الانتحار حرقًا: من رمز ثوري إلى مأزق فردي

أعادت موجة من حالات الانتحار حرقًا منذ بداية العام الجاري تسليط الضوء على ظاهرة متجذّرة في المجتمع التونسي منذ الثورة، رغم تراجع هذا الشكل من الاحتجاج القاتل خلال السنوات الأخيرة. وبالرغم أن الانتحار حرقًا يُنظر إليه غالبًا باعتباره تعبيرًا عن غضب اجتماعي، إلا أنه يكشف في جوهره عن اضطرابات نفسية عميقة ومعاناة من أقدموا وأقدمن عليه.
بقلم | 16 جويلية 2025
10 دقائق
متوفر باللغة الفرنسية
"ها هو مركز الشرطة، أوقفوني مرتين خلال شهر واحد بسبب الاستهلاك [مخدرات، ملاحظة المحرر]، جئت لاسترجاع بطاقة هويتي"، يقول الشاب قبل أن يسكب محتوى قارورة بلاستيكية على رأسه أمام مركز الشرطة في حي الرياض الشعبي بسوسة، بينما صديقه يصوّره بهاتفه وهو يدخل المركز. يتمتم أحدهم: "إنه مجنون حقًا، مجنون !"..

لم تكد تمضي ثوان قليلة حتى برزت كرة من اللهب وسُمع صراخ ثم انقطعت الفيديو. نُقلت الضحية في نفس اليوم إلى مستشفى الحروق ببن عروس أين لفظ أنفاسه الأخيرة بعد ذلك بأيام. وهكذا، وقعت أولى حالات الانتحار حرقًا لشهر فيفري، بتاريخ 6 فيفري 2025.

بعد أسبوعين، اختفى أي أثر قد يدل على حدوث الواقعة داخل مركز شرطة حي الرياض أين رفض أعوان الأمن تقديم أي تعليق "دون ترخيص من وزارة الداخلية". والسبب وراء ذلك هو أن الملف حساس للغاية، فقد انتشرت صور الحادث كالنار في الهشيم على شبكات التواصل الاجتماعي وأثارت ردود أفعال واسعة في الرأي العام. ثم في ليلة السادس إلى السابع من فيفري استُهدف نفس مركز الشرطة بحي الرياض بزجاجات حارقة [مولوتوف] وإطلاق شماريخ.

سلّطت عدة وسائل إعلام في الأسابيع الموالية الضوء على حالات أخرى أضرم فيها أشخاص النار في أجسادهم. ويوضح موقع "رصد تونس"، وهو منصة إخبارية على الإنترنت: "لقد قمنا بتجميع الحالات ونشرنا الأرقام في تصميم مخصوص". ووفقًا لما أوردته المنصة عقب واقعة سوسة، فقد تم تسجيل ما لا يقل عن 10 حالات مماثلة منذ شهر ديسمبر 2024، منها أربع حالات في الأسبوع الأول من شهر فيفري.

وكان رئيس الجمهورية قد صرّح بأن "جملة من الحوادث تتالت قبل حلول شهر رمضان: أسبوع للانتحارات باضرام النار، وأسبوع لحالات تسمم، وقطع للطرقات وغياب مفاجئ في بعض المناطق للسلع والبضائع"، وذلك خلال اجتماع مجلس الأمن القومي يوم 21 مارس 2025.

وفي الخطاب ذاته الذي أعلن فيه عن إقالة رئيس حكومته، ندّد الرئيس بما وصفه بـ"رشق الحجارة" و"إطلاق الشماريخ" قائلاً إنها أحداث منسّقة في عدة مناطق "كما كان الحال في سنتيْ 2011 و2012". وبالفعل فقد بدت مشاهد المواجهات مع الشرطة في سوسة شبيهة بالساعات الأولى لاندلاع ظاهرة الانتحار حرقًا التي رافقت بدايات الثورة. غير أن هذه ظاهرة إضرام النار في الجسد، وإن لم تكن جديدة، لا تشهد في المقابل أي تصاعد ملحوظ.

  أسلوب احتجاجي مستمدّ من الثورة  

يتذكّر صاحب محلّ بقالة شهد المواجهات في حي الرياض: "رأيت الشبان يقتربون حاملين زجاجات المولوتوف فأغلقت المحلّ وعدت إلى منزلي". قلّة قليلة في ذلك الحي قبلوا سرد ما رأوه تلك الليلة. إذ تظهر في مقاطع الفيديو المنتشرة على الإنترنت عشرات الأشخاص يركضون في الشوارع المحيطة بمركز الشرطة، يقذفون عربات الشرطة بالحجارة والمقذوفات وهي تحاول محاصرتهم والقبض عليهم. يواصل صاحب المحلّ بالقول: "إنهم المدمنون والمروّجون وأولئك الذين يختلقون المشاكل مع الشرطة"، مؤكّدًا أنه "لا يفهم" ما الذي قد يدفع الضحية لإحراق جسده.

يشرح حاتم النفطي، الذي ألّف عدة كتب حول الشأن السياسي التونسي أنه "بعد الثورة وما قام به محمد البوعزيزي، أصبح إضرام النار في الجسد وسيلة احتجاج متكرّرة". وقد كان انتحار بائع الخضراوات الشاب أصيل سيدي بوزيد الشرارة التي أطلقت الثورة التي أطاحت بنظام بن علي، وأعقبتها سلسلة من حالات الانتحار حرقًا تواصلت حتى بعد سنة 2011.

وفقًا لإحصائيات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (FTDES)، فقد بلغ هذا الشكل من الاحتجاج ذروته بعد ذلك بسنوات، وتحديدًا بين عاميْ 2015 و2018.

يتذكّر حاتم النفطي أن "البلاد شهدت بين سنتي 2016 و2017 نوعًا من فقدان الأمل في الحراك الاجتماعي وشهدت السلطة استقرارا برز خلاله يوسف الشاهد*، ولم تعد التظاهرات تُسفر عن نتائج تُذكر". ووفقًا لبيانات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، توقّفت حالات الانتحار حرقًا بشكل واضح خلال فترة جائحة كوفيد، ثم استقرّت عند مستويات ضعيفة بداية من سنة 2021، وهي السنة التي أقر فيها قيس سعيّد حالة الاستثناء يوم 25 جويلية.

ويُذكّر النفطي بأن قيس سعيّد "قد نجح في البداية في استقطاب المهمّشين الغاضبين من المنظومة، قبل أن يعمل تدريجيًا على إخماد الأصوات المعارضة."

"القمع الأمني للحركات الاجتماعية، وتفكيك الهياكل الوسيطة، والاعتقالات، والتتبعات القضائية، وعودة الدولة البوليسية... كلها عناصر ساهمت في كسر الديناميكية الاحتجاجية والتي كان إضرام النار في الجسد أحد تعبيراتها القصوى"، يوضح حاتم النفطي.

بين جانفي ومارس 2025، تم تسجيل 12 حالة انتحار أو محاولة انتحار حرقًا، وفقًا لآخر تقرير فصلي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وهو رقم يعادل تقريبًا ما تم تسجيله في نفس الفترة من سنة 2022، وأقل قليلًا مما تم إحصاؤه في الثلاثي الأول من سنة 2023 والذي بلغ 15 حالة. لذلك من الصعب تفسير هذه الوقائع على أنها مؤشّر لعودة الحراك السياسي، خاصة وأن هذا الشكل من الفعل الاحتجاجي الراديكالي كان قد بدأ يتراجع أصلًا.

ورغم أن الكلمات التي نطق بها ضحية حي الرياض أمام الكاميرا لا تترك شكًا في صراعه مع الشرطة، يبقى من الصعب معرفة الأسباب الحقيقية التي دفعته إلى إضرام النار في جسده. تواصلت إنكفاضة مع عدد من الأشخاص الذين شاركوا مقاطع المواجهات على شبكات التواصل الاجتماعي، وأكّد بعضهم أنهم كانوا يعرفون الضحية عن قرب أو عن بعد لكنهم رفضوا الإدلاء بأي تصريح حول الحادثة.

التكتّم ومسؤولية الإعلام

تم إيقاف مصوّر فيديو واقعة الانتحار حرقًا في حي الرياض ووُضع قيد الاحتفاظ قبل أن يُخلى سبيله بعد أيام في انتظار محاكمته. هو الآخر يرفض تفسير الأسباب التي دفعته إلى التصوير بدل إسعاف صديقه رغم وضوح الطابع المُتعمّد للفعل. يقول عون شرطة بمنطقة زاوية سوسة يتابع الملف إن "الصور وطريقة الحديث عنها يمكن أن تشجع آخرين أو تُضفي على الحدث طابعًا أكبر مما هو عليه في الواقع".

من جانبها، توضح فرح الطرابلسي، الأخصائية النفسية وعضو الجمعية التونسية للنهوض بالصحة النفسية، أن "أحد العوامل الحاسمة في ارتفاع معدلات الانتحار هو تأثير فيرتر [Werther Effect]، وهو ظاهرة عدوى سلوكية حددها عالم الاجتماع ديفيد فيليبس سنة 1974 بعدما لاحظ تزايد حالات الانتحار إثر التغطية الإعلامية لبعض الحالات".

"وتأخذ الظاهرة اسمها من رواية غوته "آلام الشاب فيرتر" المنشورة سنة 1774 وقد أثارت وقتها موجة من الانتحارات عن طريق التقليد بين القرّاء الشباب في تلك الحقبة." 

وترى الطرابلسي أن هذا التأثير القائم على التقليد يعود إلى أسباب معقدة ومتنوعة، من بينها "التغطية الإعلامية المتكررة وأحيانًا المثيرة" لحالات الانتحار حرقًا.

في المقابل، يقرّ حاتم النفطي بأن "المنافسة المحمومة على نسب المشاهدة أظهرت استعداد الإعلام التونسي للذهاب بعيدًا كلّ البعد"، مذكرًا بأن الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا) كانت قد تبنّت سابقًا مبدأ التغطية المسؤولة لهذه الظاهرة، قبل أن تصبح معطّلة بقرار من قيس سعيّد، ما أسفر عن رقابة إعلامية محدودة على هذا الموضوع. ومع ذلك، أصدرَت وزارة الصحة في شهر جوان 2024 " الدليل الإرشادي للتناول الإعلامي المهني ومسألة الانتحار"، وهو كتيب من 15 صفحة يتضمن جملة من التوصيات للصحفيين·ـات العاملين·ـات على هذه المواضيع.

وتتصدر قائمة التوصيات الموجهة إلى الصحفيين·ـات دعوة الوزارة إلى "يجب ألا تقدم وسائل الإعلام تفاصيل مثيرة حول حالات الانتحار، مثل الأساليب المستخدمة وأنواعها كالصور والبيانات أو رسائل الانتحار، لأن ذلك قد يشجع السلوك الانتحاري لدى الأشخاص بالتمثل والتماثل".

وتأتي هذه التدابير في سياق توصيات منظمة الصحة العالمية (OMS) التي تحثّ على "تغطية مسؤولة لظاهرة الانتحار". غير أن هذا الحرص على التكتم لا يكفي وحده لتفسير محدودية تواصل الدولة حول هذه الظاهرة، حيث تقتصر السلطات غالبًا على تصريحات المتحدثين·ـات الرسميين·ـات باسم المحاكم في القضايا ذات الصدى الإعلامي الكبير.

فعلى سبيل المثال، لا توجد أية إحصائيات رسمية متاحة حول تطور أو توزّع حالات الانتحار بالحرق في البلاد، إذ يبقى المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الجهة الوحيدة التي تنشر هذه البيانات. ويوضح رمضان بن عمر، المتحدّث باسم المنتدى، أن "الفريق الذي يُعدّ تقارير المنتدى قرر تجنب ذكر طرق ووسائل الانتحار"، مشددًا على أن هذا القرار تم اتخاذه "دون أي ضغط" من السلطات.

من "الاحتجاج" إلى "تدمير الذات"

تُذكّر مقاربة المنتدى بأنّ ظاهرة الانتحار حرقًا، قبل أن تُعتبر شكلًا من أشكال الاحتجاج السياسي، هي تندرج في دينامية تطور ظاهرة الانتحار عمومًا في تونس. التقارير الشهرية التي ينشرها المنتدى تذكر أسبابا متواترة لمحاولات الانتحار منها "المشاكل الدراسية" و"الخلافات العائلية" و"الاضطرابات النفسية"، إلى جانب الأسباب الاقتصادية والاجتماعية مثل "البطالة" و"الهشاشة".

وذكر المنتدى في العام المنقضي أن الانتحار، عموماً، بات يهدف بشكل مباشر ومتزايد إلى وضح حدّ للحياة فعلًا، مع نسبة نجاة لم تتجاوز 21.05% خلال الأشهر الثلاثة الأولى من سنة 2024.

يورد التقرير أن هذه الأعمال "يبدو أنها تؤدي أكثر فأكثر إلى الموت وأن الغرض من الإقدام عليها لم يعد الاحتجاج بل محو أنفسهم ووضع حد لحياتهم وتدمير ذاتهم بشكل نهائي".

وتُظهر معطيات المنتدى أن حالات الانتحار حرقًا تواكب إجمالًا المنحى العام لبقية السلوكات الانتحارية، مع تمثيل أكبر نسبيًا لفئة الذكور، وهي أصلًا الشريحة الأكثر تضررًا من الانتحار بشكل عام. وتشير الأخصائية النفسية فرح الطرابلسي إلى أن "الإحصائيات العالمية تؤكد بدورها ارتفاع نسب الانتحار لدى الرجال وخاصة الشباب"، مضيفةً أن "الرجال غالبًا ما يلجؤون إلى وسائل عنيفة مثل الشنق أو الحرق وهو ما يُفسر ارتفاع نسبة الوفيات في صفوفهم".

وتعزو الأخصائية النفسية هذا المعطى في جانب منه إلى "معايير الرجولة السائدة التي تردع الرجال عن التعبير عن معاناتهم".

وفي مواجهة هذه الظاهرة، تستفيد السلطات الحالية بالأساس من الاستثمارات المُنجزة بعد الثورة في مجال مكافحة الانتحار. وتُذكّر فرح الطرابلسي بأن "تونس كانت أول بلد عربي يضع استراتيجية وطنية لمكافحة السلوك الانتحاري، شملت الفترة الممتدة بين 2016 و2019". كما تم بعث لجنة فنية وطنية لمقاومة الانتحار سنة 2015 بإشراف الدكتورة فاطمة الشرفي، وكانت اللجنة وراء جملة من التوصيات التي اعتمدتها الهايكا لاحقًا.

وفي شهر فيفري 2025، أطلقت وزارة الصحة خطًا أخضر للاستماع والدعم النفسي، غير أن الرقم ظلّ دون إجابة عند محاولات انكفاضة الاتصال به في عدة مناسبات بين نهاية أفريل وبداية ماي 2025.

ورغم ذلك، يمكن لتونس أن تفخر بشبكة من الجمعيات المختصة في الصحة النفسية والتي ترى فرح الطرابلسي أنها "تلعب دورًا محوريًا في الوقاية والمرافقة النفسية في تونس"، وتساهم بالتالي في مكافحة ظاهرة الانتحار حرقًا.

ومن هذا المنطلق، توصي الجمعية التونسية للنهوض بالصحة النفسية (ATPPSMJ) باعتماد مقاربة شاملة تتضمن حملات تحسيسية في الوسط المدرسي، وتوفير جلسات استشارة نفسية بأسعار ميسّرة، فضلًا عن التواصل مع الشباب باللهجة التونسية عبر شبكات التواصل الاجتماعي. وتختم الأخصائية بالقول إن "المسألة لا تتعلق فقط بمنع الأشكال الاستعراضية مثل الانتحار حرقًا، بل بتقليص مجمل المخاطر الانتحارية عبر التدخل في مختلف المستويات".


Inkyfada Landing Image

منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري

أنشئ حسابك الآن وتمتع بميزات النفاذ الحصري ومختلف الخاصيات المتقدمة التي توفرها لك. تحصّل على عضويتك وساهم في تدعيم استقلاليتنا.

منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري. تسجيل الدخول