في مطلع ديسمبر 2023، بدأت العملية العسكرية البرية الإسرائيلية في المدينة، فنزحتُ إلى رفح وانقطع التواصل. بعد فترة، التقيت بمريم وأمها في الطريق المزدحم غرب رفح. بالكاد تعرفت على مريم التي فقدت الكثير من وزنها. بدت السيدتان مكلومتين، وقالت لي مريم: «أخي مفقود».
في أواخر شهر أفريل/نيسان 2024، ظهرت أم نبيل مجددًا، ولكن هذه المرة في فيديو منتشر على وسائل التواصل الاجتماعي. في الفيديو، كانت تبحث عن ابنها نبيل في مقبرة جماعية داخل مستشفى ناصر الطبي.
يقول محمد زيدان "أبو نبيل" 43 عاماً: «في اليوم الأخير لاستخراج الجثامين، كانت جرافة الدفاع المدني في طريقها لمغادرة الموقع عند حدود الساعة الثانية وعشر دقائق. لكن أم نبيل اعترضت الجرافة ووقفت أمامها، وقالت للسائق إنه لن يغادر قبل العثور على ابننا وأنه حتماً موجود في المنطقة التي لم تُنبش في المستشفى». ظلت الأم تناشد السائق: «ابني موجود هناك قلبي حاسس» فرضخ لبكائها.
«وبالفعل وجدناه هناك مع جثامين أخرى، كانت جثته تحللت جزئياً وغابت ملامحه، لكنها عرفته على الفور من ملابسه التي كانت تحفظها».
وفقًا للأمم المتحدة، تم اكتشاف سبع مقابر جماعية في غزة، بما في ذلك داخل المستشفيات، بعد حرب السابع من أكتوبر 2023 على غزة. ومن جانبه أكد الدفاع المدني الفلسطيني مشاركته في انتشال الجثث من عشر مقابر جماعية في القطاع.
مقبرة مجمع ناصر الطبي
كان نبيل زيدان البالغ من العمر 23 عامًا، يعيل أسرته. فبعد تخرجه من كلية الحقوق عمل حارسًا في إحدى المدارس، وبعد انتهاء ساعات عمله كان يعمل أيضا في صيانة المكيفات. عندما توغل الجيش الإسرائيلي في غرب خان يونس في السادس من فيفري/شباط 2024، اختفى نبيل.
كان يبيت في مجمع ناصر الطبي مرافقًا لصديقه المريض، لكن العائلة اتفقت على أنه في حال توغل الجيش، يجب أن يتجمعوا في رفح في منطقة بئر 22. حضر الجميع إلا نبيل، ومنذ ذلك الحين لم يُعرف عنه شيء حتى انسحاب الجيش الإسرائيلي من المجمع.
في 14 فيفري/شباط 2024، اقتحم الجيش الإسرائيلي مجمع ناصر الطبي أين كان يتواجد عشرات المرضى والجرحى والعاملين. انسحب الجيش في السابع من أفريل/نيسان من العام نفسه. بعد الانسحاب، توجهت عشرات العائلات للبحث عن أبنائها المفقودين، وكانت عائلة نبيل من بينها.
يقول والده: «أحد العاملين في المشرحة قال إنه دفن ابني خلف المشرحة، ولكن هذه المنطقة جرفها الجيش الإسرائيلي ولم أجد جثمانه. كنا نحضر من الصباح حتى المساء، حفرنا بأيدينا وأدواتنا. ووفر الدفاع المدني جرافة ضعيفة الإمكانيات للحفر والاستخراج».
دامت عملية الاستخراج سبعة أيام، يروي أبو نبيل: «وجدنا بعض الشهداء معصوبي العينين ومكبلي الأيدي، وبعضهم قد فُتحت بطونهم، وبعضهم عُذب. على أجسادهم كانت توجد رسومات وكلمات عبرية».
تتوافق شهادة أبو نبيل مع تصريحات الجهات الرسمية الفلسطينية. يقول محمد المغير، مسؤول الإمداد والتجهيز في الدفاع المدني بقطاع غزة: «بعض الجثامين كانت مكبلة الأيادي، وبعضها كان قد أعدم ميدانيًا. بعضهم كان يرتدي ملابسه، بينما كان آخرون بملابس داخلية فقط. هناك دلائل على أن بعض الجثث كانت لأشخاص يتلقون العلاج.»
«تم فتح بطون بعض الجثث وإغلاقها بطريقة التدبيس المعمول بها في الطب العسكري؛ ما يثير الشكوك حول سرقة الأعضاء البشرية.»
يواصل مسؤول الدفاع المدني: «بعض الجثث وصلت إلى المرحلة الرابعة من التحلل، وتفاوتت درجة التحلل حسب طريقة دفنها وتغليفها في مواد تسرع من التحلل، مثل الأكياس البلاستيكية وعمق دفنها؛ فقد وجدنا بعضها على عمق ثلاثة أمتار تحت الأرض».
شارك الدفاع المدني في استخراج جثامين من أربع مقابر جماعية: واحدة في مستشفى كمال عدوان شمال القطاع، وثلاث أخرى في مستشفى الشفاء الطبي في مدينة غزة. كما شارك أيضًا في الجنوب في انتشال جثامين من ثلاث مقابر جماعية في مجمع ناصر الطبي في خان يونس، بإجمالي 520 جثمانًا استخرجت من المقابر الجماعية السبع، وفقًا لبيانات المكتب الإعلامي الحكومي.
مقابر الشفاء
في 18 مارس/آذار 2024، اقتحم الجيش الإسرائيلي مستشفى الشفاء الطبي في مدينة غزة للمرة الثانية. استمرت عمليته العسكرية داخل المستشفى نحو أسبوعين، وانتهت في الأول من أبريل 2024.
اكتُشفت ثلاث مقابر أيضًا في مجمع الشفاء الطبي، حُفرت اثنتان منهما بالتوازي والثالثة بعد فاصل زمني قصير. يعود السبب إلى حرص الجيش الإسرائيلي على إخفاء الجثامين، ما يُعدّ في القانون إخفاءً للأدلة على جرائم الحرب والإبادة الجماعية.
يوضح محمود بصل، المتحدث باسم الدفاع المدني، كيف تم اكتشاف المقابر: «انسحب الجيش من مستشفى الشفاء في منتصف الليل. وصلت طواقمنا إلى المستشفى نحو الساعة الثانية فجراً. توقعنا العثور على عشرات الجثامين وفقًا للشهادات، لكننا وجدنا أن المستشفى كانت نظيفة تمامًا ولا يوجد بها شيء. بدأنا بالسؤال عن مصير عشرات الجثث التي أفاد عنها من خرجوا من المستشفى».
تشير إحدى الممرضات التي احتُجزت داخل المستشفى خلال العملية، إلى أن جرافة عسكرية قامت بحفر حفرة واسعة نحو الساعة الثامنة مساءً قبل انسحاب الجيش بساعات.
«كنا نعتقد أننا سنجد مقبرة جماعية، لكن وجدنا ثلاث مقابر» تروي الممرضة.
كانت المقابر الثلاث تقع أمام مبنى الطوارئ والاستقبال، وأمام مبنى الجراحات التخصصية، وخلف مبنى التنمية غرب المستشفى. وتتطلب عملية العثور على المقابر الجماعية رحلة استدلال بناءً على شهادات الناجين والناجيات ومعرفة طبيعة المكان السابقة من خلال الجهات التي أدارته قبل الاقتحام. وتعتبر التغيرات التي تطرأ على المكان بمثابة الخيط الأول الذي يؤدي إلى اكتشاف موقع المقبرة الجماعية.
فور تحديد الموقع، تعلن وزارة الصحة والدفاع المدني عن بدء عملية الانتشال وتحدد مكانه وموعده. هذا يتيح للعائلات التي تبحث عن مفقوديها المشاركة في عملية البحث الذي يقود إما للتعرف على الجثمان عبر علامات مميزة، وإما أن يبقى مجهول الهوية.
تكمن المعضلة الحقيقية في اكتشاف المقابر الجماعية وانتشال الجثامين في الإمكانات المتاحة لإنجاز المهمة بأسرع وقت ممكن، في ظل الضغط العائلي على الفرق العاملة. يقول بصل: «جزء من عملنا لا يتم بطريقة مهنية، لكن هذا ما نستطيعه». إذ من المفترض أن يتم أخذ صور متخصصة تحت إشراف مسؤول جنائي «لكننا نصور أحياناً بكاميرات الجوال ونحتفظ بها لتسهيل التعرف على الهوية» يؤكد بصل. كما يفترض كذلك أخذ عينات من الجثث لأغراض قانونية وصحية، وتحتاج الفرق إلى فحص الحمض النووي (DNA) لتسهيل التعرف على الجثامين، ولكن كل ذلك غير متوفر في القطاع.
يضيف بصل: «يُفترض وجود إسعاف متخصص لنقل الجثامين تجنباً لنقل العدوى، وهذا غير متوفر. لم تقدم لنا أي جهة دولية الدعم اللوجستي اللازم ولا حتى الإمكانات أو الوقود الضروري لتشغيل الآليات اللازمة لنبش هذه المقابر واستكمال عمليات استخراج الجثامين».
في أفريل/نيسان 2024، علقت إريكا جيفارا روساس، كبيرة مدراء البحوث في منظمة العفو الدولية، على اكتشاف المقابر الجماعية قائلةً: «إنَّ الاكتشاف المروع لهذه المقابر الجماعية يؤكد الحاجة الملحة لضمان الوصول الفوري لمحققي حقوق الإنسان، بما في ذلك خبراء الطب الشرعي، إلى قطاع غزة المحتل».
وتؤكد جيفارا أن هذا الوصول ضروري من أجل «ضمان الحفاظ على الأدلة وإجراء تحقيقات مستقلة وشفافة؛ بهدف ضمان المساءلة عن أي انتهاكات للقانون الدولي.» وتضيف أن «غياب خبراء الطب الشرعي وتدمير القطاع الطبي في غزة نتيجة الحرب والحصار الإسرائيلي القاسي إلى جانب عدم توفر الموارد اللازمة، يشكّل عقبات هائلة أمام التعرف على الرفات».
تتابع جيفارا: «هذا الوضع يحرم من قُتِلوا من الدفن اللائق، ويحرم عائلات المفقودين أو المختفين قسراً من الحق في المعرفة والعدالة؛ مما يتركهم في حالة من عدم اليقين والمعاناة».
الدفن ليس الوسيلة الوحيدة التي استخدمها الجيش الإسرائيلي لإخفاء الجثامين. إذ استخدم أيضًا "الدمج" كما يوضح المتحدث باسم الدفاع المدني: «فوجئنا بوجود جثث في سواتر ترابية صنعها الجيش داخل المستشفى. ولم تكن هذه الحادثة الوحيدة». ففي نهاية شهر جوان/حزيران 2024، اجتاح الجيش الإسرائيلي حي الشجاعية للمرة الثانية بشكل مفاجئ.
«كانت هناك شهادات تشير إلى وجود عشرات الجثث والمفقودين، وعندما انسحب الجيش، في البداية لم نجد أي جثث. وبعد البحث، وجدنا عددًا كبيرًا منها مدموجًا في سواتر ترابية» يروي المتحدث باسم الدفاع المدني.
المخالفات للقانون الدولي
يؤكد الحقوقي عصام يونس أن «القانون الدولي واضح بشأن المقابر الجماعية التي تُعتبر جريمة حرب ولها أشكال مختلفة». ووفقه فإن «الغرض الرئيسي منها يكون لطمس الأدلة وإخفاء الجرائم من خلال دفن أعداد من البشر بشكل مخالف للقانون الدولي الإنساني، دون مراعاة للكرامة الإنسانية وحق المتوفين في أن يُدفنوا وفق شرائعهم».
يواصل يونس أن هذه المقابر في الأراضي الفلسطينية «تُعد جزءًا من الإبادة الجماعية». إذ تظهر على بعض الجثث المستخرجة «آثار إطلاق النار عليهم وهم مقيدون وتبرز تعرضهم للتعذيب. وتحتوي بعض المقابر الجماعية على مرضى، وأطباء، وطواقم طبية، ومواطنين·ـات.»
«كل هذه تعتبر جرائم حرب تستوجب الملاحقة القانونية. يجب على المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في ذلك وإصدار مذكرات اعتقال بحق من أمر بها ومن ينفذها» يختم الحقوقي.
بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1949 التي وقعت عليها إسرائيل، يتعين على أطراف النزاع اتخاذ التدابير الممكنة كافة لمنع أي عبث بجثث الموتى. ويدعو القانون الدولي الإنساني إلى احترام الموتى، بما في ذلك واجب منع العبث بالقبور وضمان التعرف على الرفات البشرية ودفنها بشكل لائق. كما يحظر القانون أيضاً التشويه والتدنيس وغير ذلك من أشكال عدم الاحترام للموتى. ويفرض على كل الأطراف اتخاذ كل التدابير لحماية مواقع الدفن؛ بما في ذلك تلك التي تحتوي على رفات أعداد كبيرة من الموتى.
في 26 جانفي/كانون الثاني 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية أول مجموعة من التدابير المؤقتة، بما في ذلك الأمر الموجه إلى السلطات الإسرائيلية باتخاذ «تدابير فعَّالة لمنع إتلاف الأدلة وضمان الحفاظ عليها». وتشمل هذه التدابير عدم منع أو تقييد وصول لجان تقصي الحقائق والبعثات ذات التفويض الدولي إلى غزة، للمساعدة في الحفاظ على الأدلة، في إطار القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل.
ونقلت وكالة رويترز في نهاية أفريل/نيسان 2024 عن مصدريْن، أن مدعين من المحكمة الجنائية الدولية أجروا مقابلات مع عاملين في مستشفى الشفاء، وهو المركز الطبي الرئيسي في مدينة غزة، ومع آخرين عملوا في مستشفى ناصر، المركز الطبي الرئيسي في خان يونس جنوبي القطاع. وكان ذلك أول تأكيد لتحدث محققين من المحكمة إلى مسعفين بشأن وقوع جرائم محتملة في قطاع غزة.
وقال أحد المصدريْن إن «أحداثاً وقعت في المستشفيات قد تصبح جزءاً من التحقيق الذي تجريه المحكمة، التي تنظر في قضايا جنائية ضد أفراد متهمين بارتكاب جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية، فضلاً عن الإبادة الجماعية والعدوان».