وجهاً لوجه أمام الصبية، تجهد الأم لتمييز الملامح التي كانت تحفظها عن ظهر قلب. تقترب منها. لا تتعرف عليها نورا، التي ما تزال في حالة صدمة، رغم أنه لم يمرّ على آخر لقاء بينهما أكثر من شهر ونصف. خمسة وأربعين يوماً، كأنها عصور مرت منذ تلك الليلة في 3 أيار 2011.
نحن الآن في أولى ساعات الربيع السوري، حيث النظام يسحق الاحتجاجات، التي ما زالت تنتشر على طول البلاد؛ في درعا، بؤرة الانتفاضة الشعبية، والمنطقة التي ستتعرض لاحقاً لموجات تنكيل أكثر دمويةً مما تشهده الآن.
أوائل أيار 2011، يطوّق الشبيحة والعسكر البلدة، بينما تحلق الهليكوبترات فوق الأحياء، ويفتّش الجنود البيوت لإخراج «الإرهابيين» من مخابئهم. كان كريم، زوج فاطمة، أحد هؤلاء «الإرهابيين»، وكانت تهمته مساعدة جرحى أصيبوا بالرصاص الحي خلال المظاهرات. كريم ليس في بيته هذا المساء، لذا يستدعي العساكر زوجته كي تتصل به. تكرّر فاطمة على مسامعهم أنهما «تقريباً مطلّقان»، لكنهم لا يريدون أن يسمعوا.
يحدّق أحد الضباط بالطفلين اللذين في الغرفة. تشعر فاطمة بالذعر، ولكي تحمي نورا وشقيقها البالغ خمس سنوات تنكر أنها أمّ لهما. غير أن الطفلة المرعوبة تصرخ: «أمي!». يعلن الضابط:
«سنأخذ ابنتك رهينة إلى أن يستسلم زوجك» .
ثم يمسك بنورا ويتجه نحو قاعدة عسكرية في درعا (لا يمكننا تحديدها لأسباب أمنية). مساء ذلك اليوم، سيحضر والد نورا إلى جهاز المخابرات العسكرية لتسليم نفسه، لكن ابنته ستبقى حبيسة لديهم 45 يوماً، وهو لن يعود أبداً.
فاطمة هي التي تروي قصة ابنتها في صباح هذا اليوم من أيلول 2016. غادرت العائلة سوريا منذ حوالي أربع سنوات، وانتقلت إلى بناء في حي فقير في العاصمة الأردنية عمّان. أما نورا فقد أصبحت مراهقة واعية عمرها 16 سنة، وعبثاً تحاول العباءة الأرجوانية ذات الزهور البيضاء أن تستر هشاشة الجسد الذي تحتها. تتحدث فاطمة بصوت منخفض، دون أن تكتم عزمها على تقديم شهادتها. كثيراً ما يختار الآباء والأمهات كبت العنف التي يعاني منه أطفالهم، بهدف حمايتهم من عزلة اجتماعية محتملة، غير أن الأم الصلبة قررت التبليغ عن «ما فعله بنا بشار الأسد».
تلتفت ببطء وتخرج علبة دواء من محفظة رثّة: «نورا تتناول حبوباً مهدئة»، تشرح بلطف. «لا أستطيع أن أروي قصتها أمامها، وإلا…» وإلا قد تؤذي نفسها، فقد حاولت عدة مرات أن تضع حداً لحياتها. بهدوء، تروي الأم القصة التي أخبرتها بها ابنتها في نهاية المطاف.
حين تصل نورا إلى القاعدة العسكرية، تكتشف أنها ليست الطفلة الوحيدة. ثمة أكثر من 45 أخريات يتقاسمن زنزانتها، كثيرات منهنّ قاصرات. منذ صباح اليوم الأول، يتم توزيع حبوب منع حمل على جميع السجينات. تعطى الصغيرات حقناً أيضاً. تتناسى نورا الموضوع، وتقضي تسعة وثلاثين يوماً بين أيدي السجانين. في اليوم الأربعين، يُطلب من الأطفال أن «يقفوا باستعداد»، فتعتقد الصغيرة أنه حان وقت إطلاق سراحهنّ.
يتم اقتياد نورا خارج زنزانتها. يخلع الجنود ملابسها ويدخلونها في غرفة. كان هناك «رجل أشيب»، رئيس القاعدة العسكرية، ينتظرها عارياً. كانت القصة ثقيلة على فاطمة.
«قالت لي : أخذني. اغتصبني. نام معي… هي صرخت، حاولت الفرار، عاركت من أجل أن يسمحوا لها بالخروج».
بعد ذلك حدث أمر محيّر: «قدّم لها حبة صفراء صغيرة، وأعطاها حقنة في يدها اليمنى. ثم ضربها بشدّة إلى أن شعرت بالدوار». تستيقظ الطفلة صباح اليوم التالي في غرفة التحقيق، الدم يغمرها وعدة ضباط يطوقونها. لمَ هذا الدم، ما الذي حدث؟ لا تعرف نورا ما فعله هؤلاء الرجال لها. «تتذكر أنها رأت الرجل الذي اغتصبها»، تؤكد أمها، «لكن لم يكن لديها أدنى فكرة عن الباقين».
بعد الاعتداء الذي تعرضت له منتصف حزيران 2011، ينشقّ جنود من القاعدة العسكرية، وأثناء فرارهم يساعدون الأطفال على الفرار. تعثر فاطمة على ابنتها هائمة في الشوارع. تأخذها إلى الطبيبة، التي تبلغها أن نورا لم تتعرض فقط للاغتصاب، بل لديها أيضاً «مشكلات كبيرة في المهبل»، ما يتطلب عملية جراحية.
أكثر من ذلك، أظهرت الفحوص الطبية أنه تم حقن الفتاة بهرمونات. تقول أنييس أفنايم، الطبيبة العامة في مركز بريمو ليفي والمتخصصة برعاية ضحايا التعذيب والتعنيف، أنها لا تعرف عدد الجرعات ولا الموادّ المحقونة، لكن ربما تكون هذه الحقنات قد تسببت بتأثيرات في جسد المراهقة على مدى شهر ونصف. لكن لماذا؟ بالتأكيد لكي يخسر جسدها آخر ما تبقى من الطفولة، قبل تحويله إلى مرعى ينهشه الضباط. لن يكون لدى فاطمة سوى ما أخبرتها به طبيبتها، أما ابنتها فترفض التحدث في الموضوع.
كان على فاطمة أن تنتظر حتى كانون الثاني عام 2013، أي بعد سنة ونصف من الاعتداء، كي تتكلم ابنتها.
«عندما هربنا إلى الأردن، بدأت تبكي. ظننتُ أنها كانت حزينة لمغادرة سوريا. لكنها أجابت: ’لا أنا مبسوطة أني طالعة من هالمكان‘. سألتُها عن السبب ثم قالت لي كل شيء» ، تزفر فاطمة.
بعد خمس سنوات من الأحداث، ما تزال الأسرة في حالة رعب، وما تزال نورا عاجزة عن تحمل أي وجود للذكور حولها. هناك من يتابع أحوالها هي مع أخيها الصغير في مركز للأيتام في الأردن. إحدى منسّقات المركز، لبنى، تعهّدت بالعناية بها منذ عام: «حين تعرفتُ على نورا كانت تتصرف وكأنها امرأة، لا طفلة»، تتذكر لبنى. «كانت تقول ’أنا بعرف كلشي بيصير بين الرجال والنسوان‘ وكانت تعرفُ فعلاً. لكن من أين لها هذا الإدراك؟». كشفت نورا المزيد من التفاصيل للمقربين منها:
«قال لها مدير السجن انّها جميلة وفاتنة، وجعلها تشاهد امرأة تتعرض للتعذيب: ’إذا بدك ما تتعذبي هيك تعالي معي‘. لم تفهم ماذا يعني ذلك، فقد كان عمرها 11 سنة. كانت طفلة»
تم تخدير الطفلة، واغتصابها، وتشويهها. كغيرها من القاصرات، تم استهداف نورا بالخطف لأنها كانت ابنة «إرهابي» حسب تصنيفات النظام.
من بين المحرّمات المطلقة، إن وجدت، يبقى التعنيف الجنسي بحق الأطفال صعب القياس. الاغتصاب والتهديد والإيهام، التشويه، صعق الأعضاء التناسلية… خلال ما يقارب ست سنوات من الحرب السورية، ما تزال الجرائم المدرجة لدى مجلس الأمن بين «الانتهاكات الستة الخطيرة» بعيدة عن أي تقديرات. التوثيق نادر جداً، ويأتي غالباً ضمن تقارير عامة، دون تكريس أي تحقيق جدّي في هذه القضية.
«هناك أدلة على بنات وصبيان لا تتجاوز أعمارهم 12 عاماً يتعرضون للعنف الجنسي، بما في ذلك التعذيب الفيزيائي للأعضاء التناسلية والاغتصاب»، حسب دراسة صدرت عام 2013 لمنظمة «أنقذوا الأطفال»، واحدة من كبرى المنظمات الدولية، جاءت بعنوان طفولة تحت النار2. تتطرق هيومن رايتس ووتش أيضاً إلى هذا الموضوع في نشرتين أكثر عمومية، واحدة عن احتجاز الأطفال3 والأخرى عن الاعتداء الجنسي في السجون4. كذلك لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة (OHCHR)، التي تقوم بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، تكرس بضع فقرات للموضوع في عدة تقارير لها.
في نشرة للأمانة العامة للأمم المتحدة عام 2014 حول «الأطفال والصراع المسلح في سوريا»، يؤكد المحققون أن «الأمم المتحدة جمعت أدلة على ممارسة عنف جنسي بحق الأطفال المحتجزين لدى القوات الحكومية في المعتقلات الرسمية والسرية» 5. لا يتردد محققو الأمم المتحدة في القول إن «هدف هذا العنف [ضد الأطفال] إما الإذلال أو الأذى أو الحصول على اعترافات بالقوة أو الضغط على أحد الوالدين لتسليم نفسه».
هكذا أصبح اغتصاب الأطفال في سوريا –ذكوراً وإناثاً– «سلاحاً» في أيدي آلة القمع التابعة للنظام، وقد تم استخدام هذا السلاح أول مرة ضد صبي سوري.
كان ذلك في 29 نيسان 2011، بينما كان الغضب يعمّ البلاد، حيث تم اعتقال حمزة الخطيب (13 سنة) على هامش إحدى المظاهرات6. سيموت الطفل في المعتقل. لكن النظام، وكرسالة إلى الثوار في درعا، أعاد رفاته إلى والديه بعد شهر واحد. كانت جثة الصغير مليئة بعلامات التعذيب، وعضوه التناسلي مبتور. التحذير الدنيء هذا انقلب على أصحابه، واشتعلت البلاد من جديد.
كل ذلك التعنيف ممنهج. لكي نفهم إلى أي درجة هو كذلك، علينا الذهاب عبر الحدود السورية إلى أنطاكية، أقصى الجنوب التركي، حيث يقيم عدد من الأعضاء السابقين في تلك الآلة القمعية. بين هؤلاء المدير السابق لسجن حلب المركزي، بسام علولو (54 عاماً)، والذي وافق في صباح ذلك اليوم من تشرين الأول 2016، لأول مرة، أن يروي للصحفيين بعض ما كان يحدث داخل سجنـ«ـه».
يعيش هذا العميد مع عائلته منذ 2012 في معسكر أبايدين التركي، وهو مخصّص لإقامة خمسة آلاف ضابط منشقّ عن الجيش السوري مع عائلاتهم. المكان مغلق، وظروف الحياة فيه أقل قسوة من المخيمات الأردنية واليونانية، حيث يتكدّس عشرات آلاف اللاجئين الذين لا ألقاب لهم ولا ميداليات. بعد ثلاثين سنة من خدمة نظام الأسد، أولاً كمدير لكلية الشرطة، ثم لسجنَيّ درعا وحلب، فرّ الجنرال القوي في نهاية المطاف. كان ذلك يوم 18 تموز 2012، اليوم الذي بقي محفوراً في ذاكرته.
كان سجن حلب المركزي، الذي يفترض أن يكون أقل قمعاً من مراكز المخابرات وغيرها من الأفرع العسكرية، يمتلئ بأقصى سرعة منذ ساعات الثورة الأولى. كانت سعته 4.500 سجين، لكنه يحوي حالياً من «المسجّلين» 7.500، وبعض المعتقلين «الذين لا أحد يسأل عنهم» ليس لهم سجلّات رسمية. المسؤول العجوز الذي طالما كان مخلصاً لآلة القمع الأسدية صار يخاف من… الإرادة الإلهية: «كنت أقول لنفسي أن عليَّ فقط تطبيق القانون، لأنني حين أموت سيعاقبني الله».
اليوم حصل بسام علولو على إذن بمغادرة المعسكر نحو أنطاكية، التي تبعد عنه نحو ساعة. لا يتحرك الرجل دون حرس لصيق يحيط به، وحدة عسكرية تابعة للقوات الخاصة التركية مسؤولة عن أمنه. العميد السابق، الذي يمسك مسبحته بتوتّر، يشرح القصة بدقة العسكري المعتاد على كتابة التقارير:
«عندما غادرت، كان هناك 1.000 شخص قاصر في السجن المركزي في حلب. أغلبهم كانوا مجرمين حقيقيين، أما الآخرون فبقوا محتجزين بهدف الضغط على آبائهم. على حد علمي، أصغرهم كان عمره 13 عاماً».
منذ ربيع 2011، حسبما يقول، كانت الأوامر القادمة من دمشق فيما يتعلق بالأطفال المحتجزين واضحة: «اللجنة في دمشق [أي الهيئة المؤلفة من كبار قادة أفرع الأمن] أمرتنا بعدم التفريق بين البالغين والقصر. قالوا لنا ’بما أنهم كانوا يتظاهرون مع البالغين، ينبغي أن نعاملهم مثلهم‘». ما من زنزانة مخصصة للقاصرين، لذا يتم حبسهم مع بالغين هم غالباً سجناء القانون العام. لهذا الإجراء آثار مدمرة:
«بدأ السجناء كبار السن يستغلونهم، يجبرونهم على القيام بالأعباء اليومية على غرار التوضيب والتنظيف… ويغتصبونهم» .
أيضاً يعترف بسام في النهاية أن السجن الذي كان مسؤولاً عنه يحوي زنزانة خاصة فيها ثلاثون امرأة وفتاة قاصر، معظمهن من عائلات معارضين، وبينهن من هو «تحت 13 سنة». «في بعض الأحيان، تكون الأوامر حرفية: ’اشحطوه من بيته‘. إذا لم يكن المطلوب هناك، يمكننا أخذ أي أحد، زوجته، بناته… نحتفظ بهن إلى أن يسلّم هو نفسه». هذا ما حدث لنورا، البنت الدرعاوية.
سرعان ما يصل صدق توبة مدير السجن السابق إلى حدوده. وفقاً لناشط إعلامي من حلب، كان بسام علولو معروفاً هو نفسه بالعنف بحق السجينات والمعتقلات. يعترف بذلك مساعد سابق له في السجن، وهو عقيد منشقّ أيضاً تمكنّا من الوصول إليه: «كان كثيراً ما يستغلّ المحكومات جنائيا والمعتقلات اللواتي يطلبن منه معروفاً لأزواجهن»، يؤكد العقيد. ما من براهين على هذه المعلومة سوى ضجيجها المتكرر، لكنها إذا ثبتت فقد تقوده إلى حيث تلاحقه العدالة الدولية.
كذلك عبد الرحيم مخباط (46 سنة) يمكن مساءلته يوماً ما. هذا الملازم في المخابرات العسكرية الذي يقيم هناك، مهما زعم أنه كان يكتفي بالطاعة، وأنه كان «صاحب ضمير»، وأنه «لم يؤذِ أحداً خلال 29 عاماً من الخدمة»، يبقى من الصعب تصديقه. قبل انشقاقه، كان صف الضابط يشتغل في المخابرات، بالتزامن مع خدمة مدير سجن حلب المذكور.
كان عبد الرحيم من عناصر المخابرات العسكرية فرع 290، وهو مسلخة حقيقة، حيث «كان التعذيب اعتياداً مثل شرب الشاي». الأطفال أيضاً؟ «الكلمة المفتاحية هي: ’أنت لا قيمة لك‘»، يجيب المنشق قبل خمس سنوات باختصار.
وفقاً لعنصر المخابرات، كانت إزالة التمييز بين البالغين والقصّر في بداية الثورة استراتيجية واضحة وضعها النظام نصب عينيه: «القول إنه لا فرق بعد اليوم بين الرجال والنساء والأطفال، وهي وسيلة لترويع السكان أكثر كي يتوقفوا عن التظاهر».
وهكذا، في سجن عبد الرحيم مخباط كما في سجن بسام علولو، كان يتم احتجاز المراهقين الذين تجاوزوا 13 عاماً مع البالغين. أيضاً وأيضاً: «كانت هناك حالات اغتصاب كثيرة في هذه الزنازين»، يخبرنا المجنّد السابق، «الكثير… كل يوم…». ألم تكن القيادة في دمشق تعلم أن الخلط بين البالغين والقصّر سيتسبب بمثل هذه التجاوزات؟ هل كانت تقوم به عن قصد؟ «نعم»، يرد بحسم، «جاء هذا الإجراء مع قانون مكافحة الإرهاب [الذي دخل حيز التنفيذ بعد مرسوم رئاسي صادق عليه مجلس الشعب يوم 28 تموز 2017»] 7. بعد التواصل عدة مرات مع البعثة الدائمة لسوريا في الأمم المتحدة من أجل إجراء مقابلة، لم نحصل على أي رد.
ليس احتجاز الأطفال جديداً في سوريا. بل كان ممارسة «اعتيادية منذ فترة طويلة»8 كما يقول فلاديمير غلاسمان، آخر مستشار سياسي فرنسي في البلاد9 (متوفى الآن) وصاحب مدونة عين على سوريا على موقعه في اللوموند. حسب غلاسمان، كان هناك 600 طفل معتقل سياسي بين 1980 و198310. ذنبهم؟ وجود فرد من عائلتهم في صفوف جماعة الإخوان المسلمين، العدو اللدود لدمشق في تلك الفترة. «كل المشتبه بهم بالضلوع في هذه المنظمة تم سحقهم»، سواءً جسدياً أو نفسياً، كما يشير الصحفي كريستيان شينو، المؤلف المشارك في كتاب الطريق إلى دمشق.
ليست مراكز الاعتقال الحقل الوحيد لاغتصاب الأطفال السوريين. على الجانب الآخر من القضبان، على نقاط التفتيش، أثناء المداهمات، في المنازل نفسها، كثيراً ما كان الصبيان والبنات يتحولون إلى ألعوبة بأيدي عملاء النظام. كان عبد الرحيم، عنصر المخابرات في حلب، جزءاً من وحدة مسؤولة عن اعتقال ومداهمة الأحياء المشتبه في دعمها للثوار:
«في بداية الثورة، وجه رئيس شعبة المخابرات العسكرية عبد الفتاح الحمصي أوامر لشعبتنا. ومنذ ذلك الحين أصبحت أيدينا طليقة. قبل ذلك كان هناك من يراقبنا، لكن مع الثورة انتهى ذلك، لم يعد لحريتنا حدود». وفقاً للعنصر، حين كان عليه الذهاب للبحث عن شخص مطلوب «كانت تأتي الأوامر بشكل مكتوب أو شفهي». ومع ذلك، «عندما يتعلق الأمر بالمعارضين السياسيين الذين يخرجون في المظاهرات» كان لدى عناصر المخابرات الصلاحية «للقبض على العائلة، الزوجة والأطفال، في حال عدم العثور على المطلوبين».
لتوضيح ذلك، يذكر واحدة من عملياته في بيت في حي السكري في حلب: «لم يكن الرجل هناك، فعاد زملائي إلى منزله، هدّدوا زوجته وأخذوا ثلاثة من بناته اللواتي كنّ في عمر المدرسة الابتدائية». عبد الرحيم، رغم أنه «كان يكتفي بالمشاهدة»، رمى البنات في سيارة واقتادهن إلى الجناح العسكري، ليتم أخذهن إلى غرفة التحقيق بعد ذلك. لا أحد يعرف ماذا حدث لبنات السكري الثلاثة.
في المعسكر الآخر، يعمل العقيد خالد في صفوف «الجيش السوري الحر» في درعا، وقد انشق أوائل 2012 وانضم إلى المعارضة. في صيف عام 2014 ولمدة عام كامل، بدأ يراقب هو ورجاله اتصالات القوى النظامية عبر الأجهزة اللاسلكية.
«سمعنا المخابرات توجه الأوامر للشبيحة: ’كلشي بتلاقوه خذوه، اعملوا يلي بدكم ياه‘، بما في ذلك الاغتصاب. كانوا يعرفون أننا نتنصّت عليهم، وكانوا فخورين إلى حد ما، يتحدثون عن اغتصاب النساء وما إلى ذلك بهدف النيل من روحنا المعنوية».
حسب العقيد المنشق، الرجل الذي كان يقدم التوجيهات هو لؤي العلي، رئيس المخابرات العسكرية في درعا. «كل شيء في المنطقة تحت يده. كانت تلك استراتيجيته هو، أن يفعل الشبيحة ما يريدون. هؤلاء هم الذين يغتصبون النساء والأطفال»، يصرّ العقيد السابق. الأطفال سلاح لترويع الثورة، فهم أهدافٌ بمتناول اليد. وأحياناً يتعرض مراهقون للاعتداء ببساطة حين يتواجدون في المكان والزمان الخطأ.
يهبط الليل على عمّان ويرخي طمأنينة منعشة. عبد الحميد كيوان، ذو القميص الأبيض واللحية التي يعلوها الشيب، يصبّ لنا الشاي في غرفة الجلوس، في انتظار صديقه بسام الشريف. التقى الوالدان السوريان في السجن، ويعيشان اليوم في الحي نفسه في العاصمة الأردنية.
«في السجن نسمع قصصاً كثيرة عن أطفال مغتصبين»، يقول بسام الشريف، ذو البشرة المصفرّة بعد السنوات التي قضاها في السجون. اعتقلته المخابرات الجوية في آب 2011، وقال إنه تعرف على مراهقَين اثنين عمرهما ستة عشر عاماً، مراد ونور الدين11 اللذين كانا في «المكان الخطأ» في أحد أحياء الضاحية الدمشقية داريا.
«صبيان جميلان، ما شاء الله!»، يبتسم. الأول أقحموا زجاجة بيبسي في الـ… وفي الآخر شيئاً يشبه عصا خشبية». كيف له أن يتأكد إلى هذه الدرجة؟ «حين عادا إلى الزنزانة لم يتمكّنا من الجلوس. كان لنا أن نخمّن. ثم هما حدّثانا بدون خجل. بالنسبة لهما لم يكن ذلك اعتداء جنسياً، بل تعذيباً كلاسيكياً، حيث استخدم المحققون أدوات تعذيب».
على حافة أريكته، يحلل عبد الحميد كيوان: «هذا أمر ممنهج هدفه كسر المجتمع. حين نكون بين معتقلين سابقين، أكثر ما نتطرق إليه هو الاغتصاب. قبل الثورة كان التعذيب مألوفاً بالنسبة لنا، أما هذا فلا». يشرح بسام شريف:
«بدأ العنف الجنسي عندما بدأ تسلّح الثورة. لترويع الناس. عندما وصلت القصص من السجن، كان كل السوريين يخشون اغتصاب أطفالهم».
بعد ما يقرب من ست سنوات منذ بدء الصراع، لم تتوقف سياسة إطلاق يد الجلادين عن تحطيم الأطفال السوريين بصمت ومن دون عقاب12. منذ أول نفس تنفسته الانتفاضة، مع تعذيب حمزة الخطيب، سعى النظام في دمشق لسحق هذا الجيل. تذكر الناشطة سما نصار أن الحكومة قامت في 2012 بتركيب كاميرات في فرع فلسطين، بعد وصول شكوى من «شخص رفيع المستوى». «لكن هذا لم يوقف عمليات الاغتصاب. المغتصبون فقط أصبحوا يتجنبون العملية في أمام الكاميرا».
يتمثل الإفلات من العقاب في أن اللاجئين السوريين يذكرون الخوف من الاغتصاب كـ «أحد أهم الأسباب التي دفعتهم إلى مغادرة سوريا»13. «اغتصاب الأطفال؟ هذا يسبب الفوضى»، يلخص المسألة عمر غيريرو، المتخصص في علم النفس السريري في مركز بريمو ليفي، وهو مركز متخصص بمعالجة ضحايا التعذيب والعنف السياسي: «هذا قبل أن نفكر بما سيحل في سوريا فيما بعد. لكن قبل ذاك: على أي شيء سنبني المجتمع؟ ما مكان الأطفال الذين تم الاعتداء عليهم؟ كيف سيتعرف واحدهم على نفسه كرجل أو كامرأة؟ هل سيستعيدون كرامتهم في يوم من الأيام؟».
هل سيتمكن النظام، بوصفه قوة قصف وتعذيب واغتصاب، من سحق الجيل القادم؟ «الأطفال مرنون»، تجيب ناشطة إنسانية تعمل مع الأطفال في مناطق النزاع. نعتقد أحياناً أن تأثير هذه الأفعال سيدمّر حياتهم، لكن غالباً ما يجد الأطفال مخرجاً. تبقى الشابة متفائلة: «هم أقوى مما نعتقد».
ليس النظام وحده من يغتصب
لا يحتكر نظام دمشق العنف الجنسي. الرعب الذي نقلته اليزيديات الأسيرات لدى تنظيم «الدولة الإسلامية» صدمَ العالم. كما أن الأدلة التي جمعتها في 2013 اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في الجمهورية العربية السورية التابعة للأمم المتحدة «تشير إلى أن العنف الجنسي أصبح روتينياً في عمليات قوى الأمن»14، كما تمارسه أيضاً قوات المعارضة المسلحة. يقول البعض إنه تم تزويج بعض ضحايا العنف الجنسي الفتيات والنساء من مقاتلي «الجيش السوري الحر» بعد اغتصابهن «بهدف وضع حد لأزمة العنف الجنسي»15. ومع ذلك، وباستثناء الحالة الخاصة التي تمثلها «الدولة الإسلامية»، تقول اللجنة إن «الانتهاكات والتجاوزات التي ارتكبتها جماعات المعارضة المسلحة لم تصل إلى كثافة وحجم تلك التي ارتكبتها القوات النظامية والميليشيات التابعة لها»16.