عندما تعجز الأمم المتحدة عن التصدي للفضائح الجنسية

مئات الاتهامات بارتكاب انتهاكات وأعمال عنف ذات طابع جنسي تعلقت في السنوات الأخيرة بموظفي الأمم المتحدة العسكريين والمدنيين المشاركين في مهمات حفظ السلام. هذه الفضائح المتواترة تضرب مصداقية المنظمة الدولية. وعلى الرغم من كل الوعود بتطبيق سياسة "صفر تسامح" فإن عدد الضحايا في ازدياد. سنغوص في أعماق هذه الآلة التي تحسن إدارة الإفلات من العقاب. هذا التحقيق ينشر في إطار عملية "صفر افلات من العقاب".
بقلم | 07 مارس 2017 | reading-duration 3 دقائق

متوفر باللغة الفرنسية

دالفين بوي و هيلان موليناري | رسوم : داميان رودو | رامي عبد المولى من فريق السفير العربي
2017/03/07
“اتصلي بكامي* وقولي له إنك صديقة من الجامعة. تحدثي إليه بالفرنسية. هو ينتظر مكالمتك”. كاميل هو موظف في منظمة الأمم المتحدة منذ عشر سنوات. وافق على الالتقاء بنا في مانهاتن على الجهة المقابلة لمقر المنظمة الدولية. طيلة أربع ساعات، سيكشف لنا كامي عن إشكال الخلل الوظيفي المتعددة في الجهاز التأديبي الداخلي الذي ينتمي إليه. هذا الجهاز يفترض به أن يحقق ويقر عقوبات في قضايا العنف والاعتداء الجنسي التي يتورط فيها موظفون من الأمم المتحدة. لأنه ورغم النوايا النبيلة الهادفة إلى النهوض بحقوق الإنسان – والنساء – فإن فضائح الانتهاكات الجنسية التي يقترفها عناصر قوات “القبعات الزرقاء” أو الموظفون الأمميون تصبغ التاريخ المعاصر للمنظمة.

حسب “التقرير التقييمي لجهود الإحاطة في حالات الاستغلال والانتهاك الجنسي المتعلقة بموظفي بعثات السلام” الصادر في أيار / مايو 2015 فإنه تم احصاء 480 اتهام بارتكاب انتهاك في الفترة الممتدة ما بين 2008 و2013. كل المعطيات تدفعنا للاعتقاد بأن هناك عدداً كبيراً من الحالات لم يتم التبليغ عنها وإحصائها.

البوسنة، تيمور الشرقية، كمبوديا، ليبيريا، غينيا ومؤخراً هايتي وجمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية: القائمة طويلة. “في حين يفترض بقوات حفظ السلام أن تحمي الأهالي، كما تذكّر بذلك عالمة الاجتماع فانيسا فارغنولي، فإن هناك بعض المنظمات التي لاحظت أن عدد حالات الاغتصاب يزداد في ظل وجود عسكري”.

وكل فضيحة جديدة يصحبها سيل من الوعود. في 2005 فضح تقرير الأمير زايد (مستشار الأمين العام للأمم المتحدة) ممارسات الاستغلال والانتهاك الجنسي التي يقوم بها موظفون تابعون للأمم المتحدة. كان للتقرير أثر القنبلة. لكن وبعد إحدى عشر سنة من صدوره تقريباً لم يتم تفعيل أي إجراء من الإجراءات المقترحة في التقرير. هذا رغم أن قواعد حسن السلوك المفروضة على أفراد البعثات الستة عشر والتي تضم في صفوفها 120000 عامل (100000 قبعات زرقاء، عسكريون، مدنيون) لا لبس فيها: “صفر تسامح” في حالات الاستغلال والانتهاك الجنسي، الامتناع عن إقامة علاقات الجنسية مع مومس أو مع شخص سنه دون 18 سنة، تجنب العلاقات الجنسية مع المنتفعين بإحاطة الأمم المتحدة.

لكن على الميدان تختلف الأمور كما تقول فانيسا فارغنولي. فالذكورة المتضخمة والذكورية واحتقار النساء يضاف لها ضعف الدول المضيفة والشعور بالقوة المطلقة والعنصرية، كلها أمور تجعل من قواعد حسن السلوك حبراً على ورق. هذا الوضع يشجع على “استغلال النفوذ الذي يأخذ شكلاً جنسياً”.

الناشطون في المنظمات الإنسانية وحتى الموظفون الأمميون متفقون ويتحدثون – بشكل غير رسمي – عن “غرائز جنسية منفلتة” و”سقوط للمعايير الأخلاقية”.

قضية فيكتوريا الشائكة

في سنة 2010 وصفت مارغو والستروم الممثلة الخاصة للأمم المتحدة، جمهورية الكونغو الديموقراطية بأنها “عاصمة الاغتصاب في العالم” وذلك أمام أعضاء مجلس الأمن الخمس عشر وبعد زيارة قامت بها للبلاد. أرادت الموظفة السامية أن تلفت انتباه الديبلوماسيين. هؤلاء يجهلون في المقابل أن الكونغو هي أكثر بلد توجه فيه اتهامات للموظفين الأمميين: 45 في المئة من حالات العنف التي تم تسجيلها ما بين 2008 و2013، ثلثها يتعلق بأطفال قصر.

في سنة 2012 قامت فيكتوريا فونتان التي كانت حينها أستاذة في جامعة السلام في كوستاريكا ببحث جامعي حول جمهورية الكونغو الديمقراطية. سمعت فيكتوريا عن قصص عمليات اغتصاب اقترفها أفراد من “مونوسكو” (بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية) وقررت أن تحقق في الأمر. قابلناها بعد مرور أربعة سنوات على التحقيق الذي أجرته. تغيّرت حياة الباحثة منذ ذاك الحين لكنها مازالت تتذكر جيداً تلك الفترة.

خلال الأشهر الثلاثة التي قضتها في استجواب الضحايا في الكونغو، اكتشفت فيكتوريا فونتان حالتين لم تحقق فيهما الأمم المتحدة أبداً. تتعلق الحالة الأولى بفتاة قاصر اغتصبت وضربت عدة مرات من طرف خمسة جنود منهم ثلاثة أفراد من المونيسكو. حملت الفتاة من أحد مغتصبيها وخسرت طفلها بعد يومين من ولادته. أما في الحالة الثانية فتتعلق بفندق قضت فيه فيكتوريا فونتان ثلاثة أيام خلال زيارتها لمدينة “أوفيرا”. هذا الفندق بمثابة وكر دعارة يقدم خدماته لموظفي المونوسكو. تحدثنا عبر الهاتف إلى مرافق فيكتوريا فونتان الكونغولي (دليل ومترجم) وروى لنا كيف ادعت هي أنها “حلاقة” في حين ادعى هو أنه مستثمر.

يتذكر محدثنا حرفاء الفندق: “عسكريون ذوو رتب عالية يمكنهم دفع إيجار غرفة على بعد أمتار من معسكرهم كي يقضوا بضعة ساعات أو ليلة بأكملها”.

وتحدث أيضاً عن “تحركات مشبوهة في الفندق”، لكنه يقول إنه “لم يكن باستطاعتنا رؤية ما يحدث في الغرف لأنه لا توجد آلات كاميرا”. بعد أن سألت مدير الفندق الذي أكد لها صحة الشهادات التي جمعتها وملاحظاتها الخاصة، كتبت فيكتوريا فونتان تقريراً أكدت فيه أن أفراداً من القبعات الزرق وموظفين أمميين – منهم طيارين روس- استمتعوا بخدمات مومسات من بينهم قاصرات. كتبت أيضاً مقالاً في جريدة كولومبية لكنها لم تستطع لفت الانتباه إلى اكتشافاتها.

قررت فيكتوريا أن ترسل أبحاثها إلى صحفي كندي من معارفها. قام هذا الأخير بنشر مقال بالإنجليزية في موقع “غلوب اند مايل” تحت عنوان “عندما يفقد القبعات الزرق عقولهم: إلى متى ستستمر الأمم المتحدة في تجاهل الانتهاكات؟”. في هذه المرة تجاوبت المنظمة الدولية. وتم الاتصال بفيكتوريا فونتان من قبل كارمن لابوانت المسؤولة عن مكتب أجهزة المراقبة الداخلية. أنشأ هذا الجهاز سنة 1994 ومهمته التحقيق في حالة الاشتباه في وجود تحايل أو فساد أو انتهاكات جنسية أيضاً. الذكريات التي تشاركتها معنا كارمن لابوانت في تشرين الأول 2016 متداخلة. فهي تعتقد أن “مكتب نيروبي” حقق في الحالات المشار لها ولكن لم يتم التوسع في التحقيق نظراً لعدم توفر عناصر كافية.

الرد المكتوب الذي قدمه الجهاز الإعلامي لقسم عمليات حفظ السلام محير أكثر: “علمنا أنه خلال الوقت الذي استغرقه نشر المقال تم إغلاق الفندق المشار له في التقرير. المعلومات التي يتضمنها المقال غير كافية لكي يتم الإذن بفتح تحقيق إضافي”. في نيويورك هناك رواية ثالثة يوردها مدير فرع التحقيقات في الأمم المتحدة: “بالعودة إلى ملفاتنا استطعنا التعرف على خمس حالات لها نقاط تشابه مع الحالات المذكورة في التقرير لكن دون أن يكون هناك تطابق. لا أستطيع إذاً أن أجزم إذا ما كنا قد حققنا في هذه الحالات أم أننا استبعدناها”.

ملخص الأمر: بعد خمسة سنوات من الوقائع لا نجد اليوم أي أثر ملموس لبداية تحقيق في أرشيف منظمة الأمم المتحدة التي تتمادى في سياسة الالتباس…

تعتبر فيكتوريا أن القضية وقع دفنها وتقول: “ردة فعلهم الأولى كانت القول بأنني لم أذهب أبداً إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية. ثم ماطلوني طيلة أسابيع و أوهموني أنني سأشارك في التحقيق. بعد فترة من الزمن انقطعت أخبارهم ولم يتصلوا بي إلا مرة واحدة لكي يعرضوا عليّ مهمة استشارية..”. لم يستمع أحد إلى شهادة فيكتوريا ولم تطلب منها ملاحظاتها. بالنسبة للضحايا المحتملين وحسب علمنا لم يتصل بهم محققو الأمم المتحدة أبداً. أما الفندق فما يزال موجوداً ويعمل. التعليقات التي يكتبها مرتادوه على صفحة موقع الأسفار “تريب ادفيزور” مشجعة جداً. في المقابل يصعب أن نعرف إذا ما كان موظفو الأمم المتحدة يواصلون التردد على الفندق.

قضية فيكتوريا أبعد من أن تكون الوحيدة التي اختفت في البرزخ الإداري للأمم المتحدة. في نهاية متاهة مكاتب نيويوركية استقبلنا سيلفان روي الإطار السامي في “مجموعة الأخلاقيات والانضباط”. هذا المكتب مكلف بجمع وتقييم كل الشكاوى التي تتعلق بـ”سلوكيات سيئة” انتهجها موظفون أمميون. يقول سيلفان روي: “نقرر إذا ما كانت هناك معلومات كافية أو لا للبدء في تحقيق استقصائي. إذا لم يكن المتوفر لنا كافياً نطلب حينها من موظفينا الموجودين على عين المكان أن يحاولوا جمع تفاصيل إضافية”.

الوحدة التي ينتمي لها سيلفان روي تتكوّن من حوالي 70 عنصرا (يعملون في مكاتب نيويورك وعلى الميدان) مكلفون بمراقبة أكثر من 120000 شخص.

حسب تقديراته هناك ما بين 400 و 500 اتهام بانتهاج “سلوكيات سيئة” ترد على المكتب سنوياً، 15 في المئة منها تتعلق باعتداءات جنسية (تقريباً 75 حالة سنويا). يؤكد سيلفان أن أغلب الاتهامات يتم التحقيق فيها.

لكن كم هناك من شكوى تم استبعادها حتى قبل أن يتم تقييمها من طرف فريقه؟ كم من شكوى وضعها مكتب الأخلاقيات جانباً “لنقص في الأدلة؟” لم يستطع أحد أن يمدنا بالأرقام الصحيحة، الشيء نفسه حتى بالنسبة للتقارير.

“كل هذا يبقى ذاتياً جداً، ينسب تييري (الذي يفضل الحفاظ على سرية هويته) وهو ناشط في الحقل الإنساني كان قد قضى سنتين في جمهورية إفريقيا الوسطى. يبقى الأمر مرتبطاً بقائد فريق الانضباط في المهمة وبإرادته السياسية وإذا ما كانت له الشجاعة الكافية لفتح تحقيقات صعبة وطويلة جداً بما في ذلك بالنسبة للضحايا..”. يؤكد تييري أنه تقريباً في كل حالات الاعتداء لا تنقل الاتهامات إلى “مجموعة الأخلاقيات والانضباط” بل إلى منظمات غير حكومية طبية أو وطنية موجودة على عين المكان. هذه المنظمات “ليس لديها أي رغبة في تشارك المعلومات مع الآخرين حتى لا تفقد إدارة الملف” وتفضل إذن أن تتكفل هي ذاتها بحالات الانتهاك والاعتداء الجنسي.

إذا ما عبرت الشكوى من مصفاة مجموعة الأخلاقيات وإذا ما قررت هذه الأخيرة أن هناك عناصر كافية لفتح تحقيق يتم حينها نقل الملف إلى مكتب مراقبة الأجهزة الداخلية. مدير فرع التحقيقات يقرر هو بدوره هل سيتم التحقيق أم لا. لكن كارمان لابوانت التي ترأست مكتب مراقبة الأجهزة الداخلية من 2010 إلى 2015 تقول:

“لم نتلق أبداً ملفات حول حالات سوء سلوك خطرة”.

استشراء عدم الكفاءة

إذا ما كانت “مجموعة الأخلاقيات” تشكل عقبة أولى فهذا لا يعني أن مكتب مراقبة الأجهزة الداخلية أكثر نجاعة. بالنسبة لكاميل “الهدف هو القيام بتحقيقات صورية. المهم أن يتواجد المحققون في مكان ما ويقلقون الناس قليلاً ثم لا يجدون شيئاً”. كما هو الحال بالنسبة لمكتب الأخلاقيات، بعض الشكاوى توضع جانباً اعتماداً على الحدس أو التقييم الشخصي. “إذا ما تلقينا تقييماً أولياً يخبرنا بأن هوية مقدم الشكوى مجهولة أو أنه لا توجد أدلة كافية فلا يمكننا أن نفعل شيئاً ذا قيمة”، كما تسلم بذلك كارمن لابوانت. في سنة 2015 وحسب الأرقام الرسمية، من جملة سبعة وستين شكوى لم يتم التحقيق إلا في سبعة عشر حالة. تم اثبات صحة الادعاء في سبعة حالات وسقطت عشرة حالات لنقص الأدلة أو “التفاصيل”. “هذا يمثل عدداً كبيراً من الاتهامات سنوياً” كما تقر بذلك منظمة الأمم المتحدة.

على الميدان تظهر وسائل التحقيق غير متلائمة مع حالات الانتهاك الجنسي، بل يمكن حتى أن تشكل عنفاً إضافيا بالنسبة للضحايا. يسمي كاميل هذه الاستجوابات بمقابلات قائمات التثبت:

“يتم تحضير قائمة من الأسئلة المعدة سلفاً ثم توضع علامات في خانات بدون فهم بسيكولوجيا الضحايا. إذا ما قدم لنا الشاهد معطيات مهمة لا يتم التعمق فيها”.

تقنيات تحقيق فاشلة

في تفريغات الاستجوابات التي وصلتنا نجد أن محققة تصرّ على معرفة الطريقة التي أصيبت بها فتاة قاصر من هايتي بمرض السيدا، رغم أن هذا الأمر ليس له أي علاقة بعملية اغتصابها المحتملة. في تحقيق آخر نجد أن المحققة نفسها ورغم الشكوك القوية بأن المشتبه به في حالة سكر تكمل إجراءاتها دون أن تبدي قلقها من الأمر. يستنكر كاميل هذا النقص في التخصص والخبرة الذي لاحظته أيضاً فرانسواز بوشيه-سولنييه المديرة القانونية لمنظمة أطباء بلا حدود.

مثلما حدث في جمهورية أفريقيا الوسطى خلال صيف 2015 عندما أراد محقق أن يصوّر فتاة معتدى عليها وهي عارية تماماً، “بحجة إظهارها (الصورة) لطبيب كي يحدد سنها. كان الأمر صادماً وغير لائق بالمرة.”أو عندما تم استقدام فتى قاصر تم اغتصابه إلى القاعدة العسكرية ووضع أمام الجنود لكي يتعرف على مغتصبه. تتذكر فرانسواز الحادثة:

“قال المحققون سنرى إن كان سيتعرف على واحد من الجنود”. اعتبر الفتى الأمر مواجهة مع المعتدي عليه فعاش صدمة بشعة”.

عندما اتصلنا في شباط 2017 بالسيد “بن سوانسون” مدير فرقة التحقيق في مكتب مراقبة الأجهزة الداخلية نفى تماماً حدوث هذه الممارسات: “أؤكد وبصفة قطعية أن المكتب لم يلتقط صورة لضحية عارية.” مهما كانت حقيقة الأمر فإن المحققين الذين يطرحون أسئلة كثيرة “لإشباع فضولهم” يجدون أنفسهم مطرودين كما حصل مع بيتر غالو الذي عمل محققاً من 2010 إلى 2015 قبل أن يصبح مُطلق إنذارات.

“نادرة مثل الزهور على جبال الجليد”

حاول بعض العاملين في الأمم المتحدة فضح هذه الممارسات اعتقاداً منهم بأن ما يقومون به يصب في مصلحة المنظمة. لكن أن تحظى بحماية المنظمة فتلك معركة طويلة، قلة هم من ينتصرون فيها. في أغلب الأحيان ما يحصل هو العكس، فيحظى مطلقو الإنذارات بمرافقة شخصية نحو باب الخروج. يُشكَّك في قدراتهم ولا تُجدَّد عقودهم. وحسب المنظمة غير الحكومية “مشروع محاسبة الحكومات” التي تقدم الحماية لمطلقي الإنذارات وتوفر لهم مساعدة قانونية فإن “99 في المئة من الموظفين الذين حاولوا الحصول على دعم الأمم المتحدة منذ 2006” لم يتمكنوا من ذلك.

هذا رغم أن “قواعد السلوك في الوظيفة العمومية الدولية” تقول “إن من واجب الموظف الدولي أن يُشعِر السلطة المختصة بكل خرق لقواعد وتراتيب المنظمة” وأن “له الحق في أن تتم حمايته من أي عمل انتقامي محتمل”.

استدعيت كارولين هانت-ماتاس المحققة في مجال حقوق الإنسان للتقصي في حالة اغتصاب تعرضت لها لاجئة سيريلانكية قاصر على يد موظف أمميسنة 2003.

“قرر ممثل الأمين العام أنه ليس هناك اغتصاب بما أن الفتاة لم تبكِ عندما كان يستجوبها. مضيفا مخاطبا ايايَ: “لا أريدك أن تأتي”.

لم تطعه كارولين وأكملت عملها الاستقصائي: هي متأكدة أن الفتاة تم اغتصابها. لكنها وجدت نفسها أمام جملة من العراقيل التي يضعها التسلسل الهرمي للمسؤولين. على حد علمنا لا أحد يعرف مصير الملف.

لم يتم تجديد عقد كارولين هانت-ماتاس أبداً: “في البداية ساندني المشرفون عليّ وقمت بتوثيق العراقيل التي اعترضتني. لكن شيئاً فشيئاً تخلوا عني وقاموا بفبركة تقييم كفاءة سلبي”. قاضت كارولين الأمم المتحدة: اعتبرت محكمة الاستئناف وهي الهيئة القضائية المختصة بإعادة النظر في أحكام محكمة النزاع الإداري التابعة للأمم المتحدة أن “قرار عدم تجديد عقد المشتكية ليس قانونياً” وأن ذلك يعتبر “عمل انتقامي”. استأنفت منظمة الأمم المتحدة قرار المحكمة. اليوم الموظفة السابقة تدخل السنة الثالثة عشرة من إجراءات التقاضي ما يجعل حالتها الأطول في تاريخ المنظمة.

“سنحت الفرصة لأنطونيو غوتيريس، الأمين العام للأمم المتحدة (منذ كانون الثاني 2017) أن يتدخل بصفته مفوضاً أعلى لحقوق الإنسان لكنه لم يفعل شيئاً. رغم أن الأحكام التي تصدر لصالح المشتكين هي نادرة مثل الزهور على جبال الجليد”، تتحسر كارولين. منذ 2011 أصبحت حالتها سابقة قانونية ولم يعد بالإمكان استئناف قرار مكتب الأخلاقيات الذي رفض أيضاً أن يقدم أي دعم. ستقف كارولين هانت-ماتاس مرة أخرى أمام محكمة النزاع الإداري في إطار جلسة استماع جديدة.

بعد أن يتم استبعادهم يجد مطلقو الإنذارات أنفسهم في وضعية حرجة. الأفعال التي قاموا بفضحها والتي يمكن أن تتعلق بحالات استغلال نفوذ أو عرقلة أو فساد كثيراً ما يتم تجاهلها.

“الاهتمام الاعلامي يركز على حالات الانتقام التي يتعرض لها مطلقو الإنذارات بدلاً من التركيز على قضايا الانتهاك الجنسي. وهذا هو الخطر” كما تقر كاثرين بولكوفاك الشرطية الأمريكية التي كشفت في 1999 وجود شبكة اتجار بالنساء في البوسنة يشرف عليها عناصر من الأمم المتحدة. “يتحول الأمر إلى ملهاة لكنه يساهم أيضاً في تشكيل الوعي بالقضية ويظهر منظومة الفساد الموجودة”. على كل مطلق إنذارات يظهر في الإعلام، كم هناك من واحد لا يجرؤون على الكلام أو تسحقهم الآلة؟ منذ التحذير وصولاً إلى الحكم هناك إجراءات مطوّلة ومرهقة في منطقة قانون ضبابية يصعب فهم قواعد لعبتها. هذه الاختلالات الوظيفية تمسّ حتى أعلى هرم المنظمة.

هل هو خطأ الدول المساهمة ؟

عبرت سوزانا مالكورا، مديرة مكتب بان كي-مون في برقية سرية استطعنا الحصول عليها عن قلقها من التحقيقات التي تجري “قبل حتى أن تعلم الدول الأعضاء ومن كون الاتهامات المماثلة لا يتم التبليغ عنها إلا بعد أن تنتهي منها مهمات حفظ السلام”. بعبارة أخرى أجرت الأمم المتحدة تحقيقات قبل إعلام الدولة المساهمة وهو ما يعتبر غير قانوني. الأخطر من هذا: بما أن التحقيقات الداخلية للأمم المتحدة يمكن أن تستمر عدة أشهر (16 شهراً في المتوسط) وبما أن الدول لا يتم إعلامها فهي لا تكون قادرة على تحييد المعتدين المحتملين. التعقيب الذي تحصلنا من طرف قسم عمليات حفظ السلام هو الآتي: “ضمن إجراءاتنا القياسية نقوم بتقييم قبل إبلاغ الدول الأعضاء وهو ما يجعل بعض الأشخاص يخلطون في بعض الأحيان بين هذا الإجراء والتحقيق الفعلي”.

هل اختارت المنظمة أن تتجاوز الحدود كي تحد من الضجة بأقصى ما يمكن أو لتجنب سحب القوات المتورطة إذا ما ثبتت الوقائع؟

هذا الاعتراف الجديد بعدم القدرة على احترام الإجراءات يتعارض مع حجة الدفاع الرئيسية التي تستعملها المنظمة. فهي تعتبر نفسها مقيدة الأيادي وكل ما يمكن أن تفعله مرتبط بإرادة الدول الأعضاء. يصر جاك كريستوفيدس، الموظف السامي في قسم عمليات حفظ السلام، على التبرير:

“حتى عندما نجد المتهم مذنباً فلا يمكننا أن نفعل شيئاً ذا قيمة لأنه تنقصنا الإمكانيات ضمن آلية العقاب”.

هل هو نقص في الإمكانيات أم نقص في الإرادة؟ “سياسة الواقع” ليست غائبة عن الأوساط الأممية بل بالعكس. مع التزايد المطرد لحاجاتها من الفرق العسكرية – تضاعف عدد الموظفين الميدانيين في مدة عشر سنوات – تحاول الأمم المتحدة الحفاظ على علاقات جيدة مع الدول المساهمة. مثال على ذلك ما حدث في هايتي في كانون الثاني 2012 عندما تم إيقاف جنود باكستانيين ينتمون إلى بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في هايتي (مينوستاه) على خلفية اغتصاب طفل معاق يبلغ عمره 13 سنة. رغبت السلطات الهايتية في رفع الحصانة عن الجنود المتهمين-و هو قرار لا يستطيع إصداره إلا الأمين العام للأمم المتحدة- وأن تحاكمهم في محكمة عسكرية محلية. لكن الطفل اختفى ثم وجد بعد فترة قصيرة. كشف لنا مصدر يحتل مكانة مرموقة في مكتب التحقيق الداخلي:

“نحن نعلم أن قائد مهمة حفظ السلام أعطى بنفسه أمر اختطاف الفتى.”

في إطار اجتماع حضره هرفي لادسوس الأمين العام المساعد المكلف بعمليات السلام، انفعل بان كي-مون ضارباً بيديه على الطاولة: “لا يكفي أن نحاسب فقط الجنود الذين اغتصبوا الولد. يجب أيضا معاقبة القائد الذي غضّ الطرف عن الأمر أو أراد حتى أن يعدم الأدلة ويتخلص من الضحية”. هذا الأمر يكشف وجود خلافات داخلية على مستوى إدارة القضايا. يؤكد لنا مصدرنا السري أن “هرفي لادسوس ناقش خلال لقاء على العشاء (في مساء اليوم نفسه) مسألة ترحيل القائد حتى لا تتم مسائلته”. ولكي يبرر الأمر، أجاب قائد مهام حفظ السلام قائلاً: “إنها السياسة”.

هل هي الصدفة؟ باكستان هي ثاني أكبر مزود لقوات الأمم المتحدة فهي تساهم بـ7000 جندي. لا يتذكر هرفي لادسوس أو زملائه هذا اللقاء. حتى وإن اعترف قسم الاتصال التابع لعمليات السلام بأن لادسوس سافر إلى هايتي في كانون الأول 2012 في إطار زيارة “تعرّف” فإنه ينفي وجود “عشاء من هذا النوع في برنامج عمله”. حسب المعلومات المتاحة، أقرت المحكمة العسكرية في آذار 2012 بثبوت التهمة على الباكستانيين. حكم على الجنديين المتورطين بسنة سجن لكل واحد منهما. أما القائد الذي أمر بالاختطاف ولكنه ينفي ذلك فلقد “منع من المشاركة في مهام السلام المستقبلية” حسب الأمم المتحدة.

النتيجة: يحصل المذنبون على عقوبات “رمزية” أو يفلتون من العقاب كما هو الأمر بالنسبة إلى أغلب القضايا التي لا تعرف أبداً طريقها إلى المحاكم.

إذن، تعوّل الأمم المتحدة رسمياً على الدول المساهمة كي تعاقب المعتدين. لأنه حتى وإن تم اجراء تحقيق فهذا لا يعني أن الأمور حُسمت. هل ستقرر مهمة حفظ السلام أن تُرحِّل المتورط وهل ستتم ملاحقته قضائياً في بلاده؟ وضع الجنود في قفص الاتهام ليس بالأمر الهين فالعراقيل عديدة: عدم وجود محققين دوليين، أدلة لا يعتد بها في المحاكم المحلية، الصعوبة البالغة في توكيل محام بالنسبة للضحايا.

الإفلات من العقاب ينطبق أيضاً على الموظفين المدنيين الذين يشاركون في مهمات السلام. حتى وإن كانت التغطية الإعلامية أضعف فهذا لا يعني أن الحالات نادرة. يؤكد التقرير التقييمي لمكتب التحقيق (2015) أن: “المدنيون يساهمون بشكل أقل في مجموع الاتهامات”. لماذا إذاً لا نسمع إلا عن الحالات التي يتورط فيها القبعات الزرق؟ يقدم كاميل فرضية: “هذه طريقة أخرى تعتمدها المنظمة للتنصل من مسؤوليتها فكأنها تقول: هؤلاء عسكريون ولا يمكن فعل شيء لهم، مسؤولية التحرّك تقع على عاتق الدول الأعضاء”.

أما جاك كريستوفيدس فهو يقر بالعجز دون أن يجيب عن السؤال: “إذا ما كنت قائداً عسكرياً فباستطاعتك أن تتخذ بعض الإجراءات لتحسين سلوك جنودك. لكن هل بإمكانك أن تغير تصرفات الموظفين المدنيين الدوليين؟ الأمر ليس سهلاً”.

لا، ليس الأمر سهلاً خصوصاً عندما نعلم أن شهادات المتابعة الفعلية للتكوين الإجباري ضد أشكال العنف الجنسي تمنح بعد حضور أربع حصص نظرية تدوم بضع ساعات. حسب تقرير المراجعة المتعلق بالمونسكو في سنة 2015: “لا يوجد أي أثر يثبت مشاركة 39361 (84 في المئة) من جملة 47214 موظف مدني وعسكري في دروس التكوين والتحسين” التي يؤمّنها مكتب الأخلاقيات. أسوأ من ذلك، بالنسبة للعسكريين “لم تدرب المونسكو 90 في المئة (من جملة 18000 عسكري) على التعامل مع الاعتداءات الجنسية زمن الحرب”.

ماذا يعني توزيع 1694694 واق ذكري على موظفي الأمم المتحدة ما بين 2012 و2013، علماً وأن هذا الرقم يخص جمهورية الكونغو الديمقراطية فقط؟

من المفترض أن تتم فلترة العسكريين المذنبين (بواسطة نظام تعقب السلوك السيء) وأن يتم استبعادهم آلياً من المهام المستقبلية. “لكن هل تعرفون عدد الأشخاص الذين يرسلون إلى الميدان؟ بكل بساطة، من المستحيل التثبت بناء على قاعدة فردية،” يقول جاك كريستوفيدس.

وهكذا نجد في صفوف قوات حفظ السلام “عددا معينا من قدماء المتمردين الذين تم إدماجهم في الجيوش المحلية (كما هو عليه الأمر في جمهورية الكونغو الديمقراطية) والذين اقترفوا فظاعات تقشعر لها الأبدان في بلدانهم، يستنكر تييري.

“هذه الظاهرة أقلية جداً. التركيز عليها يشبه النظر إلى فيل والاهتمام فقط بإصبع قدمه”. في آخر المقابلة يقول جاك كريستوفيدس وهو يبدو منزعجاً من أسئلتنا حول أعمال العنف الجنسي: “احكموا علينا حسب الطريقة التي نمنع بها الانتهاكات ونعاقب فاعليها”. سجلنا ذلك. إصرار الأمم المتحدة على الحفاظ على صورتها يضع الضحايا جانباً. وسط جهاز يشجع الإفلات من العقاب تضيع الضحايا ولا تعرف حقوقها. حتى “الصندوق الائتماني” الذي بعث في آذار 2016 بهدف تقديم المساعدات العاجلة لضحايا الاعتداءات الجنسية التي يرتكبها موظفون أمميون يبدو أنه مجرد وهم. “هو ليس صندوق تعويضات، يوضح سيلفان روي. لكن على الأقل ستحصل الضحايا على القليل من المساعدة والغذاء وملجأ وأشياء أخرى مشابهة (هكذا).”

في البهو الشاسع لمدخل مقر الأمم المتحدة تراقبنا صور الأمناء العامين (كلهم رجال). عند مرافقتنا إلى باب الخروج بقي الملحق الصحفي لقسم عمليات حفظ السلام يؤكد على تطور الأمم المتحدة في مجال الاتصال: “نحن نُعلِّق في العلن وبصفة استباقية على مسائل الاعتداءات الجنسية. الكثير من المعلومات التي لديكم، أنتم وسائل الإعلام معروفة لأننا نحن من قام بكشفها. وذلك للوصول إلى أفضل مستوى ثقة..”. بعد يوم تلقينا اتصالاً من زميله يطلب فيه منا أن نطلعه على الاقتباسات كي يقرأها ويوافق عليها قبل نشرها. ثم تلقينا رسائل الكترونية عدة بعد أن اتصل بنا قسم الإعلام ليطلب منا إعادة النظر في نشر المقابلات رغم أنه تمّت الموافقة عليها. ثم تلقينا مكالمة هاتفية جديدة ورسالة الكترونية أخرى. الأمر واضح: الشفافية في منظمة الأمم المتحدة لها حدود.

تنويه

Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipisicing elit, sed do eiusmod tempor incididunt ut labore et dolore magna aliqua. Ut enim ad minim veniam, quis nostrud exercitation ullamco laboris nisi ut aliquip ex ea commodo consequat. Duis aute irure dolor in reprehenderit in voluptate velit esse cillum dolore eu fugiat nulla pariatur.

بمشاركة

موقع انكيفادا هو شريك في مشروع التحقيق الدولي "صفر افلات من العقاب" ZERO IMPUNITY. هذا المشروع المنشور على وسائط متعددة وفق إستراتيجية "ترانسميديا" يوثّق ويكشف سياسة الافلات من العقاب التي توفّر الحماية لمرتكبي العنف الجنسي خلال النزاعات المسلّحة.

بالشراكة مع مُجمّع (كونسورسيوم) يضمّ عددا من المؤسسات الصحفية الدولية، ينشر موقع انكيفادا مجموعة من التحقيقات الكبرى والحصرية التي تكشف آليات الافلات من العقاب صلب المؤسسات العمومية والمنظمات الدولية وكذلك صلب المؤسسات العسكرية. مشروع "صفر إفلات من العقاب" هو في الآن ذاته عمل استقصائي آخذ في التمدد والتوسّع بفضل مبادرات مُواطنية فاعلة. تأسّس المشروع على أيدي نيكولا بلي و ستيفان هوبر-بلي و ماريون غوث. مزيدٌ من التفاصيل حول المشروع في الرابط التالي.