من البحر إلى جبال مطماطة على امتداد 45 كيلومترًا تقريبا، تتناثر منشآت مشابهة على جوانب الطرق وبين حقول الزيتون. يوجد حوالي 80 مكمنا من هذا النوع في المنطقة بالإضافة إلى عدد من المخابئ المحفورة في الجبال. وتشكل هذه المنشآت مجتمعة شبكة ضخمة من التحصينات، بنتها فرنسا للدفاع عن مستعمراتها ومحمياتها* في شمال إفريقيا وأطلقت عليها اسم خط مارث.
في نفس الموضوع
يقول ميشيل تروتمان، المؤرخ المتخصص في خط مارث أن «الهدف كان يتمثّل في إعاقة تقدم العدو نحو الشمال عند مارث من خلال خط من المكامن ومراكز القيادة ومستودعات المدافع المضادة للدبابات، الموزعة كلها على نقاط استناد». وبالتالي تشكّل المكامن الواقعة عند مدخل المدينة قبالة الطريق، «نقطة الاستناد* 3 - طريق مدنين» التابعة لـ "الخط الرئيسي".
صمّم الجيش الفرنسي خط مارث وأرساه في فترة ما بين الحربين العالميتين ولعب دورًا حاسمًا في حملة تونس خلال ربيع عام 1943، قبل أن يطويه تدريجيًا النسيان. وهي قصة مشابهة على نحو مُلفِتٍ لقصة خط ماجينو، شبكة التحصينات التي بنتها فرنسا في نفس الفترة تقريبًا على أراضيها.
يوضح ميشيل تروتمان الذي ألّف كتابا خصّه بتاريخ خط مارث: «إنّ الاسم المعتمد من قبل سكان مارث الذين التقينا بهم ميدانيًا منذ زمن بعيد هو 'خط ماجينو الصحراوي'».
في مواجهة الغزوات، حمايةً لفرنسا ومستعمراتها
من أجل فهم أصل خط مارث، من الضروري العودة إلى السياق الذي أُنشئ فيه. فبعد الحرب العالمية الأولى والاختراق الألماني عام 1914، سعت فرنسا إلى حماية أراضيها من خطر هجمات جديدة. فأقرّ وزير الحرب أندري ماجينو في جانفي 1930، قانونا يهدف إلى تمويل «التنظيم الدفاعي للحدود». وتمّ تخصيص الجزء الأكبر من التمويلات لبناء شبكة من الحصون والملاجئ على الحدود الألمانية لينشأ بذلك خط ماجينو.
كذلك، خُصِّص جزء من الميزانية لبناء تحصينات على الحدود مع إيطاليا في جبال الألب. لم يكن أدولف هتلر في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين قد اعتلى سدّة الحكم بعد في ألمانيا، لكنّ بينيتو موسوليني من جانبه كان يثير القلق لدى جيرانه على نحو متزايد بسبب نزعته الِاسْتِرْدَادِيَّة إزاء القارة ومستعمراتها. فإيطاليا الفاشية، المتواجدة في ليبيا منذ عام 1911، لم تكن تخفِي نواياها التوسعية في المغرب العربي.
يقول ميشيل تروتمان: «وصل بينيتو موسوليني إلى السلطة في عام 1922 ومنذ ذلك التاريخ ألقى في أنحاء طرابلس خطابات حماسية يطالب فيها بتونس».
ولئن كانت تونس رسميا تحت الحماية منذ عام 1881، إلا أنها وُضِعت فعليًا ضمن نطاق خطة الدفاع عن الحدود الوطنية الفرنسية. وتظهر وثائق وزارة الحرب، أن اعتماداتٍ خُصِّصت لبناء التحصينات في تونس تحت نفس البنود المخصّصة لمناطق جورا وشمال فرنسا. يُؤكِّد ميشيل تروتمان أن المنشآت الدفاعية التي بُنيت آنذاك في المغرب والجزائر والهند الصينية لا يمكن مقارنتها بخط مارث، ففرنسا لم تُشيِّد في كل مستعمراتها غير خط دفاع واحد آخر فقط في جيبوتي. وقد كان خطا «أخفّ تحصينا» لمواجهة أي هجوم إيطالي محتمل من الصومال.
مع تصاعد التوترات في أوروبا في ثلاثينيات القرن العشرين، أصبحت ضرورة حماية الجبهة الجنوبية لتونس مسألة أكثر إلحاحا. يشرح ميشيل تروتمان قائلا إن«فكرة بناء الموقع المحصن قرب مارث تعود إلى الجنرال جورج، مفتش قوات شمال أفريقيا في عام 1933. وكان الهدف يتمثّل في حماية قابس عبر موقع محصّن، وخوض معركة دفاعية من هذا الموقع في انتظار وصول التعزيزات من الجزائر والمغرب». و بينما كانت التحصينات تكاد تكتمل في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، عمِلت القوات الفرنسية على جمع المعلومات الاستخباراتية حول تحركات القوات الإيطالية في ليبيا استعدادا للدفاع عن المنطقة.
وفقًا لميشيل تروتمان، وضع الفرنسيون على خط مارث وحداتٍ من «الرماة التونسيين والسنغاليين والجزائريين الذين تناوبوا على حراسة الحصون والمخابئ، وتحسين الدفاعات» وكانت جميع نقاط الاستناد متصلة بشبكة هاتفية. فعلى سبيل المثال، كان يشغَل نقطة الاستناد "مارث-جنوب" القريبة من المدينة، عناصر من الفوج الخامس من الرماة السنغاليين الذين أحاطوا الموقع بأسلاك شائكة وأعدّوا مواقع لإطلاق النار يتقاطع مداها مع نقاط الاستناد الموالية.
على تخوم مارث، كانت أفواج من الرماة التونسيين هي التي تتحكم في نقاط الاستناد، لا سيما الفوج الرابع والفوج الثامن منهم. وهي وحدات كانت قد تم تكريمها سابقا لمشاركتها في معارك الحرب العالمية الأولى 1914-1918. وفي ماي 1940، نُقِل غالبية هؤلاء الجنود من تونس إلى فرنسا، أينَ كانت القوات الألمانية قد تجاوزت خط ماجينو وراحت تتقدّم بسرعة نحو باريس لتستحوذ على فرنسا في أقل من شهرين.
معركة خط مارث
بعد توقيع الهدنة، احتلت إيطاليا جنوب تونس بينما حافظت الإدارة الاستعمارية الموالية لنظام فيشي على السيطرة على بقية البلاد. سقط خط مارث في يد الفاشيين دون قتال وجُرِّد من السلاح. يقول ميشيل تروتمان: «في غضون أيام، تم تفكيك كل التسليح ونقله إلى تونس الحاضرة». لكن الحرب تواصلت في ليبيا ومصر اللتان مثلتا مسرحًا للعديد من الهجمات والهجمات المضادة بين الإيطاليين والألمان والبريطانيين، سواء على الأرض باستخدام المشاة والدبابات، أو في الجو باستخدام الطائرات إلى أن أجبرت عملية إنزال واسعة أطلقتها القوات الأمريكية مع حلفائها في الجزائر والمغرب في نوفمبر 1942، الجيوش الإيطالية والألمانية على الانسحاب نحو تونس.
تمت إعادة تسليح خط مارث و «زرع رومل عشرات الآلاف من الألغام مثلما كان قد فعل في صحراء ليبيا»، يقول ميشيل تروتمان.
تولى المارشال الألماني إرفين رومل، قائد الفيلق الألماني في شمال أفريقيا (أفريكاكوربس)، الدفاع عن الخط من مركز قيادةٍ يقع في الجبال المحيطة بقرية توجان، على مسافة عشرين كيلومتر تقريبا من مارث جنوبا. يقول فتحي، المزارع الذي يعيش أمام الموقع المحصن القائم حتى اليوم،: «هنا، لطالما سمّينا هذا المكان 'دار رومل'، رغم أنني شخصيًا لا فكرة لدي عن هويته».
داخل الملجأ المهجور والمحفور في سفح الجبل، لا تزال آثار الجيش الإيطالي والآفريكا كوربس الألماني جليّة. يقول منير الذي عاش والداه في مارث أثناء الحرب العالمية الثانية: «إنّ جميع الذين عاصروا تلك الفترة والقادرين على تذكر الألمان قد توفوا تقريبًا. كبار السنّ لم يرووا لنا سوى نزر قليل من القصص عن الألمان. وقليلة هي المصادر التي تُؤرّخ تجربة الاحتلال الألماني-الإيطالي التي عاشها سكان جنوب تونس، في الوقت الذي كان يفضّل فيه جزء من الرأي العام آنذاك ألمانيا النازية*.
في منتصف مارس 1943، وبينما كانت تُخاض معارك عنيفة في شمال تونس وحول القصرين في الوسط الغربي، حاول الحلفاء شن هجوم مباشر على خط مارث لكن عملية الاختراق فشلت وتكبدت القوات البريطانية نحو 4000 قتيل بالإضافة إلى خسارة العديد من الدبابات*. وأخيرا، في نهاية مارس، تمكنت القوات النيوزيلندية والفرنسية من الالتفاف حول خط مارث عبر الجبال بقطع مسافة تزيد عن 50 كيلومترًا، للوصول إلى الحامّة. اضطرت القوات الألمانية والإيطالية أمام خطر وقعها في الحصار إلى التخلي عن مواقعها المحصنة والانسحاب تدريجيًا نحو الشمال. في يوم 13 ماي، وبعد أن استعاد الحلفاء السيطرة على تونس وبنزرت، استسلم كل من الفيلق الإفريقي "أفريكاكوربس" والقوات الإيطالية لتنتهي بذلك حرب شمال إفريقيا.
على اليسار: جندي بريطاني يشارك سجائر مع أسير ألماني، أثناء معركة خط مارث، 22-24 مارس 1943 / كِياتنغ (نقيب)، وحدة التصوير الفوتوغرافي والسينمائي العسكري عدد 2، متحف الحرب الإمبراطوري. على اليمين: مدفع '25 رطل' يطلق النار أثناء هجوم ليلي على خط مارث، 30 مارس 1943 / بالمِر (رقيب)، وحدة التصوير الفوتوغرافي والسينمائي العسكري عدد 2، متحف الحرب الإمبراطوري.
ستجد عدة أفواج من الرماة التونسيين الذين حاربوا جنبا إلى جنب مع الحلفاء في شمال أفريقيا نفسها تواصل القتال في أوروبا، خاصة في سياق حملة إيطاليا. بينما لم يعد لخط مارث أي فائدة مع نهاية الحرب العالمية الثانية واحتلال الحلفاء لليبيا المجاورة. يقول ميشيل تروتمان: «على حدّ علمي، قام أسرى المحور بإزالة الألغام من جُلِّ المواقع بعد عام 1943. ولم تتم إعادة تسليح الخط المُحصّن بعد الحرب».
موقع تذكاريّ يتهدّده النسيان
اليوم، ولئن كانت معظم المكامن لا تزال قائمة، إلا أن الزمن قد طمس جزءًا من تاريخ خط مارث. على منحدرات مجرى وادي زقزاو الجاف تمامًا، والذي كان يشكل في الماضي خط دفاع طبيعي إضافي، لا تزال "النقطة الدفاعية 67" واضحة للعيان لكن خنادقها تضررت وانهارت بفعل الأمطار. أما بعض المكامن الأخرى فقد قبرها التراب جزئيا. ولمعاينتها عن كثب، على الزائر أن يتخطى أنابيب الري المتناثرة ومجموعات الكلاب الضالة ذلك أنها محاطة بالكامل بحقول الزيتون.
يقول منير متذكرا: «قبل نحو خمسة عشر عامًا، كنا نستقبل العديد من الزوار في مارث. كانوا يأتون أفواجا للقيام بجولات تاريخية في الجبال واستكشاف الخط الدفاعي». لكن بحسب السكان، لم يعد الموقع يجذب الزوار كما كان سابقًا بسبب الأزمة التي ضربت القطاع السياحي. أما بالنسبة للزوار المحليين، فإن قلّة من التونسيين·ـات مهتمون·ـات بتاريخ خط مارث وذلك رغم إنشاء متحف عسكري عام 1994 عند مخرج المدينة، بالقرب من مكمن "نقطة الاستناد 3 – طريق مدنين".
يقول منير: «بالكاد يزور أحد متحف مارث أو مكامنها. حتى أنّي لا أجزم بأنّ الجميع يعلم أو يدرك أهمية ما جدّ هنا». ويدعم أقواله مرشد المتحف الذي يوضح أنّ «الزوار التونسيين الوحيدين الذين يأتون هم طلاب أو مجموعات مدرسية تمثّل أقل من 5% من إجمالي الزوار». مع ذلك، فإن الموقع يجذب زوارًا من دول أخرى.
يقول مرشد المتحف العسكري في مارث: «60% من السياح الذين يأتون هنا هم ألمان. أما البقية فيتوزعون بين الإنقليز، والفرنسيين، ودول أوروبية أخرى مثل إيطاليا أو بولندا».
من جهتها، تقول جوستينا بورازينسكا، السفيرة البولندية في تونس: «تأثرت كل الأسر في بولندا تقريبا بالحرب العالمية الثانية. لذا من الطبيعي تكريم ذكرى البولنديين الذين قاتلوا من أجل الحرية أينما كان ذلك». في 28 أكتوبر، دشنت السفيرة لوحة تذكارية في المتحف العسكري بمارث تكريمًا للطيارين البولنديين الذين قاتلوا خلال حملة تونس.
تروي السفيرة: «نتحدّث هنا عن أولئك الطيارين الذين فروا من احتلال بولندا وانضموا إلى المملكة المتحدة، ثم اختارتهم بريطانيا لمحاربة القوات الجوية الألمانية في سماء تونس». وكوّنت مجموعة الـ 19 جنديّا هذه «الفريق البولندي القتالي» الذي لعب دورًا حاسمًا في المعارك الجوية التي جدّت خلال مارس 1943 فوق خط مارث. إذ رافقت طائراتهم عملية الالتفاف التي أنجزتها القوات الفرنسية والنيوزيلندية في اتجاه الحامة مرافقة لصيقة وكان قائدهم آنذاك يدعى ستانيسلاف سكالسكي، وهو يُعتبر اليوم بطلًا قوميًّا في بولندا. تفسر جوستينا بورازينسكا: «قبل أن يتمّ التدشين، تلقيت صورة لمجموعة من السياح البولنديين أمام اللوحة. بعضهم قال لي أنهم لم يتمكنوا من حبس دموعهم عند رؤيتها».
تؤكد السفيرة:«"زيادة على ألوان علمينا الأبيض والأحمر، لتونس وبولندا أوجه تشابه أعمق. فكلا البلدين تعرضا للاحتلال الألماني أثناء الحرب، وكانا مستعمريْن أيضًا، مما يفسر تمسكنا بقيم الاستقلال والحرية».
ورغم هزالة محلّه في السرديّة الوطنية التونسية، يظل خط مارث مكانًا لذكرى نابضة. فهو ذو أهمية خاصة لدى كل من له ارتباط بتاريخه. إذ يروي مرشد المتحف العسكري في مارث أثناء مغادرته مكمن نقطة الاستناد 3: «أتذكر إيطاليًا جاء قبل بضع سنوات لنثر رماد جده بالقرب من الخنادق، بناءً على وصيته. لقد أثّر فينا ذلك بشدّة».