هي "نجمة" من ساعات الفجر الأخيرة، إلى أن تطلق صفارة مغادرة معمل الخياطة أين تعمل كمشرفة فريق براتب قدره 1000 دينار شهريا دون احتساب منحة آخر السنة، أو في نهايات الأسبوع حين تشتغل معينة منزلية وترعى الأطفال بأجر حتى تجمع ما قدره 460 دينارا في الشهر إضافية.
تقول: «أخلع مئزري الأبيض كل عشية، وألبس في يوم راحتي مئزر الطبخ والتنظيف، ودور الأم المأجور. وكأنه فعلا هويتي وماهيتي.»
في ما يلي لمحة عن مداخيلها ومصاريفها الشهرية:
هي أم منفصلة عن زوجها، تعيش منذ سنة تقريبا في منزل أخيها وعائلته بإحدى قرى نابل الصغيرة، والذي انتقلت إليه حتى توفر ما يكفي من المال لتسدد كراء ابنتها وابنها اللّذيْن يدرسان في تونس العاصمة والبالغ 700 دينار في المجموع.
تغادر منزل أخيها يوميا على الساعة السابعة صباحا، لتستقل حافلة تقل عددا كبيرا من سكان المنطقة في نفس التوقيت إلى نابل المدينة. «وكأن كل القرية تنزح صباحا وتعود ليلا» تصف نجمة. ومن هناك تستقل تاكسي جماعي لتصل إلى مقر عملها العمل.
ينطلق حينئذ يومها بين ضوضاء الآلات، ومسؤوليات عشرين عاملة، وأوامر لامتناهية وانتظارات رب عملها التي «تتجاوز غالبا قدرات الإنسان الجسدية والعقلية» على حد تعبيرها. تمضي نجمة يومها وقوفا، أو «محنية الظهر على ماكينة الخياطة». ولا ترتاح إلا نصف ساعة مخصصة للغداء ككل العاملات والعاملين معها.
تكتفي يوميا بقارورة ماء وما تبقى من عشاء البارحة، حتى توفر مصاريف الأكل التي توظفها للتنقل. ومع ذلك تضطر إلى أن تستغني عن تلك الرفاهية في أواخر الشهر، لتقطع المسافة مترجلة ذهابا وإيابا.
«ليس من السهل أن تكون سند أبنائك الوحيد، خاصة مع غلاء المعيشة في العاصمة أين يقيمان» تقول نجمة.
حين كانت في السابعة عشر من عمرها، انتقلت نجمة وعائلتها من سليانة إلى نابل. كانت والدتها عاملة فلاحية ووالدها عاملا يوميا، وهي الأكبر سنا بين أخواتها وإخوتها الستة. ولذا، اضطرت منذ صغر سنها أن تعمل لأول مرة في معمل خياطة حتى تعين أسرتها. وكانت آنذاك مخطوبة وتعمل جاهدة لتدخر المال من أجل تحضيرات زفافها.
تزوجت بعد 3 سنوات، عن غير اقتناع تام: «رغبت خلال تلك السنوات أن أنفصل عنه، إلا أن والدي منعني». ولم يمض عام من الزواج حتى أنجبت ابنتها، لكن مع مرور الوقت، كثرت المشاكل مع زوجها وأدمن هو الخمر. فبدأت نجمة حياةً من العنف اللفظي والجسدي، إلى جانب مسؤولية إعالة أسرة أخرى ومسؤوليات أكبر.
تقول: «كرهت فكرة أنني أدفع المال كل شهر من أجل سقف بيت أسكنه». فما كان منها إلا أن اقترضت مبلغا من البنك حتى تشتري أرضا لتشيد منزلها الخاص. وظلت تدخر المال لتبني منه ما استطاعت، إلى أن تركها زوجها سنة 2019، وتغيرت أولوياتها حين ازدادت المصاريف فجأة.
بتفاقم الأزمة الاقتصادية في تونس منذ الأشهر الأولى من سنة 2020 إلى اليوم، بسبب جائحة الكوفيد، تفاقمت مصاريف نجمة وفُرضت عليها ضرورة إيجاد مصدر دخل إضافي.
وجدت نفسها أمام حتمية العمل كمعينة منزلية ورعاية الأطفال، في نهاية الأسبوع وأحيانا بعد ساعات عملها القار. كانت تبحث في تلك الفترة عن طريقة لتدخر ما يقارب 8000 دينار من أجل سداد المعاليم السنوية لتكوين ابنها في مجال الطبخ.
«أستيقظ كل يوم بهاجس أنني -ربما- قد أعجز بمفردي عن تغطية نفقات ابنتي الجامعية، وعن الادخار من أجل مستقبل ابني التكويني.»
في صائفة 2022، بدأت نجمة تعدُّ نفسها «لأشهر طويلة من التضحيات» على حد تعبيرها، نظرا لكون السنة التكوينية الأولى لابنها تنطلق في شهر سبتمبر، ولابد له من الانتقال إلى العاصمة. فكان عليها أن تسدد 5800 دينار دفعة واحدة من معاليم التكوين في بداية السنة، إضافة إلى إيجار منزله ومصروفه الشهري الذي يتمثل في 320 دينار.
تركت نجمة منزلها الذي تستأجره في المدينة، وانتقلت للعيش مع أخيها. ورغم طول المسافة بينه وبين كل أماكن عملها، وارتفاع مصاريف التنقل، كان ذلك في نظرها الحل الأمثل للادخار.
لا تكتفي نجمة في شهريْ جويلية وأوت بالاقتصاد في المصروف، بل أيضا، تعمل طباخة في الأعراس وتجني ما يقدر بـ 960 دينار، توظفها في معاليم تكوين ابنها.
«كنت أعتقد أنني قد تعودت على التعب والوقوف لفترات طويلة والأوامر، إلى أن عشت مع كل ذلك حرارة مطبخٍ يعج بالناس صباحا، ومجالسة رضيع ليلا.»
تشارك نجمة أخاها في تسديد فواتير الماء والكهرباء ومواد التنظيف. كما تحاول أن تنفق سنويا مبلغا ضئيلا على الملابس والأحذية لا يتجاوز 600 دينار ، مرة واحدة أو مرتين على الأقصى، لا لأجلها بل لابنها وبنتها.
في ما يلي تفاصيل مداخيلها ومصاريفها الشهرية:
المنطقة الرمادية
تقول أنها تحس بالتقصير، كلما أولت إحدى الأساسيات على غيرها. لكنها تحاول «ألّا يعوز أبناءها شيء في غياب والدهم». تحس ذلك خاصة في الأعياد وفي شهر رمضان، متى تزيد كل الأسعار. فتغرق في الديون وتمضي بقية الأشهر جاهدة لخلاصها. إذ تضطر أن تستدين من أختها وأن تؤخر بعض الخلاصات، مما يخلق لها مشاكل أخرى.
«أحيانا أشعر أنني كلما تخطيت أزمة مالية أغرق في أخرى.»
تمر خلال هذه المناسبات بمشاكل صحية كبرى، وحالة من الاكتئاب الحاد والقلق تلزمها الفراش لأيام. لكنها تخيّر أن لا تنفق المال على المستشفيات والأدوية بل تقنع نفسها بأنها «مرحلة مؤقتة من الإرهاق وسوف تمر.»
من جهة أخرى تتواصل مضايقات رئيسها في العمل متى تغيبت لأسباب صحية، تصل إلى درجة تسليط عنف اقتصادي عليها، كحرمانها من منحة رأس السنة ظلما. تعبر نجمة بغضب: «تسمعهم يقولون أن المرأة ضعيفة، لكن يوم ينتابها الضعف حقا ولو لحظة، لا تجد من يرحمها».
المستقبل
لا تعرف نجمة ما إذا كانت وضعيتها الاقتصادية والاجتماعية ستتحسن، لكنها ترجو ذلك، وترى في أبنائها أملا. ولم تعد أحلامها تتمثل في بناء منزل، بل صارت تأمل أن يتبقى لها شيء من القوة والقدرة على التحمل لمجابهة المستقبل.
تقول «أؤمن بأن الله لن يضيع تعبي. حتما ستكون له ثمار، أتمنى أن يجنيها أبنائي.»
الآن، تستمر في تضحياتها اليومية، وهي تنتظر اليوم الذي يُصبح فيه ابنها طاهياً مشهوراً، وابنتها محامية أو قاضية. «عندما يصلان إلى مرحلة العيش من شغفيهما، وعندما يحققان استقرارًا، سوف أكون قد اكتفيت بما قدمته.»
سوف تكتفي بجراية التقاعد، وتعيش «في بيت صغير بسيط» يزورانها فيه بين الفينة والأخرى. حينها فقط، ستجد نفسها قد تحررت من عبء التضحيات، وتستمتع أخيرًا «بسلام داخلي وراحة خاطر، بعد رحلة طويلة من الكفاح» كما تقول.