الأسطول الشبح الروسي: حضور خفيّ في ليبيا

يكشف هذا التحقيق كيف أن الكرملين يستخدم سفنًا من "أسطوله الشبح" — وهي مئات السفن التجارية القديمة ذات الملكية الغامضة — لنقل معدات عسكرية إلى القائد العسكري الليبي خليفة حفتر، وفقًا لوثائق مسرّبة اطلع عليها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين.
متوفر باللغة الفرنسيةالإنجليزية
في ربيع العام الماضي، عبرت سفينة شحن ترفع العلم الكاميروني تُدعى بارباروس (Barbaros) مضيق البوسفور في إسطنبول. انطلقت السفينة من روسيا متجهة إلى ميناء في الشرق الليبيي يخضع لسيطرة قائد عسكري متهم من قبل بعثة تحقيق تابعة للأمم المتحدة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

انقر·ي هنا للاطّلاع على المقال على موقع الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين (ICIJ)

خلال عبور بارباروس لمضيق البوسفور في أفريل/أبريل، رصد محلل حركة الملاحة البحرية يورك إيشيك الشحنة التي كانت على متنها، ونشر صورًا للسفينة على منصة X، واصفًا إياها بأنها "سفينة مثيرة للاهتمام" تحمل شاحنات تُستخدم غالبًا في المهام العسكرية وتنتجها شركة روسية خاضعة للعقوبات.

أعقب ذلك سلسلة تحركات من أجهزة إنفاذ القانون، وفقًا لوثائق من عملية إيريني (Irini)، وهي المهمة البحرية للاتحاد الأوروبي التي تهدف إلى مراقبة ومنع إيصال الأسلحة إلى ليبيا والمحظورة بموجب حظر دولي.

تكشف الوثائق كيف تلجأ سفن تجارية تُعرف بأنها جزء من "أسطول شبح" إلى حيل مختلفة للتهرب من المراقبة أثناء نقل المعدات الروسية إلى ليبيا. كما تسلّط الضوء على القلق الأوروبي المتزايد حيال تنامي النفوذ الروسي في البلاد، والذي يُنظر إليه على أنه جزء من استراتيجية أوسع لموسكو لبسط سيطرتها في البحر المتوسط وعدد من الدول الإفريقية.

بعد نشر الصور من قبل إيشيك، أعدّت منظمة الإنتربول تقريرًا عن السفينة بارباروس، كشف أنها قامت بالتلاعب بنظام التعريف الآلي (AIS) الذي يُستخدم لتحديد موقع السفن، بهدف إخفاء مسارها. وأشار التقرير إلى أن السفينة غيّرت اسمها ثلاث مرات وسُجلت تحت أعلام ما لا يقل عن عشر دول مختلفة منذ عام 2013. وخلص المحققون إلى أن السفينة "قد تكون تنقل أسلحة إلى ليبيا" وأوصوا بمتابعتها عن كثب من قبل السلطات المختصة.

كانت وجهة بارباروس نحو ميناء طبرق الليبي، الذي يسيطر عليه خليفة حفتر، القائد العسكري الذي يُهيمن على شرق البلاد.

وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو (يسار) يلتقي القائد العام للجيش الوطني الليبي خليفة حفتر، أوت/أغسطس 2017. المصدر: وزارة الدفاع الروسية.

ساعد "الأسطول الشبح" روسيا على الالتفاف على العقوبات الغربية المتعلقة ببيع النفط، بحسب تصريحات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وتقوم هذه السفن بإيقاف نظام التتبع الآلي لتجنّب الرصد سواء في نقل النفط أو الأسلحة.

وثقت عشرات التقارير التي أعدّتها سلطات أوروبية عام 2024، كيفية تعطيل السفن لنظام التتبع الآلي عند مرورها قرب ميناء طرطوس السوري، حيث تحتفظ روسيا بقاعدة بحرية. وفي بعض الحالات، كانت السفن تزوّر بياناتها لتبدو وكأنها تبحر في موقع مختلف. وقد أظهر تقرير في إحدى الحوادث أن سفينة مشبوهة كانت تنقل أسلحة من سوريا إلى ليبيا زوّرت موقعها لتبدو وكأنها قبالة شاطئ بيروت، لكنها ارتكبت خطأً تقنيًا فأظهرت موقعها في مطار بيروت بدلًا من الميناء.

في الأول من ماي/مايو 2024، صعدت بعثة مهمة "إيريني" الأوروبية إلى متن السفينة بارباروس واكتشفت وجود 115 شاحنة روسية الصنع.

ورغم أن طراز هذه الشاحنات يُستخدم عسكريًا في كثير من الأوقات، إلا أنها الشحن المتجهة نحو ليبيا لم تكن معدّلة خصيصًا للاستخدام العسكري، وبالتالي لم تُعتبر انتهاكًا مباشرًا لحظر الأسلحة، ما سمح للسفينة بمواصلة طريقها إلى طبرق. مع ذلك فقد اعتبرت البعثة الأوروبية في تقرير داخلي لها أن هذه الشحنة تمثل "تأكيدًا على اتجاه تصاعد العسكرة في المنطقة".

لم يرد المسؤولون في عملية إيريني على أسئلة الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين بشأن هذه القضية.

وعلى مدار ما يقارب العقد، دعمت موسكو حفتر بالأسلحة والمال والمقاتلين، وبنت معه علاقة جعلته أبرز حليف لها في ليبيا. في عام 2023، خلصت بعثة تابعة للأمم المتحدة إلى أن القوات الخاضعة لسيطرته ارتكبت "جرائم ضد الإنسانية"، كما اتهم تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية ميليشيا يقودها نجل حفتر بارتكاب جرائم قتل وتعذيب واغتصاب.

حفتر الأب، الذي يحمل الجنسيتين الليبية والأمريكية وأقام لعقود في شمال ولاية فيرجينيا، واجه عدة دعاوى مدنية في الولايات المتحدة تتهم قواته بقتل مدنيين ليبيين. لكن القضايا أُسقطت العام الماضي بعد أن قرر قاضٍ أمريكي أن المحكمة لا تملك الاختصاص للنظر فيها. ومن المقرر أن تنظر محكمة الاستئناف في هذا القرار خلال شهر ماي/مايو.

رغم ذلك، لم تُعامل القوى الغربية حفتر كمنبوذ دوليًا. ففي أوت/أغسطس 2024، وبعد ثلاثة أشهر فقط من وصول بارباروس إلى إيطاليا، التقى قائد قيادة القوات الأمريكية في إفريقيا ودبلوماسي أمريكي بارز بحفتر في ليبيا.

يقول أنس القماطي، مدير معهد الصادق في طرابلس: "هذا يعكس إهمالًا استراتيجيًا من الغرب".

وأشار مسؤولون أوروبيون إلى أن تنامي النفوذ الروسي في شرق ليبيا يُعد سببًا لتعزيز العلاقات مع المؤسسات الخاضعة لسيطرة حفتر. وصرح سفير الاتحاد الأوروبي في ليبيا نيكولا أورلاندو، خلال اجتماع في أكتوبر 2024 بمقر البعثة البحرية الأوروبية أن "ما لا نقوم به في الشرق، ستقوم به روسيا بدلنا".

لم ترد بعثة الاتحاد الأوروبي في ليبيا ولا المتحدثون باسم جهازه الدبلوماسي على طلبات التعليق.

وأوضح القماطي أن وجود روسيا في ليبيا يتيح لها السيطرة على مسارات تهريب المهاجرين·ـات إلى أوروبا، وإقامة نقطة انطلاق للعمليات البحرية على بُعد مئات الأميال فقط من السواحل الأوروبية.

"لدى روسيا شراكة مع حفتر، لكن وجودها في ليبيا يتعلّق بالغرب بالدرجة الأولى. أوكرانيا تمثل الجبهة الشرقية لحلف الناتو، أما ليبيا فهي الجبهة الجنوبية — خاصرة أوروبا الرخوة".

"تهديد أمني مباشر لأوروبا"

منذ مطلع عام 2024، ازدادت وتيرة التدخل الروسي في ليبيا، جزئيًا من خلال عمليات "الأسطول الشبح"، بحسب مسؤولين أوروبيين.

وفقًا لمذكرة إحاطة مسرّبة، أُبلغ قائد المهمة البحرية الأوروبية في جوان/يونيو بأن عدد الرحلات الجوية الروسية إلى ليبيا في النصف الأول من عام 2024 فقط يساوي إجمالي عددها في العام 2023 بأكمله، وأن المهمة رصدت "تأطيرًا أكثر رسمية للوجود الروسي" خلال الأشهر الماضية. كما أشارت الوثيقة إلى تصاعد في وتيرة تسليم الأسلحة الروسية إلى ليبيا.

وورد في مذكرة الإحاطة إن "الوجود البحري الروسي في المتوسط أصبح أمرًا واقعًا، ونحن نلاحظ زيارات منتظمة للبحرية الروسية إلى ليبيا".

في عام 2024، تم استبدال مرتزقة مجموعة فاغنر — وهي شركة عسكرية خاصة روسية تنشط في ليبيا منذ عام 2018 — بوحدة تُدعى "فيلق إفريقيا" تخضع للقيادة المباشرة للجيش الروسي، بحسب الوثائق المسرّبة.

شحنات الأسلحة الروسية هذه لا تغذّي النزاع الليبي فحسب، بل تُمكّن موسكو من توسيع نفوذها في منطقة إفريقية غير مستقرة لكنها تنضح بالموارد. وتصف مذكرة داخلية أعدتها البعثة البحرية الأوروبية بعد لقاء مع المبعوث الألماني إلى ليبيا، أن موسكو تستخدم ليبيا "كنقطة دخول إلى ممرها اللوجستي نحو منطقة الساحل". ولم يرد المبعوث الألماني على طلبات التعليق في إطار هذا التحقيق.

جنت روسيا مكاسب مالية وسياسية من تدخلها في هذه المنطقة الشاسعة التي تضم 10 دول. ففي النيجر مثلا، دعمت الجيش الذي أطاح بالحكومة ثم فتح أبواب استثمار اليورانيوم للشركات الروسية. أما في جمهورية إفريقيا الوسطى، فقد عزز المرتزقة الروس من سلطة الرئيس مقابل السيطرة على مناجم الذهب والماس.

وليس الروس وحدهم من خرقوا الحظر الدولي على الأسلحة إلى ليبيا. إذ عرض تحقيق وثائقي من البي بي سي في عام 2020، كيف استخدمت تركيا "سفنًا شبحية" لنقل الأسلحة إلى حلفائها في ليبيا، مستخدمة أساليب مماثلة لتلك التي تنتهجها موسكو.

لكن انهيار سلطة الرئيس السوري بشار الأسد، الحليف الوثيق لموسكو، في شهر ديسمبر الماضي، بدا كعامل دفع روسيا نحو تعزيز وجودها في ليبيا. حيث صرح وزير الدفاع الإيطالي في نفس الشهر أن روسيا تنقل أسلحة من قاعدتها البحرية في سوريا إلى ليبيا. وفي شهر جانفي/يناير، تعرّفت الاستخبارات العسكرية الأوكرانية سفنًا روسية تُجهّز لنقل أسلحة من سوريا إلى ليبيا.

وقال متحدث باسم الاستخبارات العسكرية الأوكرانية لمعدّي التحقيق أن مسؤولين عسكريين روسًا أبرموا اتفاقًا مع حفتر أواخر عام 2024 لنقل وحدات روسية من سوريا إلى ليبيا وتحديث البنية التحتية الجوية في شرق البلاد. وأشار إلى أن الطيران الروسي نفّذ ما لا يقل عن 20 رحلة لنقل جنود ومعدات من سوريا إلى الأراضي الليبية الخاضعة لسيطرة حفتر، وأن نحو 3000 جندي روسي منتشرون حاليًا في ليبيا.

وبحسب مذكرة داخلية أعقبت اللقاء مع المبعوث الألماني فإن ليبيا تُعد "تهديدًا أمنيًا مباشرًا لأوروبا" بسبب الوجود الروسي فيها ودورها كممر للهجرة.

يقول القماطي في الختام: "هذا دليل على الإهمال الاستراتيجي الغربي. إن روسيا بصدد بناء عُقدة عسكرية لا تقتصر قدرتها على زعزعة استقرار ليبيا فحسب بل تهدد أيضًا الأمن الأوروبي على بُعد 400 ميل فقط من سواحل الناتو".

Inkyfada Landing Image

منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري

أنشئ حسابك الآن وتمتع بميزات النفاذ الحصري ومختلف الخاصيات المتقدمة التي توفرها لك. تحصّل على عضويتك وساهم في تدعيم استقلاليتنا.

منصة إعلامية مستقلة في طليعة الابتكار التحريري. تسجيل الدخول