متوفر باللغة الفرنسية

أحمد، 45 سنة، نجار، 500 دينار في الشهر وحياة على حافة الهاوية



متوفر باللغة الفرنسية

"المستقبل يقلقني ولا أريد أن أفكر فيه. أفضل التفكير في الماضي". يشعر أحمد البالغ من العمر 45 عامًا بالقلق إزاء عائلته، ويكافح من أجل تغطية نفقاتها وكفايتها من خلال مدخول ورشته. عمل الرجل نجاراً طوال عمره، ولكن بتغير الزمن، صار يتعين عليه حاليا الوقوف صامدا أمام متاجر الأثاث الكبيرة التي تتكاثر يوما بعد يوم.

في نهاية يوم عمل مضنٍ، يوصد أحمد أبواب ورشته ويذهب إلى الشركة التونسية للكهرباء والغاز لخلاص فاتورته بعد يومين عاشتهما عائلته بلا ماء أو كهرباء. وجد أحمد نفسه مضطرًا للاقتراض من هنا ومن هناك ومع ذلك لم يتمكن من جمع سوى جزء بسيط من المبلغ المستحق. ولا يزال مدينا بمبلغ قدره 600 دينار.

أحمد صاحب ورشة نجارة في بلدة صغيرة في وسط تونس ويجني حوالي 500 دينار شهرياً. تتمثل وظيفته اليوم، وبشكل أساسي، في إصلاح الأثاث ذي الجودة الرديئة الذي يتم اقتناؤه من المتاجر المعروفة أو ترميم الأثاث القديم ويقول: "لم يعد لدي الكثير من الطاقة للعمل، ولكني أبذل قصارى جهدي". ولكن على الرغم من معيشته المتواضعة، فإنه يكافح لتغطية نفقات أسرته.

فيما يلي لمحة عامة على مداخيله ونفقاته الشهرية:

لم يعد أحمد يصنع الأثاث إلا نادرا، ولا يسعه إلا أن يتذكر بحنين بداياته جنبًا إلى جنب مع نجار متمرس في التسعينيات: "في ذلك الوقت كنا نصنع كل شيء، غرف معيشة كاملة، مطابخ، غرف نوم... كان النجار الذي عملت معه من أفضل النجارين، بئراً من المعرفة"،  يروي الأربعيني.

ينحدر أحمد من عائلة بسيطة الحال مكونة من 9 أطفال. انقطع عن الدراسة منذ المرحلة الإعدادية بسبب نقص الإمكانيات وبدأ العمل في ورشات النجارة في سن صغيرة جدًا ودون أجر. "لم يكن لدي خيار، كنت صغيراً ولم يكن لديّ مال، ولكن في بعض الأحيان كان أصحاب الورشات يعطونني بعض القطع النقدية". يعترف النجار بأنه لطالما كانت شخصيته متحفظة وخجولة للغاية ما مثّل له عقبة طوال حياته المهنية منعته من طلب أجر من رؤسائه في العمل. وبعد عدة سنوات ومحاولة فاشلة للانتقال إلى تونس، استجمع أحمد شجاعته وافتتح ورشة نجارة خاصة به غير أن طبيعته المتحفظة ظلّت تخذله.

"لم أنجح قط في حصد زبائن. كنت خجولًا جدًا للنقاش في الأسعار معهم ولم أكن أجرؤ قط على المطالبة بأجري كاملا. ولذلك غالبًا ما كنت أعمل بخسارة ".

حاول النجار أن يفرد جناحيه مرة أخرى بعد عام من ذلك. ولكن العلامات التجارية الكبيرة للأثاث صارت تتكاثر أكثر فأكثر منذ فترة مُغرقةً أحمد في الديون. "حاولت أخذ المبادرة في التواصل مع الناس وفرض نفسي، لكن الجميع كانوا يعرفونني جد المعرفة فلم يتغير شيء".

عمل أحمد لاحقا كنادل لمدة 6 أشهر قبل أن يتم توظيفه من قبل شركة أثاث كبيرة فانطلق آنذاك "في مرحلة جيدة بالنسبة لي براتب ثابت، وكنت أعمل بشكل جيد". وتمكن بفضل هذا الاستقرار المالي الجديد أن يقترن في 2008 بالمرأة التي أحبها لأكثر من 15 عامًا بعد أن رفضت عائلة الأخيرة هذا الزواج، لأنهم لم يروا فيه خيارا مناسبا لابنتهم.

حاول أحمد للمرة الثالثة بدعم من زوجته فتح ورشة في مسقط رأسه واتسم حينها "بكثير من الثقة بالنفس، وكنت دائمًا أطالب بتسبقة على الخلاص، رغم أنه ربما كان من الأفضل لو كنت أكثر حزما في بعض الأوقات". وكانت تلك الفترة من حياة الحرفي الأجمل على الإطلاق.

"سارت الوظيفة على ما يرام، وكان لدي طفلان جميلان وكنت أنعم بحب لا يتزحزح تجاه زوجتي. لم تكن الأمور المالية هاجسنا الأكبر".

وافت زوجتَه المنيةُ في عام 2017 بعد صراع مع السرطان، فسقط أحمد في هوة اكتئاب حاد. في الغالب، اعتاد أن يترك طفليه في منزل أسرته التي ظلت تدفعه للزواج مرة أخرى لأنه كان "بحاجة إلى شخص يعتني بأولادي" كما يقول. وفي عام 2020 تزوج مرة أخرى بإحدى معارفه من بعيد. وهو الآن يشعر بامتنان تجاهها "لأنها تعتني جيدًا بأولادي الذين يحبونها كثيرًا وأنا أكن لها احتراما جما".

يجني أحمد اليوم من ورشته ما يكفي بالكاد لدفع كراء منزله وشراء بعض الحاجيات التي تبلغ 430 دينارًا كل شهر وبالتالي ترتفع مصاريفه إلى 762 دينارا شهريا. ولهذا السبب يرزح تحت ديون تصل إلى 600 دينار استلفها لسداد فواتير الماء والكهرباء مثلا، وكثيرا ما يعتمد على مساعدة الأسرة. وعلى الرغم من كل الضوائق المادية، قرر الرجل إلحاق طفليه بمدرسة خاصة تكلّفه 160 دينارًا شهريًا بالإضافة إلى 60 دينارًا ينفقها على ملابسهما ومستلزماتهما الأخرى. لا يشتري هو وزوجته لنفسيهما الكثير، فقط بطاقات شحن الهاتف بين الحين والآخر. 

تأخذ زوجته الأطفال بانتظام إلى والديه، خصوصا إذا ازداد الوضع المالي لزوجها سوءًا. بينما لا يتيح أحمد لنفسه سوى متعة وحيدة في الحياة ألا وهي احتساء القهوة كل صباح قبالة ورشته. أما في الصيف، فيأخذ إجازة صغيرة هو وأسرته يقضيها مع عائلة أصهاره.

فيما يلي نظرة مفصّلة على مداخيله ونفقاته الشهرية:

المنطقة الرمادية

تعاني ورشة أحمد من قلة الحرفاء. "الخشب اليوم للأثرياء!" يجادل النجار "لم يعد بإمكان الناس العاديين والفقراء الوصول إليه". لم يعد لديه إذن متسع للمناورة فوجد نفسه مجبورا على طلب قرض وإلا فلن يقبل عليه أي حرفاء. وليس ذلك حاله وحده، فمع ظهور شركات الأثاث الحديثة الكبيرة، اختفى النجارون تدريجياً باستثناء عدد قليل في الأحياء الشعبية أو في بعض المدن الداخلية حسب قوله.

"يقلقني هذا الوضع كثيرًا. كيف سأعول عائلتي؟ لا أستطيع في كثير من الأحيان دفع إيجار المحل أو المنزل".

يعترف أحمد بأنه صارت تعوزه الطاقة والقوة للبحث عن وظائف أخرى أو وسائل للاسترزاق. وأصبح يفكر في الانتقال إلى جوار أصهاره رغم اعتقاده أن وضعه الاقتصادي لن يتغير نتيجة لذلك. وفي الأثناء، لم تعد مساعدة الأسرة كافية وباتت ديونه تتراكم.

المستقبل

"أود العودة إلى العمل ولكن لا يمكنني شراء الخشب الذي أحتاجه، ولا المعدات. لا شيء يسعدني بعد الآن"، يقول الحرفي نظرا لأن كل الحلول التي يتصورها تتطلب وسائل مالية وطاقة لا يمتلكها.

"المستقبل مظلم للغاية. لقد بدأت صغيراً وغافلني العمر".

لا يزال أحمد يعلق آماله على تعليم أبنائه ولكنه محصور في زاوية بين الحنين إلى الماضي ومستقبل موحش، لا يرى من أيّهما نهايةً للنفق. "أود أن أنضم إلى زوجتي حيثما كانت وأنعم أخيرا بالهدوء، لكنني أفكر في أطفالي ولذلك أبقى. المستقبل يقلقني، أفضل عدم التفكير فيه. أفضل التفكير في الماضي ".