدر مساحتها بـ 28،5 كيلومتر مربع كما تتميز بمياهها الضحلة ومجاورتها للبحر.

القطعاية هي نظام زراعي يعتمد على استغلال الأراضي الرملية ذات تربة صالحة للزراعة وهي ممارسة دقيقة تقوم على استغلال التغيرات في مستوى مياه البحر التي تعلوها طبقة رهيفة من المياه العذبة. حركة المد والجزر هذه هو الذي يضمن ري الزراعات.

وتعود نشأة هذه التقنية الفلاحية الرملية الفريدة من نوعها على مستوى العالم، إلى القرنين 16 و17، وهي تقوم على استصلاح أراضي السبخة الرملية من أجل الزراعة وتعتمد كذلك على مياه الأمطار لريّ المحاصيل بطريقة طبيعية. لكن هذا النظام في خطر اليوم بسبب تداعيات التغير المناخي وقلة المزارعين·ـات الذين مازالوا يزاولون هذه الفلاحة التقليدية.


.

(يسار) تشمل الزراعة الرملية العديد من أنواع الخضروات المعروفة بجودتها الغذائية والايكولوجية كالفاصوليا والبصل والثوم كما تستفيد من محاصيلها 350 أسرة.

(يمين) مزارعان في أرضهما الزراعية. يكفي أن يرتفع مستوى البحر مترا واحد حتى تتحول البحيرة إلى خليج، الأمر الذي من شأنه أن يضر بالنظم البيئية الهشة وبالمناظر الطبيعية وباقتصاد المنطقة برمته.

يُستخدم القصب بدقة كبيرة لتحديد مساحات القطعاية ولحماية المحاصيل من المطر.

علي الغرسي هو مدرس متقاعد ومزارع ملتزم بتكريس الممارسات البيئية بمنطقة غار الملح وهو من أشد المؤيدين لزراعات البحيرات. وقد أكد لوكالة تونس إفريقيا للأنباء أن "منسوب مياه البحر ارتفع على غير المعتاد خلال السنوات الأخيرة وهو ما نلحظه من خلال المياه التي تغمر المحاصيل من حين لآخر."

يتمسك الفلاحون·ـات بأنواع الزراعات المحلية التي يقايضونها بكميات بسيطة من الحبوب والبذور نذكر من بينها القرع "البوتبسي" والبطيخ (والدلاع) والفاصوليا البيضاء والطماطم والفلفل، إلخ.

تأسس حصن برج اللوطاني في قلب مدينة غار الملح وكان في الأصل حامية عسكرية ثم أصبح سجنا قبل أن يكون مقرا لمركز "دار البحيرة" وهو أول مركز وطني للمناطق الرطبة في تونس.

يجاور المسجد الكنيسة في أزقة المدينة مما يشير إلى الثراء التاريخي وتعدد الثقافات في المنطقة.

(يسار) برج لازاريت الذي يوجد عند مدخل المدينة هو أحد الحصون الثلاثة لغار الملح. تمّ تشييده سنة 1695 في ظل حكم حمودة باشا باي. ويعود تاريخ تأسيس الحصون الثلاثة إلى العهد العثماني وكانت في البداية سجنا للعبيد الذين يتمّ أسرهم من قبل القراصنة خلال هجماتهم البحرية آنذاك.

(يمين) الميناء القديم بغار الملح شاهد على تاريخ المدينة وعلى ممارسات الصيد التقليدية والأساسية في غار الملح. كما كان فيما مضى يشكل مرفأً لأول قاعدة عسكرية في البلاد التونسية.

مقهى بورتو فارينا التاريخي بميناء غار الملح

من موقعه في قلب غار الملح، لايزال الميناء القديم يمثل مركزا للصيد التقليدي الذي يوحي بالأصالة. أمّا الميناء الجديد الموجود في اللسان الرملي عند مدخل المدينة فيُمارس فيه الصيد الصناعي.

على مشارف المدينة هنالك مطعم متاح لزوار البحيرة وهو مطعم مميز بإطلالته على ميناء الصيد القديم المسمى بـ"القشلة". تطوق الحصون الثلاثة الميناء القديم وتحيطه ورش قديمة لإصلاح وبناء القوارب ولتخزين وصيانة معدات الصيد.

أدوات الصيد الرئيسية أربعة : الشباك الخيشومية المثلثة وخيوط الأعماق الطويلة وفخاخ الأنقليس (ثعابين البحر) ثمّ الطراحات التقليدية الممنوعة والتي يتواصل استخدامها في غياب الرقابة بطريقة غير قانونية. أما رزنامة الصيد فتحددها أدفاق الأسماك المهاجرة التي يضاهي عدد أنواعها العشرون.

"من الواضح أن الأوضاع كانت أفضل بكثير في السابق، أحوال البحر تقلبت.." يصرح أحد الصيادين.

خالد حداد، تقع ورشته من بين الورشات التقليدية العثمانية وهو مختص في إصلاح وصيانة قوارب الصيد التقليدية.

يوسف صياد متمرس يبعث الحياة في قواربه حين يعمل على صناعتها باتباع تقنيات محلية موروثة تجعلها أخفّ وزنا لتبحر في مياه البحيرة. منذ سنوات، في عهد بن علي، بُتر إصبع يوسف في حادث على متن سفينة صيد.

يقول منفعلاً : "كنت أتكبد مشقة قصوى بدون تغطية صحية ! قد يكون وضعنا اليوم أكثر صعوبة ولكن على الأقل يمكنني التعبير عن رأيي وسرد قصتي دون خوف."

حول بحيرة غار الملح، غُرست أشجار النخيل المستوردة من الجنوب والتي تُستخدم أوراقها الكبيرة لمعالجة المحاصيل وحمايتها.

على الصعيد المحلي، يطلق سكان الجهة إسم "كوكو بيتش" على المنطقة السياحية الساحلية التي شهدت نموّا ملحوظا في السنوات الأخيرة. وتفتح المطاعم الشاطئية أبوابها خلال موسم الصيف لترحب بآلاف السياح الوافدين من بقية أنحاء البلاد للاستمتاع بالبحر.

أما خلال الربيع فالشاطئ المسمى نسبة لسيدي علي المكي والذي يوجد قبره في نفس المكان، يستعيد سكينته وهدوءه وتسترجع حيوانات ونباتات المنطقة أراضيها لتنعم بها من جديد.


شاطئ سيدي علي المكي في الربيع.