عزيز، طبيب مقيم في السنة الثامنة، 27 سنة، أصيل ولاية مدنين، أين تلقى كل تعليمه لينتقل بعد باكلوريا كللت بنجاح بامتياز، ليدرس الطب في تونس دون أن تكون له أدنى دراية بظروف الدراسة والتربصات وكمها وطول سنواتها، الأمر الوحيد الذي كان يعرفه عن الطب في سنه ذاك كان عمه الطبيب.
ينحدر عزيز من عائلة يمكن تصنيفها ضمن الطبقة الوسطى الميسورة، "لم تشعره بالحاجة أو الخصاصة يوما" ومازالت تسانده حد اليوم بتوفيرها لمسكن لائق وتحويلات أضافها على مدخراته ليشتري سيارة، اعتبرها الطبيب الشاب، استثمارا أساسيا لتسهيل تنقلاته بين المشافي وبذلك فإنه يعتبر دعم عائلته محوري ولولاه لكانت وضعيته المادية أضعف، لا توفر له إلا الأساسيات.
خلال سنوات دراسته الثانوية لم يفكر عزيز يوما في ما ينتظره بعد شهادة ختم الدروس، خاصة أنه لم يكن من التلاميذ المتفوقين قبل الباكلوريا ولم يكن يتوقع يوما أن يختار الطب مصيرا لحياته المهنية "وهو مصير لا يمكن العودة عنه إذا انتقلت إلى السنة الثانية كبقية الاختصاصات الجامعية" حسب قوله، ما مثل لديه حتمية لعبت دورا كبيرا في نفسيته خلال سنواته الأولى فبالإضافة إلى كم الدروس وساعات العمل المضنية وساعات النوم الضائعة لم يكن سهلا على الطبيب الشاب أن يدرك أن ليس له ممكنات أخرى في حال لم يتمكن من تخطي صعوبات مجاله.
يعتبر الشاب نفسه اليوم محظوظا، فبعد سنوات كد وجد اختلطت فيها ذكرياته عنها بفترات قلق حاد وصداقات خففت من وحدته ووسعت من مجال تفكيره، أنهى سنواته الخمس الأولى بنجاح واختار تخصصا رغب فيه، لكن الضغوطات لم تنته بالنسبة له داخل أسوار الكلية، فالجانب المادي يحضر أيضا كعامل ضاغط وعلاوة عن طول سنوات الدراسة والممارسة قبل التحصل على الشهادة يعتبر عزيز أن المدخول الشهري للطبيب المقيم غير كاف ولا يتماشى مع مقدار الإرهاق الذي تتطلبه المهنة في واقع اقتصادي أثقل فيه التضخم كاهل المواطنين.ات جميعا حتى من تعتبر مداخيلهم جيدة نسبيا.
فيما يلي لمحة عامة حول مداخيله ومصاريفه الشهرية:
أكثر ما يزن على محفظة عزيز هو البنزين، رغم محاولاته الاقتصاد في الاستهلاك واستبدال السيارة بالسير على الأقدام حينما تتسنى له الفرصة، كما يحاول قدر المستطاع الاقتصاد في البقالة وعدم التبذير في اقتناء الأكلات السريعة التي ارتفعت أسعارها بشكل جنوني في السنتين الأخيرتين، لكنه لا يبخل على نفسه وقت الترفيه فلا يحرم نفسه من السهر مع اصدقائه بمعدل مرة في الأسبوع، كما أنه لا يفوت فرصة الذهاب في رحلات خارج العاصمة ليقضي على الأقل، عطلة آخر أسبوع واحدة في الشهر في دار ضيافة من التي أصبحت وجهة الكثير من التونسيين.ات خلال العطل. تمثل السهرات والرحلات بالنسبة له متنفسا ضروريا لا يمكنه التفريط فيه رغم تكلفتها المرتفعة مقارنة بدخله.
دَخْلُ الطبيب المقيم والذي لو لم يتوفر بيت لعائلته في العاصمة تونس ليأويه، كان ليحرمه من الترفيه وليكفيه فقط لدفع معاليم الكراء والتنقل والبقالة، ما يعني حياة رتيبة روتينية لا يرغب عزيز في الانغماس فيها فاليومي المتكون فقط من أكل ونوم وعمل ما هو إلا "اغتراب مقيت لا يرتقي إلى حياة بشرية كريمة" على حسب اعتقاده.
عزيز غير راض عن ما يوفره من دخله معتبرا أن المهن الحرة والتي لا تتطلب مشقة سنوات دراسة منهكة، وسنوات ممارسة يمكن أن تتجاوز فيها ساعات العمل في الأسبوع 48 ساعة مدرة لمداخيل أكبر وتتأقلم مع التضخم، خلافا للوظيفة العمومية التي لا تأخذ الأخير بعين الاعتبار.
"من غير المعقول أن لا تعطي الدولة أدمغتها دخلا كريما يقيهم·ن من ضغط إضافي عن ضغط محاربة الأمراض والعلل في مشاف يشعر فيها الطبيب اليوم بالعجز أمام نقص المعدات وغياب بعض الأدوية، كل هذه العوامل لا تساهم إلا في تحفيز الأطباء على الهجرة ما يفسر نقص الطواقم في المشافي وما يزيد من تدهور الصحة العمومية في تونس" يقول الطبيب.
فيما يلي تفصيل مداخيله ومصاريفه الشهرية:
المنطقة الرمادية
لا يخفي عزيز خوفه من السنوات المقبلة قبل حصوله على الشهادة، وهو يخشى مزيد ارتفاع الأسعار وتدهور قدرته الشرائية أمام ركود نسبي في مداخيل موظفي الصحة العمومية، فحتى الزيادة في الراتب التي تصرف بحلول سنته التاسعة لن تساهم إلا في تقليص أضرار التضخم، ما يحرمه من استغلالها في الترفيه أو في ادخار ما يضمن له تلبية احتياجاته وخلاص فواتيره سنة انتهاء التخصص متى ينقطع الراتب لمدة 8 أشهر يجري خلالها الطبيب الشاب امتحان ختم التخصص قبل أن ينقل إلى العمل في المناطق ذات الأولوية، ولاية جندوبة في حالته.
المستقبل
بالنسبة للمستقبل، لا ينوي عزيز الهجرة ومزاولة الطب في الخارج، ورغم ما يعدده من عوامل ضاغطة تمس من صحته النفسية ومن شعوره بالاستقرار، فهي بالنسبة له عوامل مرحلية نهايتها مرتقبة ومعلومة ذلك أنه يرى المستقبل وافرا بالفرص التشغيلية المضمونة في مجاله والتي لا تخضع لمنطق العرض والطلب. وتضاهي لديه 14 سنة مثابرة بين دراسة وممارسة للطب قبل الحصول على الشهادة، الاستثمار المثمر الذي لا يمكن أن تمسه أزمة البطالة ولا متطلبات السوق. ما سيمكنه لاحقا من حياة كريمة يسودها الاستقرار والرفاهية توفر له متسعا أكبر للترفيه وتبعده عن السيناريو الذي يخشاه كثيرا وهو أن تختزل حياته في النوم والأكل والعمل.