هبة، 29 سنة، مسؤولة تسويق وطالبة دكتوراه، 1250 دينار في الشهر



20 جوان 2021 |
علاوة عن عملها كمسؤولة تسويق وتسجيلها في رسالة الدكتوراه وما يستوجبه ذلك من ساعات البحث الطويلة وحضور دروس الجامعة، تحمل هبة على عاتقها مهمة التصرف في شؤون العائلة. نادرا ما تأخذ قسطا من الراحة من العبء المادي والذهني الناجم عن مسؤولية تغطية حاجيات أمها وأبيها، والمضي قدما نحو حلمها بنيل شهادة الدكتوراه.

عادت هبة إلى الإقامة مع أمها وأبيها المتقاعدين بمدينة قرمبالية، إثر تحصّلها على شهادة ماجستير البحث في علوم التسويق من معهد الدراسات التجارية العليا بصفاقس. تقول الشابة البالغة من العمر 29 عاما: "أنا مولعة بدراسة علوم التسويق، وفهم الميولات الاستهلاكية. لذلك قررت مواصلة تعميق البحث العلمي وتقدمت بمشروع بحث لنيل شهادة الدكتوراه بكليّة العلوم الاقتصادية بتونس".

فور تحصّلها على شهادة الماجستار نهاية سنة 2019، انطلقت في رحلة البحث عن عمل. لم يكن الأمر هيّنا، خاصة مع حلول جائحة كوفيد-19 التي أنتجت أزمة اقتصادية تضاءلت معها فرص التّشغيل. 

بعد سنة كاملة من البحث والانتظار وقع انتدابها كمسؤولة استراتيجيات التسويق في مكتب دراسات بالعاصمة في ديسمبر 2020. لكن ذلك لم يدم طويلا، فقُبيل انتهاء فترة الاختبار القانونية، وبمجرّد قبول كليّة العلوم الاقتصاديّة بتونس طلب ترشحها لدراسة الدكتوراه، تعللت مديرتها في العمل بعدم قانونية وضعيتها الجديدة وألغت عقد عملها. لتجد نفسها مجددّا دون مصدر دخل قار.

"كنت مجبرة على اتخاذ القرار المناسب بسرعة، مع الأخذ بعين الإعتبار عديد العوامل وليس فقط طموحي المهني أو الأكاديمي. أريد المضيّ قدما في البحث العلمي في الجامعة. لكن في المقابل، ليس لي أي دخل قار منذ سنوات والمهن الصغيرة والموسمية التي كنت أعتمد عليها لم تعد كافية لتغطية مصاريفي ومصاريف العائلة، خاصة بعد أن اتخذ أبي قرار الانقطاع عن العمل".

يبلغ والد هبة 67 سنة. كان يعمل مدربا لتعليم السياقة طيلة حياته. مع تقدّمه في السنّ وهوان عوده، وخاصة مع انتشار جائحة كوفيد-19 وخشيته من انتقال العدوى نظرا لطبيعة عمله، صار من المستحيل على الأب مواصلة العمل بنفس النسق. ولأنه لا يتمتع بمنحة تقاعد، بات من الحتميّ أمام هبة أن تبحث عن عمل قار مع محاولة التوفيق بين عملها ودراستها.

لاحقا في مطلع شهر أفريل 2021، استّهلت العمل كمسؤولية تسويق بشركة مختصة في المعدّات المكتبية والمدرسية بمدينة نابل. أعادت الوضعية الجديدة بعض التوازن إلى الوضعيّة المادية للعائلة، لكنّها عقّدت كثيرا إمكانية تفرغها للدراسة. فعلاوة على ساعات البحث عن المراجع والقراءة وبعض الكتابة التي تستوجبها المرحلة الأولى من إعداد رسالة الدكتوراه، على الطالبة أن تتنقّل إلى المركّب الجامعي بالمنار كل يوم اثنين من أجل الدروس الحضورية الإجبارية.

"لو كانت المنحة الجامعية للدكتوراه تكفيني من أجل العيش، لما كنت بحثت عن عمل آخر. كنتُ أفضّل أن أكون فقط باحثة في الجامعة. لكني وجدت نفسي منهكة تماما. مع العمل من الثامنة صباحا الى الخامسة مساء كل يوم، أتحمل أعباء النقل العمومي لمدة 3 ساعات تقريبا في اليوم ولا اجد الوقت للبحث والدراسة " 

تتلقى هبة مرتّبا شهريا قدره 650 دينار ولا تتمتّع بأي تغطية اجتماعية. تفسر: "كنت مجبرة على الطلب من مديري في العمل عدم دفع أقساط التغطية الاجتماعية لأتمكن من الحصول على المنحة الجامعية". ذلك أن القانون "يمنع التمتع بمنظومتين مختلفتين للضمان الاجتماعي" على حدّ قولها. لكنّها لم تتلقّ المنحة الجامعية إلى أواسط شهر جوان.

في الواقع، يتلقّى طلبة الدكتوراه في الجامعة منحة قدرها 250 دينارا شهريّا. لكنّها تصرف، على حدّ تعبير هبة على قسطين أو ثلاثة. تقول هبة: "قمت بالترسيم في الجامعة بعنوان السنة الجامعية2020/2021 في وقت متأخر". وتواصل: "تقدّمت على إثر ذلك بطلب الحصول على منحة. ولكن بسبب ذلك التأخير لم أتحصل على الدفعة الأولى، وعلى الأرجح سيصرفون المبلغ السنوي كاملا لأن السنة الجامعية شارفت على النهاية".

هبة هي الإبنة الثالثة في العائلة بعد أختين كبيرتين، إحداهما متزوّجة وتعمل في شركة صناعية، فيما تقطن الأخرى في العاصمة حيث تعمل كصحافية. ولها كذلك أخ صغير يواصل دراسته مساءً في مرحلة تكوين المهندسين -اختصاص البرمجة والإعلامية- بالتوازي مع عمله في العاصمة. تساهم الأختان والأخ بحوالي 350 دينارا في نفقات العائلة الشهرية.

تقول هبة:"لأختيّ وأخي التزامات وديون وتكاليف دراسة وإيجار أيضا. كان على كل فرد من هذه العائلة تحمل أعباء دراسته أو زواجه بنفسه، وهو مايحملنا جميعا ديونا، ويجعل المساهمة بمبلغ أكبر مستحيلة". من جهتها تتلقى الأم البالغة من العمر 64 عاما منحة تقاعد تقدّر بـ 250 دينار شهريا.

فيما يلي لمحة عن مداخيلها ومصاريفها الشهرية: 

تجمع هبة، منذ أشهر قليلة مرتّبها الشهري ومنحة تقاعد أمها مع مساهمات أختيها وأخيها. ومن ثمة تعيد توزيعها حسب أولويات الأكل والشرب والعناية الطبية، بعد خلاص المعاليم الشهرية القارة. فهي من تدفع ثمن كراء المنزل الذي تستأجره العائلة والذّي يقدّر بـ390 دينار شهريا.

تدفع هبة كذلك فواتير الكهرباء التي قدّرتها بـ50 دينار. في العادة لا يتعدّى معدّل استهلاك العائلة من الماء 30 دينار شهريّا. غير أنه منذ أشهر، تلقت العائلة فاتورة استهلاك بقيمة 4000 دينار. ذعرت الشابة من ارتفاع المبلغ وتوجهت بنفسها بالاعتراض لدى الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه مُعلِمة عن وجود تسرّب في قنوات الماء. الأمر الذي تطلب التدخل التقني للشركة التي تتكفل الآن بإصلاح التسرب وتعديل الفاتورة. إضافة إلى كل ما سبق، تتولى هبة خلاص المكالمات الهاتفية لأمها وأبيها والتي تقارب 20 دينار شهريا. أما هبة، وبحكم طبيعة عملها، تتكفل الشركة مسبقا بدفع ثمن مكالماتها الهاتفية. 

"أحيانا أستشير أمّي في بعض المصاريف، لكنني في الغالب من تتحمّل مسؤوليّة التصرف في موارد العائلة وإدارة شؤونها اليومية".

تحدد هبة قائمات مستلزمات الأكل ومواد التنظيف والبقالة آخر كلّ أسبوع، وتشتري بنفسها من السوق كلّ مستلزمات المنزل. تتكلّف مصاريف الأكل والبقالة قرابة 100 دينار في الأسبوع أي ما يعادل 400 دينارا في الشهر. بينما تتكلّف مواد تنظيف المنزل 40 دينارا ومواد النظافة الشخصية لها، ولأمها وأبيها 20 دينارا شهريّا. تحرص الفتاة على اقتناء جميع الحاجيات بأقلّ سعر ممكن، وتجوب لذلك السوق الأسبوعية للمدينة ومحلات البيع بالجملة وتقتنص عروض التخفيضات في المحلات التجارية.

يُضاف إلى هذه النّفقات، مصاريف جديدة لاقتناء ملازم الوقاية من الجائحة من أقنعة ومحاليل التطهير والتعقيم، التي تتكلّف 30 دينارا في الشهر لثلاثتهم·ن. ذلك أنّ الأب والأم لا يخرجان من البيت إلا في حالات قصوى مخافة التعرّض للعدوى.

صباح كلّ يوم اثنين، تقصد هبة العاصمة من أجل الدروس الحضورية في كلية العلوم الاقتصادية بالمركّب الجامعي بالمنار. يكلّفها ذلك 10 دنانير أسبوعيّا. بينما تمشي باقي أيام الأسبوع، من الثلاثاء إلى السّبت، لمدّة 25 دقيقة كل صباح للوصول إلى محطّة سيارات الأجرة حيث تستقل سيارة "لواج" نحو مدينة نابل. تعاود هبة المشي على قدميها نحو عملها في نابل لمدة 25 دقيقة أخرى. كانت تودّ لو تستقّل سيارة أجرة جماعية للذهاب إلى الشركة، لكن إضافة معلوم سفرة واحدة أي 700 مليما يثقل كاهل ميزانيّتها. 

"قد أضطر في الحالات القصوى أنّ أستقّل سيارة أجرة فردية، أو جماعية في نابل كي لا أتأخرعن أوقات العمل. لكني أحاول قدر الإمكان تفادي ذلك. إذا لم أفعل ذلك، فسأدفع نصف راتبي الشهري في مصاريف النّقل. لذلك أفضّل الإستيقاظ باكرا والمشي على الأقدام لتوفير المال".  

لا يتنقّل الأم والأب كثيرا. ولا تتجاوز نفقات تنقّلهم الـ20 دينارا. في المقابل يدخن الأب يوميا علبة سجائر كاملة بكلفة 126 دينارا شهريا. 

الأم هي الفرد الوحيد في العائلة اللي تتمتع بالتغطية الصحية القانونية، وتسترجع من قبل صندوق التأمين على المرض أكثر من نصف مصاريف علاجها. لذاك فهي تعدّ الوحيدة التي تتمتع بعناية طبية مسترسلة. تفرح هبة بذلك لاسيّما وأنّ أمها تعاني من ارتفاع ضغط الدّم المزمن. الأمر الذي يجبرها على اقتناء الأدوية اللازمة والقيام بالفحوصات الدّورية كلّ 6 أشهر. يكلّف ذلك ميزانية العائلة قرابة 45 دينارا شهريا.

لا يتبقّ الكثير من الدّخل الشهري القارّ ليغطّي باقي الحاجيات. فتلجأ الشابة حصرا إلى سوق الملابس المستعملة من أجل اقتناء ملابسها وملابس أمها وأبيها ويكلّفها ذلك 50 دينارا. في حين تقتصر نفقات مواد التجميل ومستحضرات العناية بالبشرة والشعر الخاصة بها على 20 دينار.

تخرج هبة مع أختيها وأخيها مرّة واحدة كلّ شهر لشرب القهوة أو الأكل، ولا يكلّفها ذلك غير 10 دنانير. ويعتبر هذا الموعد الشهري مصدرها الوحيد للترفيه بالإضافة إلى الزيارات العائلية التي تحبها وتعتبرها ممتعة.

فيما يلي تفاصيل مداخيلها ومصاريفها الشهريّة: 

المنطقة الرمادية

تحاول هبة جاهدة الوصول إلى حالة توازن تجمع بين تلبية حاجياتها الشخصية مما يمكّنها من تحقيق طموحها، وبين ضمان تواصل تلبية حاجيات أمها وأبيها من نفقات أساسية. تبذل في سبيل ذلك مجهودا جسديا وذهنيّا وعاطفيّا كبيرا. تقول: "أقضي أغلب وقتي في حساب حجم النفقات واستنباط طرق لتغطيتها. يشغل ذلك ذهني طوال الوقت ويمنعني أحيانا من النّوم، ومن التركيز على الدراسة".

"حاليّا أنا عاجزة عن تغطية النفقات الأساسية. أجبر آخر أيام كل شهر على استعارة بعض المبالغ من أخي أو زميلاتي في العمل من أجل هذه النفقات".

تأجّل بذلك كلّ تفكير في التّخطيط لقضاء عطلة أو القيام بأيّ نشاط ترفيهي. تأجّل حتى القيام بالعديد من الفحوصات الطبية أو العلاج. في الواقع هي تنتظر استيفاء الإجراءات الإدارية من الكليّة حتى تستعيد التغطية الصحيّة الخاصة بالطالبات والطلبة لكي تستأنف العلاج الطبيعي الذي تستوجبه عيناها.

تقول هبة عن ذلك: "لم أقدر حتى على اقتناء اشتراك إنترنت للمنزل، في حين أنّة ضروري للدّراسة. ذلك أنني أجد نفسي آخر كلّ شهر أمام حتمية صعوبة تغطية مصاريف الأكل والشرب"

بالإضافة إلى هذا الضّغط النفسي المتواصل، تحرص هبه أيضا على ضمان جوّ عائليّ محبب وسعيد لأمها وأبيها. وتخفف عنهما عبء تداعيات الجائحة، واجبارية التزامهم البقاء في المنزل. تطالب مقابل ذلك ساخرة بضرورة التقدير المادّي لما تقوم به من مجهود نفسي أيضا.

المستقبل 

تنتظر الطالبة الشابة المنحة الجامعية بفارغ الصبر علّها تساهم في انفراج أزمتها المادية. لكّنها تعلم أنها لن تضمن لها التوازن المنشود. ذلك أنّها لو كانت كافية لما اضطرت إلى العمل أصلا.

تعلّق هبة: "الوضعيّة المادية للعائلة مرتبطة بوضعيتي المادية. أمي وأبي توقفا نهائيّا عن أي نشاط اقتصادي نظرا لتقدّمها في السّن". تأمل هبة في تجاوز الوضعية الصحية والاقتصادية المعقدة بكامل البلاد، علّها بعد سنة من الخبرة، تتمتع بعلاوة في راتبها أو تتحصل على عمل آخر بمرتّب أفضل.

في الوقت ذاته تواصل هبة البحث من أجل الحصول على منحة دراسية من جامعة أجنبيّة تضمن لها التفرّغ الكليّ للبحث. فهي لا تنسى البتّة حلمها في أن تصبح باحثة وأستاذة جامعية في علوم التسويق.